من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندی d. 1450 AH
73

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ژانرها

كان خليقا بي أن أهدئ من روعها وألا أوصد الأبواب أمامها، لكني فعلت عكس ذلك بحماقة، أو كأنما الموت صار خبرا عاديا عندي، ولم أدرك أي جحيم صببته بكلماتي على رأسها المتشح بالسواد، كما هي سائر ثيابها حتى نعلها والجوارب.

كنت - ولست وحدي في ذلك - أعود متعبا من المواجهة يصيبني إرهاق شديد كأنما كنت أحتطب في غابة جبلية منذ الغبش حتى الغسق ولم أفتر ولا لهنيهة واحدة. وما إن أعود إلى الزنزانة أستلقي مسترخيا لأنزلق في غفوة عميقة. قبل المواجهة كنا ننشغل كثيرا في الاستعداد لها، وساعة اقتراب اللقاء تضطرب أعضائي بشدة ويتزايد وجيب قلبي ويرتج رأسي وتخفق حواسي كلها، فات وقت طويل جدا حتى صارت المواجهة شيئا قريبا من المألوف.

الأمر بالنسبة لي استغرق أكثر مما استغرق من أهلي، الذين كانوا يرجعون إلى حياتهم وينشغلون بأمورهم اليومية، بينما كنت أعود لأنشغل بمحاولة التوافق مع هذا العالم الغريب الذي أطل برأسه علي. مسافة شاسعة ظلت تفصلني عن العالم الذي بدا غريبا جدا، فقد توقف الزمن عندنا منذ ساعة اعتقالنا ولم تتحرك عقارب الساعة إلا حين ولج من الباب أولئك الأقرباء الغرباء من ذاك الكون البعيد، كان مقدمهم زلزالا أصاب أرضا ساكنة تداعى كل بناء فوقها منهارا، وخرج من باطنها ما قد دفن لسنوات.

حدث انفراج واضح في وضعنا العام بحيث قل عدد السجناء في كل زنزانة، وفتحت أبواب الزنزانات بشكل دائم وصار التزاور بين السجناء والاتصال متاحا للجميع. تحسنت كمية المياه الواصلة بشكل كبير، ولم نعد نعاني من شحتها؛ لا في مشرب ولا في استحمام، المواد الغذائية تصل إلينا من الخارج، وكذلك الأدوية والثياب الجديدة، واستغنينا عن زي السجن وعن طعامه إلا بحدود الخبز اليومي وبعض الوجبات اليومية التي لم يكن سهلا إعدادها.

أتيحت لنا الفرصة الكاملة لإعداد الطعام واستخدام معدات الطبخ كاملة من مواقد بسيطة لكنها تفي بالغرض المطلوب. صار صوت السجناء قويا عاليا حتى إنهم فرضوا على الأمن إخراج خائن من الأقسام بعد انكشاف وشاية قام بها للإيقاع بمجموعة من السجناء، رضخ الأمن لمطلب السجناء خشية تجدد المواجهة معهم من جديد.

كان يوما مشهودا؛ إذ وقف الخائن ذليلا يحتمي برجال الأمن وسط صيحات غضب وهياج عارم من السجناء، فيما كان أكبر ضابط مسئول عن السجن يدور بين الأقسام باذلا أقصى جهد عنده؛ يقفز بين المكر حينا وممارسة المرونة واللين حينا آخر لمفاوضة السجناء وإقناعهم بقبول هذا الخائن في أحد الأقسام. إلا أنه لم يفلح وفشل فشلا ذريعا في الحصول على الموافقة من أي قسم على قبول هذا الخائن المنبوذ، مما اضطره إلى أخذه إلى مكان منعزل. الرفض الجماعي والإصرار الشديد على لفظ الخونة الوشاة بعيدا عنهم صار درسا قاسيا وعبرة كبيرة لم يجرؤ أحد بعدها من الخونة والضعفاء على اللجوء إلى الوشاية أو للتعامل العلني، بل ولا حتى السري مع الأمن.

صارت الفرصة مواتية لكل شيء حتى لممارسة أنشطة رياضية وإقامة مباريات دورية في كرة القدم المصغرة؛ إذ لم يكن هناك من ملعب حقيقي يصلح للعب فيه، بل ولا توجد حتى قطعة أرض تصلح لذلك. الحصول على الكتب من خلال المواجهات صار ممكنا، بل تمكن كثير من الأهالي إدخال المذياع لأبنائهم السجناء، وبعض - قليل جدا - تمكن من تهريب كاميرات فوتوغرافية بطرق سرية بوضعها في قدور الرز المطبوخ الذي كان يحمله الأهالي معهم بشكل عادي. باختصار شديد تغيرت الأحوال بشكل كبير وانقلب الحال رأسا على عقب في آخر سنتين.

