من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرها
دخلت غرفة جوها ثقيل بدخان السجائر والأحاديث السابقة، مشبعة بالدفء، وفي قعرها حيث النافذة الوحيدة منضدة صغيرة نسبيا يجلس خلفها ضابط بزي مدنية، في حين كان هناك رجال آخرون واقفين طوال الوقت تحسبا لأي حدث طارئ على ما يبدو؛ لأن عيونهم كانت تتابع كل حركاتي وأنا أدخل عليهم بلا قيود. على اليمين كانت هناك أريكة صغيرة يجلس عليها والداي في انتظاري.
مشاعر الأسى والحزن تظلل وجهيهما، وعيونهما الشاحبة أمطرت نهر دموع لا يمكن وصف شدة جريانه ولا حرارته، نظرا إلي مشدوهين مبهوتين إلى أقصى الحدود؛ والدي يحدق في بنظرة تشي باضطراب شديد، بينما أمي يغزو محياها الوجوم وظلت طائشة اللب طوال المقابلة، ولم تقو على التفوه إلا بنزر يسير جدا من كلمات يمكن إحصاؤها بسهولة. استجمعت كل قواي وأضمرت ضعفي وإحباطي أمامهم. كان همي الشديد أن أفهم ما الذي يجري في الخارج، واستفهمت بطريقة مشفرة بعض الشيء عن شخص يهمني اعتقل بسببي، وتأكد لي عبرهما خروجه من المعتقل، وكان خبرا مفاجئا وسارا في الوقت نفسه. كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تغير شيئا من الواقع الذي نعيشه، ولم تكن أيضا محل تفاؤل كبير كما يتوقع لها أن تكون، برغم أن حصولها كان أمرا غير مطروق في معسكرات الاعتقال السياسي.
حصلت من هذه المواجهة على بطانية وفيرة منحتني ورفاقي دفئا بصورة مثالية وعلى ثياب جديدة حسنت قليلا من هيئتي، وإن علمت بعدها أن رجال الأمن سرقوا الجزء الأفضل والأجمل منها، وحصلت كذلك على سجائر ووجبة طعام منزلي صنعت خصيصا لي والأكثر من ذلك قليل من سكينة وطمأنينة هدأت من روعي.
إلا أن هذه الزيارة لم تشع جوا للتفاؤل، بل على العكس من ذلك سادنا تشاؤم كبير بعدها. كانت زيارة غريبة في حصولها وأغرب في نتائجها؛ فقد علمنا أن مديرية الأمن هذه تعطي لأهل المعتقلين السياسيين فيها فرصة لإلقاء نظرة أخيرة عليهم قبل إيقاع حكم الموت بهم. عزز هذا التشاؤم استذكار حادثة وقعت من قبل لطلبة زملاء من جامعتنا (جامعة الموصل) سبقونا في زمن الاعتقال. لا أدري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة ازداد يقينه بأننا ننزلق سريعا إلى الهاوية التي سوف تبتلع الكل. أحد المعتقلين كان متيقنا من هذه النتيجة المنتظرة من هذه الزيارة، وهو نفسه كان رائدا في سبر غور تاريخ هذه الحادثة بهذه النظرة التشاؤمية، بل إنه هو من نقل أحداثها لنا بالتفصيل وكانت بالفعل مطابقة لحالتنا. توقعه لهذه النهاية طابق خاتمته المفجعة بالفعل فيما بعد مع آخرين التقوا أهاليهم وكانوا معنا في الزنزانة ذاتها أو في المعتقل نفسه.
راودني إحساس بأن الأرض ستنشق يوما بغتة وتبتلعنا إلى حيث لا رجعة، وشعور الاطمئنان الذي بدا على محيانا بعيد الزيارة بدأ بالانحدار سريعا وانتهى إلى وجوم. نعم، كانت الأمور تسير فعلا نحو هذه النهاية التراجيدية؛ إذ بعد زيارة الأهل المفاجئة والغريبة تم نقل مجموعة من سكنة الزنزانة إلى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة من حان وقت محاكمته. واستبدل شعور الارتياح والاطمئنان بشعور آخر من عدم وتلاش حين جاء فجر يوم أربعاء بضعة حرس لم نرهم من قبل بمزاج قاتم وطبع غليظ، ساقوا نفرا منا إلى معتقل آخر تمهيدا لنطق الحكم عليهم في محكمة صورية، تستلم قراراتها من ضباط التحقيق في دوائر الأمن. ها إذن قد أزفت الآزفة وقربت ساعة إسدال الستار على المشهد الأخير من فصول هذه الملهاة المأساوية.
