من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرها
صار مكان نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام، تطفو على سطحه ما لا يحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم لا أعرف اسمها، يبدو أنها تسللت من فتحات صغيرة للتهوية، في الحقيقة هي فراغات بين قطع بلوك إسمنتي ولم تغلق عمدا لتسمح بمرور الهواء. هذه الفتحات تطل على ساحة ترابية صغيرة تفصل القسم الذي نحن فيه عن قسم مجاور وصارت مكبا هائلا للنفايات؛ إذ كان السجناء يتخلصون من النفايات برميها فيها حين يفضل شيء منهم، وحين كانت المجاري تغلق تصرف فيها، إنه لا توجد سلة مهملات ولا أحد يجمع الفضلات إن وجدت. كذلك كان يفعل أي أحد يمر بالقرب من هذه الساحة من حرس السجن أو أي شخص آخر، ولا يهتم أحد برفع ما فيها أبدا.
إلى جواري امتد رجل طيب راح يسدي لي نصائح مهمة، أهمها أن أحذر من فلان وفلان. سأكذب لو قلت إني فهمت ما يقول. فكيف يمكن لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالما وهو مظلوم؟! لكن عرفت مصطلحا جديدا اسمه المراقب وهو بمثابة العين لرجال الأمن في الزنزانة، وهذا حديث آخر طويل.
أشرعت نافذة بصري على الجدران الإسمنتية السوداء والأكياس الكثيرة المعلقة عليها التي تضم الأموال المهربة من الحكم القضائي بمصادرة المنقول منها وغير المنقول. أكياس كانت تحوي أسمالا وخردة ليس لها قيمة إلا في هذا المكان. حكم مصادرة الأموال كان يوزع على كل الدوائر الحكومية حتى لا يفلت شيء من مقصلة إفناء كل آثار المعارضين، وكان هذا أثرا جيدا صلح فيما بعد لتتبع عدد الذين سجنوا وقتلوا بطريقة رسمية ودليل إدانة لمحاكمة من ارتكب تلك الجرائم، محاكمة لم تعقد بعد رغم كل ما يقال عنها.
تاه بصري في هذه الصحراء الممتدة حيث يضيع الزمن فيها وأنا أتأمل رجلا ريفيا طويلا وقف وسط الجمع ضجرا من أشياء أجهلها وهو يردد عبارة ما زلت حتى اليوم أضحك من كيفية إلقائها بطريقته الكوميدية السوداء وبلهجته الشعبية: هاي شيگضيها العشرين سنة هنا!
ضحكتي الصادقة الصادرة بعيدا من قاع قلبي، كانت بداية كبيرة لموجة عظيمة من التفاؤل سرت في وجعلتني أحيل الصحراء التائهة بلا زمن إلى أرض خصبة حبلى بالعطاء، فهي ليست كالشوارع والأرصفة التي لفظتنا وصرن علينا سيوفا بتارة تحز الرقاب. بل هي أرض تجمع كثيرا من الطيبين ومنهم طالب جامعي يدرس القانون ككثيرين مثله كانوا هناك لم يكملوا دراستهم؛ لأن السلطة استبقت ثمرة نبوغهم فأجهضت أحلامهم. وقف يظللني مثل نخلة مريم تساقط علي نسمات هواء من منشفة باهتة الألوان كان يحركها فوقي بلا كلل ولا ملل، وهو يرى إجهادي وصعوبة تنفسي وأنا أضطجع تعبا من مرض السل الرئوي الذي وفدت إلى الزنزانة الجديدة أحمله معي من المعتقل. لمحني أبحث عن الهواء في جو الزنزانة المظلمة الرطبة فراح يحركه كما لو أنه كان يهدهد طفلا حتى ابتلعتني غفوة عميقة توائم بدني الذي كان يتجه نحو نقطة حرجة بسرعة كبيرة في الأسابيع الأخيرة.
أي فيض من البهاء هذا وأي خضرة داكنة نبتت على جدران الإسمنت يفوح منها عطرا. ابتسمت روحي لهذا الأريج واتقدت منتشية به، قد عدت إذن إلى عالمي الذي أحلم به حيث تضوع ريح الأنبياء وهي تلامس الأموات لتحييها وتبرئ الأكمه والأبرص وترش الماء على طين رخيص تسحقه الأقدام ليطير محلقا بأمان عظام، ويذرق على الذين أخلدوا إلى الأرض منسلخين من إنسانيتهم فباتوا يلهثون في كل أحوالهم ولا يصدر عنهم إلا أنكر الأصوات.
