من صعيد الآلهة
أسطورة
اليتيم
شوقي وحافظ
الحر
فليكس فارس
بشر بن عوانة
الحجر الحي
شاعر الليالي
عودة جبران
رشيد نخلة
الثورة العظمى
عودة الطيار
من صعيد الآلهة
أسطورة
اليتيم
شوقي وحافظ
الحر
فليكس فارس
بشر بن عوانة
الحجر الحي
شاعر الليالي
عودة جبران
رشيد نخلة
الثورة العظمى
عودة الطيار
من صعيد الآلهة
من صعيد الآلهة
تأليف
إلياس أبو شبكة
من صعيد الآلهة
أعشق الصدق لا أقول سوى الح
ق ولو جار في الحياة عليا
في فؤادي القوي روح إله
ولو اني ولدت من أبويا
فالسماء التي أنارت شبابي
وضعت مهجتي على شفتيا
أسطورة
إلى صديقي شفيق معلوف
كان ما كان
في ربى لبنان •••
شاحب كالطيف
أهيف أسمر
ضامر كالسيف
أو أضمر
خدر الرؤيا على عينيه
وارتعاش الحب في فمه
عرق الوحي على صدغيه
فاض من دمه
قلبه، ما أبعد الآثام
عن هواه عن لياليه
والهوى إن راح يخفيه
حدثت عن سره «الأحلام»
وأغانيه
والحور سهران
موهن الخصر
والقمر سكران
في النهر
والربى ألوان
كان ما كان •••
بكر العصفور
دون ميعاد
واستفاق النور
في الوادي
والصبا لما تزل سكرى
تخبط الدوح وتمرده
وبرفق تعطف النهرا
لا تجعده
والندى يصحو على العنقود
فكحلم الطفل مبسمه
وشفاه الشمس تطعمه
وتروي كنزه المرصود
حين تلثمه
والدمى الأجفان
والشذا العابر
كلها ألوان
للشاعر
كلها ألحان
كان ما كان •••
هذه الألواح
في ربى زحله
كالهوى والراح
والقبله
جنة الأظلال ترسمها
وعروس النور تحييها
عبقر، حتى جهنمها
عرشت خضرا بواديها
درجت فيها مخيلته
شاعر الأحلام والحب
وارتوت من نهرها العذب
تأخذ الأصباغ أخيلته
من دم القلب
حبه النشوان
من جنى السحر
غائم سهران
للفجر
ذاهل حيران
كان ما كان •••
غرب الشحرور
والنوى جرح
فالمسا مهجور
والصبح
قالت الأغصان للنهر
ذات يوم: «أين شادينا؟
ما دهى حلقومه السحري
لا يغنينا؟»
والسواقي قلن للزهر: «أين من كان يناجينا
يملأ الوادي تلاحينا؟
ما دهاه؟ فيم لا يجري
ظله فينا؟»
والهوى الظمآن
قال للبان: «لا أرى من كان
يرعاني!»
فأجاب البان: «كان ما كان» •••
عشت يا أغصان
عشت يا نهر
الهوى ريان
والشعر
فالدمى في الكرم ناهدة
وعليها الطل في حرم
كرضاع الحب جامدة
نقط منه على الحلم
ورشاش العطر والأنغام
وخرير الجدول الكوثر
والحليب الخمر والعنبر
حملت من شاطئ «الأحلام»
لذرى «عبقر»
فالمسا الملآن
من دم الكرم
لم يزل يهمي
مثلما كان •••
ببنان النور
لم يزل هاروت
يفرش الياقوت
في المدى المسحور
وعلى هودجه الهادي
ينفث الليل مصابيحه
وسرير الحب في الوادي
لم يزل للطير أرجوحه
كل ما مر بنا يبقى
ثابت اللون كما كانا
إنما الأرواح أحيانا
حسبما تسفل أو ترقى
تكسب الأشياء ألوانا
والهوى إيمان
لم يزل ناضر
في دم الشاعر
مثلما كان •••
في ربى الأسرار
حيث لا شهوه
قالت الأزهار
للربوه: «انظري عينيه، يا أمي
فالهوى باق بعينيه
جفنه، كم ذاب في حلمي
كحل جفنيه
ما أحيلى هذه الخلوه! ... هل سمعت الحب، يا أخت؟
عاد مشتاقا كما عدت»
فأجابت أمها الربوه: «عاد يا بنت
قلبه الولهان
هكذا كانا
عاد ولهانا
مثلما كان!»
