من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرها
انتدبت وشخصا آخر معنا في الزنزانة كان يتكلم لغة قريبة منه لإبلاغه القرار بطريقة سمحة لا تؤذيه متجنبين الإشارة والتلميح إلى الدوافع الحقيقية لهذا القرار؛ لأن الجميع بالفعل أحبه منذ اليوم الأول بالمقدار نفسه، بل أكثر من مقتنا لرائحة جسده. جلست إلى جواره مع زميلي نحدثه عن أهمية الصبر في هذا الموقف الصعب الذي يمر به، وأن الفرج قريب ولن يطول به الوقت كثيرا حتى يعود ثانية إلى مرعاه ومزرعته، وسوف يعيش حياته الوادعة المسالمة من جديد بعيدا عن هذه الحال التعسة. سار بنا الحديث رويدا من الحديث عن الواقع الجديد الذي دخل فيه إلى تجربة التكيف معه، وبأن لا طائل من التذمر والضجر، وأنهما لن يحلا معضلة ولا يفكا عقدة. ثم قلنا له: إننا مع ذلك ننظر بعين الاعتبار والتقدير لانتقاله المفاجئ لهذا العالم الصعب، وتهوينا منا لهذا الوضع حتى يألفه، واحتراما لكبر سنه (كان أكبر من أسننا بما يقارب عشر سنوات وربما أكثر)، نقترح أن ينفرد هو لوحده بالمنام في بطانية واحدة.
ارتسم الامتنان على غضنات وجنته وعلى تجاعيد مبكرة صنعتها شمس لافحة في وجهه الأسمر، ولمع بريق شكر في عينيه لعثم خطى كلماته وأربكها كثيرا. فقد الإحساس بالغربة، وانقشع الحزن، واندثرت غيوم الأسى من عينيه وبالأخص بعد أن قدمنا له ماء وبقايا طعام كنا نحتفظ به للطوارئ. كان تقديمنا له هذه الوجبة الاستثنائية وبعناية خاصة فعلا أبهجه جدا.
حرصنا في الأيام التالية أن نقدم له الطعام بإناء خاص له، ونجنبه أيضا المشاركة في بعض الأعمال اليومية التي كنا نقوم بها من تغيير سطل الماء أو غسل الأواني، وعلى الرغم من سهولة هذه الواجبات إلا أن عدم مشاركته فيها أشعره بمقدار كبير من الاحترام الذي نكنه له وحجم مشاعر العطف والمواساة التي نوليها له.
التهمة الرئيسية التي وجهت له أنه يعرف بعض من كان يحرك جمر الحرية في قريته الصغيرة، لم يكن يفهم معنى ذلك، ولا تهمه هذه الأفعال - لا من بعيد ولا قريب - سوى أن بعض المطلوبين كانوا من أقاربه أو من سكان قريته. على الرغم من أن هؤلاء الثوار لا يرتبطون بعلاقة مباشرة معه، مع أن القرية التي كان يسكنها تكاد تكون كلها عشيرة واحدة إذا لم تكن هي كذلك بالفعل؛ ولذا تهمة كونه من العشيرة أو العائلة نفسها تهمة سخيفة جدا ومضحكة ولا معنى لها، إلا أنهم كما يبدو كانوا يريدون استئصال هذا المكون من الخارطة؛ لأنه أعلن التمرد عليهم، وما عجزوا عن فعله حينئذ فعلوه لاحقا يوم اجتاحوا الموصل بجيوش الهمجية، وكادوا أن يبيدوا شعبا بأكمله، وارتكبوا فضائح وجرائم سوف تذكرها الإنسانية كثيرا ويدونها التاريخ بحبره الذي لا يمحى.