تقلصت الأعداد في الزنزانات بشكل كبير جدا بفعل السياسة الجديدة بفتح أقسام جديدة لاحتواء أعداد السجناء ، ونقلت لأحد هذه الأقسام الجديدة ويطلق عليه «ق3»، وهو قسم غريب في تصميمه، مع أنه كان يحتوي - أيضا - على طابقين، إلا أن زنزاناته كانت تصل إلى الأربعين زنزانة، وصغيرة جدا بطول مترين وربع تقريبا وعرض يزيد عن المتر الواحد بقليل، وكل زنزانة لها باب مصنوع من قضبان حديدية قوية. هيئة الزنزانات كانت توحي - بلا أي لبس - أنها سجن انفرادي، إلا أننا كنا ننام تقريبا في كل زنزانة أربعة أشخاص، وكانت أبواب الزنزانات مفتوحة بشكل دائم مما سمح لنا بالحركة في أرجاء القسم بحرية طوال الوقت. في النهار تفتح بوابة خارجية مطلة على ساحة صغيرة ملحقة بالقسم لنمارس فيها ألعابا رياضية خفيفة، وأيضا كان بالإمكان أن نعد وجبات الطعام في غرفة صغيرة ملحقة بهذه الساحة. كانت انعطافة كبيرة في تحسن الأوضاع عندما انتقلنا إلى هذا القسم وشعرنا براحة كبيرة فيه مع سعته الظاهرة وقلة أعداد السجناء فيه.

16

استيقظنا صباح يوم من صيف لاهب بأحداثه على خبر مفاجئ تنقله محطات الإذاعات الأجنبية والمحلية وهي تتحدث عن اقتحام الكويت وغزوها الشهير من قبل القوات العراقية. وبينا كنا نستمع طوال الوقت بلهفة إلى نشرات الأنباء وتطورات الأحداث المتسارعة عبر الراديو؛ وإذا بأوامر طارئة تصدر إلينا على عجل تطلب منا إخلاء القسم «ق3» بالحال والتوجه فورا إلى الأقسام التي كنا فيها سابقا. وفي أقل من ساعة واحدة تم إخلاء القسم ليحل محلنا فيه سجناء جدد من طراز خاص، لم تتبين لنا هويتهم في بادئ الأمر وأصابنا فضول كبير لمعرفة القادمين الجدد لتزامنه مع غزو الكويت؛ مما ولد فينا رغبة كبيرة لاكتشاف هذا التلازم بين الحدثين. «ق3» بالأصل عائد لجهاز المخابرات المختص بالقضايا الخارجية، وسكانه من المحتجزين على حساب قضايا تهم جهاز المخابرات وليس مديريات الأمن الداخلي، ونحن إنما وضعنا فيه سابقا لشغوره وعدم حاجة قسم المخابرات له، الذي كان يدير قسما مجاورا له ويشبهه في التصميم بالضبط. لم نكن نملك أي فكرة عن المعتقلين في هذين القسمين؛ لأنهما كانا تحت رعاية حصرية من المخابرات، ولا يسمح لأي أحد بالتدخل فيه حتى لو كان من الأمن أو إدارة السجن وفي حالات خاصة يستعينون بسجناء محددين للقيام ببعض التصليحات الفنية الطارئة وسط إجراءات أمنية مشددة. لذلك اتجهت توقعاتنا إلى سجناء من طراز خاص وكان حدسنا في محله عززه سماعنا لأصوات متباينة تكشف عن تنوع في الأجناس والأعمار، ولم نك متأكدين مما نسمعه بشكل قاطع، إلا أنه ولد عندنا شكوكا قوية استنادا إلى خبرتنا التي صارت كبيرة الآن، بعد هذه المدة الطويلة في السجن، وتعاملنا مع ظروف وأحداث مختلفة. أن يكون هؤلاء السجناء من العوائل أمرا ليس بغريب؛ فقد حصل هذا في السابق حين اعتقل النظام عوائل بأكملها من مدن وقرى في العراق، مثل بلد والدجيل وقرى كردية كثيرة. غير أن ملف اعتقال العوائل تم تصفيته بإطلاق سراح المتبقين منهم بعد أن نفذ الإعدام بأعداد غفيرة منهم وعثر على رفاتهم بعد عقود في مقابر جماعية، فيما ظل قسم آخر في عداد المجهول. ووصلت أخبار هذه العوائل إلينا من شيبة وشباب، بل وحتى أطفال نقلوا إلى أقسامنا كسجناء بعد أن صدرت بحقهم أحكام بالسجن لمنع عودتهم إلى مدنهم وقراهم. ومن خلال المواجهات تأكد لنا نبأ إغلاق هذا الملف كاملا.

صفحه نامشخص