اليتيم
حرم الجمال على سريرك يحلم
وعليك من سور الهوى متردم
والشمس تبر في أديمك كلما
شب النهار نما وأينع موسم
لبنان يا ريف السماء وثغرها
في كل شبر من ترابك ملهم
ما أنت بالبلد اليتيم وإنما
في كل عين لا تراك تيتم
لك في الفصول على الطبيعة ذمة
وعلى الجمال مؤخر ومقدم
فمن الشتاء أب يدب بصلبه
جيش من الخضر الجني عرمرم
ومن الربيع أجنة لم يختمر
في مثلها نور ولم يطهر دم
ولك الشباب كريمة أغصانه
في الصيف ترتزق الجنان وتولم
وإذا الخريف تكمشت أعراقه
أجرى الفتوة فيك حتى المأتم
لك من شبابك أسرة ميمونة
فأب يفيض ندى وأم ترأم
ما اليتم أن تشقيك أم أو أب
اليتم أن تزريك عين أو فم
إن اليتيم من امحى وجدانه
هو من يسوق الظلم لا من يظلم
هو حاكم يشقى اليتيم بعهده
جورا ومن خبز اليتامى يطعم
الحز ينكر إن أتى بنصيحة
والعنكبوت إذا تثعلب يكرم «يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ» الأرقم
كل امرئ شطران في سلطانه
رأس له يحنى وقلب يشتم
في كل مأدبة يسيل لعابه
كالهر يؤمن شره إذ يلقم
عسل الزبيب يسيل من أحداقه
وعلى سريرته يجف الحصرم
يخشى لضعف يقينه همس الصدى
ويرى الشفاه كأنها تتهكم
وله من الأبواب أنظار ترى
ومن السقوف مسامع تتفهم
يا حاكما في أي يوم تستحي
أولست تدري كيف أنت وتعلم؟!
هو مرشد خبز السماء طعامه
يصغي إلى أسرارها فيترجم
سور التقى تتلى على فمه وفي
وجدانه الهاري تفح جهنم
الدين حانوت يبيع به الرجا
والله نهب في حماه مقسم
وله كلام في السياسة فاصل
خطأ الشرائع أن يعاب فترجم
أأبا اليتامى، والحياة قصيرة،
ماذا يعلمك اليتيم الأعظم؟
لك في الجحيم متى تهم إلى السما
في كل إسطبل يحمحم مرجم
هو عاشق لم يدر ما شيم الهوى
فإذا أحس فعرقه المتأثم
روح مهرأة ولحم جائع
وفم ينم ومقلة تتضرم
ما بين غدرته وبين يمينه
إلا تسلف حاجة تتكتم
فحذار من جرح الهوى فجراحه
يبقى الأذى فيها ويفنى المرهم
تالله عصرك يا جميل، فعصرنا
فيه رقي للهوى وتقدم
الفاجر الزنديق فحل راشد
والعاشق العذري أبله مسقم
يا بثن كم يحلو زمانك حينما
تصفو لنا ليلى وتغدر مريم
ماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
إلا يقولوا إنه بك مغرم؟!
1 •••
هو تاجر أدنى وأبخس سلعة
وجدانه، يعطيه لا يتلعثم
حجر تحجرت العيون بعينه
فالناس نقد والمصائب أسهم
حتى دموع البائسين شهية
في قلبه إن كان فيها مغنم
يا تاجرا تعلو به أسعاره
مقدار ما يدنى الضمير المجرم
ستذوب في الدنيا كأنك تركة
بيد المبذر أو كأنك درهم
هو شاعر إن لم يذق ألم الهوى
يكفيك منه أحرف تتألم
ما الشعر إلا حلية براقة
خزف يغرك أو زجاج يوهم
صور الحياة كثيرة ألوانها
وأحبها ما قد حواه المعجم
هو شاعر تلد الشموس صريحة
من حوله أسر الجمال ويبهم
إن اليتامى من يمجهم الورى
ليس اليتامى من يضم الميتم
شوقي وحافظ
لا لقوم ولا لدين
أنت للناس أجمعين
أهلك الوحي والهدى
دينك الحق واليقين
سرت في الأرض رافعا
مشعل الخلد في الجبين
فكأني بك السما
أودعت في لظى وطين
أنت للجيل، إنما
للذراري بعد حين
للطغاة المهدمين
للبناة المشيدين
للملوك المخلعين
للعبيد المتوجين
للصعاليك، للذين
خدروا الأسد في العرين
للزناة المسيطرين
للأباة المستعبدين
أنت للشوك، للورود
للنبيين في القيود
للبذيين، لليهود
للنصارى، للمسلمين
لا لقوم ولا لدين
أنت للناس أجمعين
مصحف قصت السور
فيه أسطورة البشر
كلما أسمع العلى
آية شرف المدر
حرم الوحي لون ال
حب في عدنه الصور
فعلى كل صورة
مرضع القلب والبصر
صور غمن بالرؤى
وتجلين بالفكر
فكأني بهن أح
درن من عبقر أثر
يا فخورا بزفرة الش