كانت أفكار الرجل ما بين فوضى وسراب لا تتعدى محاولة للعيش بسلام وأمان هو وأغنامه، دون أن يعكر صفوها عواء الذئاب. حاول ضباط الأمن ومساعدوهم أن يستدرجوه بوسائل شتى لينتزعوا منه معلومات لا يملكها، ولا حتى كان بمقدوره أن يفقه شيئا من أسئلتهم الأمنية والسياسية. يمكن القول إن قرار اعتقاله غبي بامتياز لو كان الهدف منه فعلا الحصول على معلومات أمنية، ولكن يبدو أن الهدف الحقيقي منه كان إثارة الرعب في القرية أكثر من الحصول على إخبارات حقيقية عن المتمردين على النظام من سكنة هذه القرية، وما هذا التحقيق إلا محاولة عبثية قد ينالون بها شيئا لم يكن في الحسبان. حاول الأمن مغازلة الرجل حينا، وحينا آخر كانوا ينقلبون عليه ليبصقوا كل أنواع همجيتهم والغضب الوحشي المستوطن فيهم، وفي كلا الحالين لم يقدم لهم سوى صمت محشو بأنين وآهات، وإجابات هي أسئلة أخرى تبحث عن جواب.
لم يكن يدرك الرجل أبجديات المعارضة، بل لم يسمع بها أصلا ولا يعرف عن ماذا يتحدثون. إنه راعي أغنام يزرع الحنطة أحيانا لا أكثر من هذا ولا أقل، مهما حاول المتحذلقون أن يغيروا من هويته.
بعد أن أيقنوا أن ما يبحثون عنه ما هو إلا مطاردة للسراب، وأن الرجل أخذ من العقوبة ما يكفيه، وسوف يحدث بها كل أبناء القرية، فلا يجسر أحد بعدها على تقديم أي عون لثائر، ولو كان ذلك العون وجبة عشاء ليس أكثر. حسمت دائرة التحقيق أمرها ونبذته في الزنزانة لا أحد يسأل عنه ولا يدري ما المطلوب منه ولا يعرف مصيره. كنا نلاطفه كثيرا ونستخرج منه ألوان البراءة وكان يقهقه بملء شدقيه كثيرا، ويخرج ضحكاته من أبعد نقطة في قلبه الأبيض، وكنا بالمقابل نبعث فيه الأمل بكلمات الحماسة، عندما كان يتألم من سياطهم ومن إهاناتهم التي يوجهونها لمعتقده وديانته العنصر الأهم عنده. كان بعض الحرس يحاول إذلاله بتصرف فردي على ما يبدو؛ لأنهم يريدون أن يتسلوا بعذابات غيرهم، أو لأنهم يريدون صب جام غضبهم على أي أحد بعد يوم نكد عليهم لم ينالوا فيه ما يبتغون ويريدون. «أنت لست وحدك، إن أجدادك الأبطال ينظرون إليك من جناتهم العالية ويراقبونك فلا تخيبهم.»
بهكذا كلمات كنا نواسيه ونؤازره ونقدم له الدعم؛ لأنه لم يكن هناك شيء أكثر من ذلك في حياتنا لنقدمه له. كنا نبشره بأن الفرج بات قريبا جدا منه فليبتسم لمقدمه وليزح الانكشار من وجهه الذي خلفه هؤلاء التافهون السخفاء. وبعد تطمينات كثيرة له عن فرجه القريب سألنا يوما عن موعد فرجنا متى يحل بعد أن صلى لأجلنا في صلوات خاصة. «إننا سنغادر هذا الباب ونترك الألم والأحزان وراءنا في هذه الدنيا، ونذهب هناك إلى حيث الراحة الأبدية.»
رددنا على سؤاله ضاحكين مبتسمين.
اغتم كثيرا لهذا النبأ غير المتوقع، لكنه ازداد قربا منا وتعاظم وده لنا، وصار الذي بيننا أكثر من محبة علاقة طارئة، إنها محبة إخوة لا تندرس مهما تعاقب الزمان عليها، توثقها عرى صداقة لا تضمحل وآصرة أخوة لا تفنى.
صفحه نامشخص