وبين تحذيرات صاحبي من الخونة وبين هذين الموقفين تشتتت مشاعري وتاه فكري وصرت بين حذر واطمئنان في الوقت عينه. عرفت أن الكلام أو الإشارة إلى أي شخص في زنزانة أخرى جريمة يعاقب عليها السجين بقسوة؛ ولذلك حتى عندما لمحت أحد رفاقي في زنزانة أخرى كما لمحني هو، لم أتبادل الإشارة معه كما حاول أن يفعل، بل هربت من أمامه؛ لأن ذلك سيؤدي إلى عقوبة مشتركة نتقاسمها. تأملت الحاضرين من سكان الزنزانة جميعا وبدا مشهدا غريبا بالنسبة لي، كانوا يتفاوتون بالمستوى الثقافي والتعليمي ولا يبدو أنهم جميعا ممن مارس عملا سياسيا أو فكريا معارضا. كنت قد تعرفت على قسوة التعذيب ومخرجاته لكن بصراحة لم أكن أتوقع أن يكون كثير من السجناء أناسا لا علاقة لهم بما كنا نفعله قبل الاعتقال من مقارعة السلطة.
أي ظلم هذا الذي يزج بأبرياء - لا علاقة لهم لا من بعيد ولا من قريب - في سجون مخصصة للسياسيين. كانت هذه صدمة كبيرة بالنسبة لي؛ لأني بدأت أكتشف وحشية لم أكن قد أدركتها حتى تلك اللحظة. أصبحت في ارتباك كبير لأني كنت أظن السجن مكانا لطبقة واحدة عشت معها في مراحل حياتي السابقة وتقاسمت معها الهموم والنشاطات والتفكير والتطلعات. غير أن الأمر ليس كذلك الآن، وعلي أن أحسن التصرف مع هذه التضاريس المعقدة؛ التضاريس لا أعني بها التنوع الطبقي الاقتصادي، ولا التفاوت التعليمي، فقد ألفت هذه التناقضات؛ إذ إن المنهمكين بالعمل السياسي لهم مشارب متعددة لكن أن تجد نفسك في سجن سياسي وحولك مجموعة تتعرف على العمل السياسي لأول مرة شيء آخر تماما.
الصعوبة ليس في هؤلاء فقط، بل أن يكون بعضهم غير مؤمن بهذا العمل، والأشد صعوبة أن يكون مقتنعا بالضد منه، بل ويزيد على ذلك حماسه العلني ضد المعارضين السياسيين ويحملهم كل ما حصل له. هذه التنوعات كانت واضحة جدا في أول زنزانة دخلتها في السجن، وكان الأمر بمثابة صدمة أولى لها تداعيات سوف تظهر لاحقا، وسوف يأتي الحديث عنها في وقت مناسب، ورغم ذلك كان في الزنزانة نفسها أشخاص متميزون.
قبل منتصف الليل يطفأ المصباح الشاحب الوحيد في الزنزانة وكان على الجميع بأمر من إدارة السجن أن يذهب إلى النوم الإجباري. كانت الزنزانة ضيقة خانقة إلى حد كبير بالعدد الذي فيها (خمسة وأربعين سجينا)، وفي جوها تشيع رائحة تبعث على الغثيان وعلى بلاطها الإسمنتي فرشت بطانيات سوداء رقيقة. كان النوم مهمة عسيرة؛ إذ لا يمكن الرقاد إلا على الجنب ويستحيل النوم على الظهر في أي لحظة، وكان لا بد من ترتيب نوم السجناء بطريقة التخالف، أي قدما سجين إلى جنب رأس سجين آخر. لا يوجد مجال على الإطلاق لرأسين متجاورين، ولو اضطر أحدهم إلى النهوض لسبب ما خارج عن إرادته - مع أن النهوض وقت النوم كان ممنوعا ويعاقب مرتكبه عليه - فإنه لو أفلت من مراقبة عيون الخونة، فسوف يقع في مشكلة أكبر؛ لأنه لن يجد فراغا يضطجع فيه حين يعود، ويصبح لزاما عليه مدافعة الأجساد المتلاصقة كي يحشر نفسه ثانية بينها.
صفحه نامشخص