من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
ژانرها
وطال انتظاري حتى أوشك أن ينفد صبري، والمرء على أي حال لا يطيق مهما بلغ من حلمه ألا يأبه به الناس في غير داع إلى ذلك ... على أني عدت فتلطفت، وإن كرهت من نفسي هذا التلطف الذي أخذ يسمج كسماجة ذلك الذي لا يريد أن يلتفت إلي، وناديته باسمه في صوت مسموع، ونفسي تحدثني أنه قد يكون بانكبابه هذا على العمل من ذوي النشاط فعسى أن أفيد من نشاطه في إنجاز ما جئت له.
وأخيرا بدا له أن يستجيب إلي؛ فقال في كثير من التؤدة وعدم المبالاة: «نعم يا أفندي.» فأخذت أشرح له أمري، ولكنه ظهر كمن لا يعي مما أقول حرفا وبدا في وجهه التململ والامتعاض ثم مد يده إلى أوراق كنت أعددتها في يدي، فنظر فيها نظرة ثم قال: «لا، دا هناك في المستخدمين عند عزت أفندي.» وعاد بعدها قبل أن أدير ظهري إلى ما كان فيه من جسيمات المشاكل، كان الله في عونه.
وانطلقت أبحث في «المستخدمين» عن عزت أفندي هذا لأخبره بما قال حسني أفندي الذي في «الشطب»، فكان حالي معه كما كان من سلفه: تشاغل عني وصلف في الرد علي، وما كان جوابه سوى أن قال هو أيضا: «يا فندم موضوعك ده في الحسابات عند مراد أفندي.» وخرجت من لدنه أسأل نفسي أأخرج من الديوان إلى غير عودة، فقد آلمني ما ألاقيه وليس في مسلكي ولا في مظهري ما يستأهل هذه المعاملة، أم أعتصم بالصبر فأحظى بالمثول بين يدي مراد أفندي أيضا؟ وملت بعد تردد إلى الرأي الثاني، ولكن مراد أفندي أكد لي أن مسألتي عند حسني أفندي في الشطب، وإلا فهو لا يعرف في الديوان شيئا.
ولعله كان بين مراد وحسني ما جعل أولهما ينهض ليذهب معي إلى الثاني، وعدت إلى حسني أفندي في الشطب، وبين يدي هذه المرة صاحب ديوان مثله، وبعد نظرات كريهة رماني بها حسني وبعد مشادة ليست بالهينة بين صاحبي الديوان، تبين أن المسألة عند هذا الذي أحالني من أول الأمر على غيره! ولكنه لم ينظر فيها بل استمهلني إلى غد، ولم يسمعني، وقد رأيت ما رأيت إلا أن أخرج وأمري لله!
ولعله في غد يحيلني على أحد الغائبين من أصحاب الديوان، فقد ثبت لدي أن هؤلاء يعرفون الغائب من إخوانهم في أية حجرة، فيحيلون كل قادم عليه، وبهذا يفرغون لحل معضلاتهم الجسيمة كان الله معهم وجزاهم عن عباده الحائرين أحسن الجزاء.
صاحب الديوان الظريف
أما إنه ظريف حقا فذلك ما يتبين من هذا الحديث الذي أسوقه عنه، ولكم تمنيت لو كان أصحاب الديوان جميعا على شاكلة هذا الشاب الذي ساقتني الظروف السعيدة إليه ...
ولن يتسع المجال إذا أردت أن ألم بنواحي ظرفه جميعها؛ ولذلك فحسبي أن أقصر الحديث على آخر لقاء كان بيني وبينه.
دخلت حجرة عمله فما رآني مقبلا عليه حتى خف للقائي ضاحكا مرحبا يمد لمصافحتي يمناه، ويقدم إلي كرسيا بيسراه على صورة لفتت أنظار الكثيرين ممن حوله من أصحاب الديوان، وأمثال هؤلاء لن يلفت أنظارهم الرصينة المنكبة على حل المعضلات إلا أمر غير مألوف.
وجلست ترمقني العيون برهة وحرت أول الأمر كيف أبدأ الكلام وما جئت زائرا، ولا أنا بصديق لهذا الذي أسرني ظرفه، وما كانت معرفتي به إلا من كثرة ترددي عليه من أمر لي عنده.
صفحه نامشخص