من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندی d. 1450 AH
26

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ژانرها

ممنوع من الابتسام.

وكل يوم في حبك.

تزيد الممنوعات.

وكل يوم بحبك.

أكثر من اللي فات.

كنت أردد المقطع الأخير كثيرا: «وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات، وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات.» صوت الضمير والفطرة كان يقاوم داخلي ويرفض الاستسلام رغم كل ما كنت أعيشه من اضطراب وتراجع نفسي هائل.

لم نكن نعدم حيلة للوصول إلى ضالتنا من الإبر فيما كان يقدم إلينا في فترات متباعدة من عظام الدجاج. كنا نفتش بين العظام عن أدقه ونصنع منه إبرة بعد معالجة دقيقة بالأرض الإسمنتية أحيانا. أما الخيط فكان أمره هينا جدا؛ إذ لم يكن علينا إلا سحبه من واحدة من البطانيات سواء التي نفترشها أو نلتحف بها. إنما كانت عملية انتزاع الخيوط المتواصلة بالتأكيد لها عامل كبير وتأثير مباشر في تقليل عمر هذه البطانيات، بصراحة لم نكن نبالي بهذا كثيرا؛ لأنه مهما حصل وسوف يحصل وحتى لو تكرر انتهاكنا لتماسك نسيجها مرات ومرات، فإن عمرها في كل الأحوال سوف يكون أطول من أعمارنا، بهذا كنا نحدث أنفسنا ولربما أحيانا يهمس بعضنا للبعض الآخر به؛ إذ كنا نتحاشى التصريح بالنهاية المروعة التي تنتظرنا كما يتحاشى أهل بلدي في تسمية السرطان عندما يصيب أحدهم، فيقولون أصيب بذاك المرض. كأنهم يخافون من بطشه السريع أو أنهم يعترفون بأنه جبار لا قبل لهم به، وأنه ملك عظيم وصاحب جلالة مقدسة. ولا يصح للعامة من الناس أن تذكر أسماء الآلهة والملوك إلا بالألقاب الكبيرة وبالصفات العليا والتبجيل العظيم.

نجحت تلك الإبر الدقيقة في رتق ثيابنا لكن بطريقة هزلية، إلا أنها بالرغم من ذلك كانت نافعة جدا وتفي كثيرا بالغرض المطلوب، بل ونفعتنا أيضا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابح ولو بصعوبة ومشقة أكثر؛ إذ كان علينا أن ننقع النوى في الماء لعدة أيام ليغدو لينا، بينما نحاول في هذا الوقت تجفيف عظام الدجاج المقترح ليكون إبرة ويصير أكثر صلابة.

الزمن كان طويلا ثقيلا؛ ولذا كنا نحاول اختراع ممارسات شتى للخلاص من ظله السمج، بانتظار موعد ينهي هذه الحقبة والخروج من هذه الزنزانة إلى مكان ما. من جملة ما فعلناه خلقنا من العجين أحجار شطرنج وقطعا للعبة الداما وحتى صنعنا منه نرد طاولة. وصارت أغطية علب اللبن بعد تنظيفها بالطبع مما علق فيها من اللبن قطع دومينو، كنا نتسلى بها أثناء ذلك، غير آبهين بالموت الذي ينتظرنا. أما في الأمسيات فكنا نتحدث كثيرا في السياسة والثقافة؛ لأن تردد الحرس فيها يصبح نادرا، ومع وجود بوابة حديدية كبيرة تفصل الزنزانة عن غرفة الحرس، كان اقتراب أي واحد منهم سوف يتزامن مع صلصلة المفاتيح الثقيلة التي يحملها، وكان ذلك يشكل صفارة إنذار وجرس تنبيه لنا خصوصا مع هدوء الليل وسكونه. لا يمكن لأي حرس أن يتسلل في غفلة إلينا أبدا مهما بالغ في تحفظه وكتم خطواته، فلا بد من إصدار جلبة وضوضاء مسموعة بشكل كاف لنا مع حذرنا المستمر منهم؛ لهذا السبب صار النهار وقتا لممارسة الألعاب واللهو الذي لن يحاسبنا كثيرا عليها لو رصدنا بالجرم المشهود، أما الليل فهو وقت الأحاديث الجادة. غير أن هذا ليس بمسوغ لأن يخامر أحدا ما إحساس خاطئ بأن الألعاب كانت مسموحة، أو أن صنع كل هذه الأشياء من مسابح وغيرها كان أمرا متغاضيا عنه. أبدا لم يكن الأمر كذلك، كلها كانت تندرج في خانة المحظورات. إنما هناك أمور تكون العقوبة عليها يسيرة لا تتعدى صياحا وزعيقا وكومة من شتائم أو ضربات خفيفة مفردة من كيبل أو هراوة، وهذه أمور عادت روتينا يوميا لا نأبه له بالعادة؛ لأنها صارت جزءا من القوت اليومي.

شكلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليلقي بعضنا محاضرات؛ كأن تكون المحاضرة استذكارا لكتاب كان قد قرأه المحاضر من قبل، أو مادة له اطلاع عليها بصورة جيدة، أو خبرة في أمر يجيده أحسن من الآخرين. وساعد في نجاح تلك الأمسيات وإثرائها هو وجود أكثر من واحد بيننا ممن كان يهوى المطالعة. وأغلب من تواجد في الزنزانة في أكثر الأوقات كانوا من المتعلمين الجامعيين. البعض كان يتبارى الشعر ويجعلها بين فريقين. ومن المصادفات الحسنة كان بيننا أشخاص بارعون في هذا المجال من الأدب، بل حتى كان بيننا شاعر مثقف مهتم بمطالعة الفلسفة وحتى دراستها. كان يعمل مصرفيا قبل اعتقاله إلا أن كل ثقافته ونجاحه الباهر في عمله الذي تمكن فيه لبراعته أن يصير مديرا لأحد المصارف الكبيرة رغم صغر سنه (لم يكن يتجاوز الثماني والعشرين سنة) لم يشفع له فيما بعد. لم تقدر مواهبه، بل العكس هو الذي جرى، هذه المواهب الرائعة نفسها هي التي أودت به إلى مقصلة الإعدام مع زميلين آخرين من زملاء الزنزانة وآخرين كانوا في زنازين مجاورة لم أتعرف عليهم، بل لم ألتقهم أصلا سوى أني كنت أسمع أصواتهم أحيانا حين يناديهم حرس أو يتحدث إليهم آخر عند توزيع الطعام، أو عند السماح لهم بمراجعة دورة المياه.

صفحه نامشخص