من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرها
مراقبنا كان جبانا رعديدا ووضيعا إلى حد بعيد ولا يجرؤ على رد الاتهام، بل بذل كل جهده ليرمي التهمة على أحدنا ويتخلص من هذه الورطة ويتملق بذلك إلى رجال الأمن والخدمات، بالمقابل كان لا يأمن إزاحته من منصبه ومعاقبته لو فشل في تقديم اسم متهم بهذا الذنب المخترع. ولما لم يعترف أحد بالتهمة عاقبنا على الفور رجل الأمن بإخراج عشرة منا بشكل عشوائي وأوسعوهم ضربا، وهدد بأنه سوف يعود مع كل وجبة طعام ويختار عشرة أخرى وعلينا أن نقدم المذنب وإلا فإنه سيعاقبنا جميعا، وصرنا في حيص وبيص ولا نعرف سبيلا للخروج من هذا المأزق.
الخونة بيننا يبحثون عن قربان ونحن بالمقابل على يقين من بطلان ادعاء المخبر؛ لأنه أصلا لا يمكن لأحد أن يرى أحدا من ذاك البعد بين القسمين ومن خلال هذه الثقوب الصغيرة. إضافة لذلك كنا نزلاء جدد على هذه الزنزانة في يومنا الأول ولا يمكن أبدا أن نعرف من يسكن قبالنا أو من خلفنا.
استمر الحال على ما هو عليه في الصباح وأخرج عشرة آخرين ليتلقوا عقابا جماعيا، وأصبحنا مع كل وجبة طعام يأتي إلينا رجل الأمن ونقدم له عشرة قرابين ليعاقبهم، وزاد الأمر على ذلك؛ إذ إن المسئول الأمني أصدر أمرا بمنعنا من الوقوف في الزنزانة مطلقا، حتى عندما كنا نريد الذهاب إلى الخلاء أو التحرك في داخل الزنزانة علينا أن نقفز إما مثل الأرانب أو نزحف كالسلاحف. كان وضعا قاسيا تكبدنا فيه محنة إضافية لكل ما نحن فيه من ظروف شاقة وأليمة.
مرت ثلاثة أيام بلياليها ونحن على هذا الحال إلى أن اقتنع رجل الأمن بأن المخبر متوهم فيما يقوله، بعد أن تصدى لإقناعه شاب شجاع ذلق اللسان استخدم خزينه من الكلمات المنمقة التي بالغت في مدح رجل الأمن ووصفه بأوصاف لم يكن يحلم أن يسمعها لترتفع نسبة الزهو والغرور عنده إلى مديات عليا سهلت إصدار عفوه علينا امتنانا لكلمات صاحبنا الذي تلاعب به بشجاعة؛ لأنه لو لم يقنع رجل الأمن بما قدمه من حجج لوضع نفسه في فوهة المدفع ولتجرع عقوبة قاسية.
في هذه الأثناء واصلت صحتي الانحدار السريع وهزلت إلى درجة قياسية؛ الحمى لا تفارقني وكنت أتعرق بشدة خصوصا في الليل، وتنفسي بات شاقا وأقضي ليلي ونهاري مستلقيا. وفي أحد الأيام عند الصباح وأنا أغسل وجهي سعلت في إناء كنا نغسل فيه وجوهنا وأيدينا جميعا، وإذا بدم أحمر قان يخرج مع السعال ليدق جرس الإنذار في الزنزانة؛ إذ كان هذا بمثابة إعلان رسمي على إصابتي بمرض السل الرئوي.
فزع المراقب وبعض أنصاره خشية العدوى وبدءوا يفكرون الآن بطريقة للتخلص مني ونقلي خارج الزنزانة. بالمقابل كان هناك آخرون يبالغون في تقديم الرعاية والعناية لي ويضيقون على أنفسهم كثيرا في المأكل والمشرب والمنام لأجل توفير الراحة لي التي لا تتوفر لأحد. تدهورت صحتي جدا وأصبحت على مشارف الموت الفعلي بحيث لم يخف بعض السجناء قلقهم من ذلك، بل إيمانهم الكامل بأنه لم يتبق لي إلا القليل جدا في هذه الدنيا، وما زلت أذكر أحدهم الذي كان يكبرني بسنوات قليلة وهو يجلس إلى رأسي يحدثني عن الدنيا الفانية ويقول لي: إن الموت حق، ويواسيني بكلمات صبر وتشجيع.
لا أعرف لماذا لم أشعر بأي شيء في تلك الوضعية المزرية التي وصل إليها جسدي. لا أقدر أن أقول إني كنت صبورا على الأوجاع والألم وانحطاط قواي البدنية؛ لأني بصراحة كنت لا أشعر بأي شيء. الأمر بالنسبة لي كان يبدو عاديا جدا، وحتى عندما كنت أسمع كلمات المواساة والصبر لم أكن ألقي لها بالا على الإطلاق أو أعيرها أي اهتمام، بل كنت أرى أنه لا يستحق كل هذا العناء والتفكير منهم، وأراهم مهووسين بأمر ليس بذي بال. ولأبرهن على ذلك أني لم أتوقف عن التدخين حتى في هذه الظروف البائسة، إلا في مرحلة متقدمة عندما وصل بي العجز درجة تضاءلت فيها قدرتي على سحب الأنفاس للبقاء على الحياة ولم يعد هناك من مجال بعد للتمتع بلذة الدخان.
طبعا قد يظن البعض أننا كنا ندخن بشراهة من الضجر والملل الذي يملؤنا، وحتى نحن كنا نحسب أنفسنا من المدخنين المدمنين ولم أصح من هذه الفرضية الخاطئة إلا بعد سنوات، حين قابلنا طبيب في مستوصف المستشفى وسأل سجينا كان يشاطرني الزنزانة هل تدخن؟ - «نعم.» «أجابه رفيقي». وكانت «نعم» كبيرة استرعت انتباه الطبيب، فسأله ثانية: «كم سيجارة تدخن في اليوم؟»
فقال له صاحبي: «ثلاث سجائر باليوم، تمر كل سيجارة على عشرين مدخنا تقريبا في الزنزانة ليأخذ كل واحد منهم نفسا واحدا فقط.»
ضحك الطبيب مبتسما ساخرا. وانتبهت إلى العالم الغريب الذي نعيشه، وإلى كم المعتقدات التي نؤمن بها بشدة وهي وهم ظاهر.
صفحه نامشخص