خرجوا فجرا وغابوا ما يناهز الأسبوعين أو أكثر، لا أذكر ذلك تحديدا الآن؛ فقد مضى زمن طويل، ولم يعد الوقت مهما حينها لأنشغل بحسابه، ولم أعبأ وقتها ولا بعدها بعملية إحصاء الأيام التي سوف أقضيها في السجن فهي كلها متشابهة. كنا نترقب فجر أربعاء جديد وهو الموعد الدوري لنقل المعتقلين من مديرية الأمن إلى محكمة الثورة، غير أنا دخلنا في نفق من انتظار مقلق، وما كنا نخاله أمرا دوريا تحول إلى ترقب عشوائي ولد في كوامن نفوسنا مدا عاليا من القلق والحيرة.
غرقنا في تحليلات الموقف بفرضيات تخرج من بحر حيرة نخوض فيها ونخرج منها بعدم، ثم نضع هذا العدم على شاطئ حواراتنا بعناية فائقة كأنه صيد ثمين، كما لو كنا غواصين ماهرين استخرجنا للتو لؤلؤا نادرا من بطن حوت. وهذا حال من يعدم كل حيلة لكنه يأبى البلادة والكسل فيبني ولو من أوهامه عملا ربما يعاجله الحظ بضربة لم تكن في الحسبان ويخلق من الخيال حقيقة. وفي غفلة من إحدى الأماسي اندفع إلى الزنزانة عين من افترضنا أنهم قد حوكموا. اعترتنا الدهشة! ومثل مطر غيمة استوائية هطلت عليهم أسئلتنا ولم نجن منها إلا حيرة وخيبة أمل؛ لأنها كانت ترجع بلا أجوبة. أسئلتنا كانت مثل غيث ينهمر على نهر فلا نبت يستتبع هطوله ولا يزيد النهر إلا بما هو كائن فيه. كنا وإياهم في محل واحد وفي الموضع ذاته لكن بصفين متقابلين فكما نحن كانوا هم أيضا، لا يعرفون حقيقة ما جرى، سوى حكاية موجزة يكررونها بلا أي معنى. أخذوا إلى معتقل خاص تمهيدا للمحاكمة كالعادة المتبعة، وفي يومها ظلوا حبيسي شاحنة مغلقة أمام مبنى المحكمة ثم عادت الشاحنة بهم بعد سويعات إلى المعتقل الخاص نفسه، وظلوا طوال الفترة المنصرمة هناك في ظروف عجيبة سأرويها لاحقا. وها هم عادوا وانتهت الحكاية بلا نهاية مفهومة أو حتى بلا نهاية ولا تفسر أي شيء مما جرى أو سوف يجري.
رحنا نتخبط بفوضى؛ حينا تثري فينا آمالا كبارا وتارة أخرى تخنقنا بقسوتها. نتأرجح بين صور مزدحمة مشوشة توارينا ساعة في طمر النسيان وأخرى تطوف فوقنا مثل شبح تعيد إلينا الحياة. كان ليلا شتويا خيم علينا ببرده القارس يذكرنا بهشاشتنا ويزيد مصيرنا المجهول غموضا، كان علينا بعد عناء التفكير ومشقة الأسئلة السائبة أن نجبه هذه الحلكة المضاعفة إما بالقبول بأننا على وشك أن نفقد كل شيء أو نظل نتشبث بسراب الواحة النائمة خلف التل. لم يكن واردا أبدا زجر كلتا الصورتين عن أعيننا الشاحبة المنهكة فقد علقنا بينهما بلا فكاك، وفقدنا غريزة النسيان واستقرت شهوة القلق في قعر ذاكرتنا اليقظة أبدا.
إلى أن أيقظنا من نومتنا وحيرتنا صوت ضابط في ساعة متأخرة، قال بضع كلمات باستعجال ورحل سريعا، كلمات تحمل نبرة جديدة تخمد الحيرة وتحيي أملا في مواصلة الحياة ولو في زنزانة. كلمات ما زلت أحفظها حرفيا قذفها في داخلي عميقا صخب تنازع الصور وتجاذب أطراف القلق: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»
تغير كل شيء، وقرار الحكم علينا بالإعدام اندلف إلى زاوية بعيدة منكفئا وصار يحدونا أمل حقيقي بمواصلة البقاء، على الأقل أنا شخصيا صرت متيقنا من هذا في قرارة نفسي، ووثبت أمامي تلك الرؤيا الغريبة التي رأيتها أول اعتقالي بأني سوف أحكم لعشرين سنة، لاحت لنواظري صور تجرجرني للأمام، وبت أتهيأ لأخمد رغبة اليأس والعبث التي استوطنتني لأشهر.
صفحه نامشخص