عر والحب في الوتر
هازئ القلب بالطرر
ضاربا بالدمى الأخر
نسك الفن حين قب
لته فيك وانحصر
أيها الحارس الأمين
هيكل المنطق المبين
يا أمير المشردين
إخوة الشمس والقمر
ما الصبى في ترنمه
في هواه وفي دمه
وصباح الربيع يف
تر عن عاج مبسمه
والمساء الولهان يصغي
لهمسات أنجمه
والأقاح البريء ين
فث أحلام برعمه
مثل سحر تذيبه
روح شوقي بمرقمه
ما الهوى في تألمه
والدجى في تجهمه
والسما في انتقامها
واللظى في تضرمه
وصراخ البريء في
نزوة من تظلمه
والمعري على الورى
ثائرا في تهكمه
مثل شوقي تثيره
غضبة من جهنمه
ما على النور واللهب
وعلى الزهر في الهضب
إن أتت شاعر العرب
نائحات بمأتمه •••
بلبل الأرض والسما
ناشر النور فيهما
مالئ الأرض حكمة
وسما الحب أنجما
يا أخا المعدمين ما
كنت في الناس معدما
إنما البؤس ذقته
في فؤاد تألما
في نفوس تظلمت
وشعور تظلما
عشت كالنور ملهما
وكعباس متخما
ثمن الغار ما دفع
ت دموعا ولا دما
إيه شوقي فحافظ
كان أشقى ... وأعظما
كان يستلهم البئو
س وتستلهم الدمى
كنت تغفي متيما
حين يغفي ميتما
عرشك الشعر والذهب
عرشه الشعر والخشب
آه! في دولة الأدب
أي ملكين كنتما؟! •••
عشت في النفي مثلما
عاش في الخمرة الحبب
بين أسمى من الجلا
ل وأشهى من الطرب
عشت فيه كبلبل
مر في العيد واحتجب
حاملا من جناحه
رعشة الحظ في الزغب
لست أنساك طائفا
في اليواقيت والذهب
في قصور الحمراء تس
تنطق المجد في الخرب
تسأل الفن، رافع الر
أس، عن أسرة العرب
فأرى من أمية
فيك ظلا من النسب •••
ثمن الغار ما دفع
ت دموعا ولا تعب
إيه شوقي فحافظ
كان في بؤسه أحب
كان يغفي ميتما
حين تغفي متيما
أي ملكين كنتما
أمس في دولة الأدب؟!
الحر
لبيك يا قلب، ماض فيك ناداني
خبأت في عطره حبي وإيماني
أيام كان الهوى الغريد يضحك بي
ويرتمي مرح الدنيا بألحاني
وكان للناس آمال محبرة
تفككت عن كلابيب وأرسان •••
فقد دهى الحكم أمر لا مرد له
هان القوي له، واستأسد الواني
كانت له القرعة الحمقاء في بلد
بلا النقيضين من جهل وعرفان
فكان كالجهل للعرفان عجرفة،
وكان للجهل كالعرفان عرفان
عذيره ومضة في ليل مدلج،
باق له أمل، في قلب حيران
كسائح ضل في صحراء محرقة
كأنها قلق في حلم ظمآن!
يمشي، وللنار في أجفانه زبد
على لظى الرمل، من واد لوديان
وللسراب خيانات على فمه
كأنها هزء شيطان بإنسان
حتى أصاب سراة العصر ناحية
يمج فيها سحاب الظل كهفان
فما تخير، بل أهوى على ظمأ،
فصادفت شفتاه حلق ثعبان
في ذلك الزمن العاتي لبست فتى
ألم في خلقه أمجاد غسان
من سالف الكرم المسلوخ عن يدنا
باق على يده إيماء إدمان
أحلام لبنان أجساد على فمه
كأن لبنان لم يبرح كلبنان
تصغي إلى السحر يحييه به، فترى
في كل رابية بعثا لإيوان
وليس كالفأل في الآداب داعية
لهدي حيران، أو تنبيه وسنان
وكالخيال لسان يستفز به
شعب أبي إلى تجديد بنيان
وكان أن البيان الحر في دمه
أشاع حقد اللظى في الحاكم الجاني
فقال: نهجك فيما تدعي خطر
على الرعية، يحدوها لعصيان
أما سمعت صدور الشعب تهتف لي؟
فالشعب ملكي، والأيام أعواني!
فأغمد الحر في عينيه فوهة
من ناظريه، كبركان ببركان!
وقال: ملكك ليس الشعب، يا ملكي
فلست تملك إلا بعض عميان!
كن من تشاء، كن الدنيا بكاملها،
فلست تعدل صديقا بميزاني
جمال قلبي عريان على شفتي
ونور نفسي معقود بأجفاني
وكيف أكذب، والدنيا تصارحني
حتى قشوري، حتى جسمي الفاني؟!
انظر إلى النهر في صفو وفي كدر
فهل تخفى على الصفصاف والبان؟!
للنور، في كل مجرى منه مصقلة،
وكل منعطف للحب ثديان
وانظر إلى حرمون الشيخ كيف بدا
فهل لهيبته الشماء وجهان؟!
فذلك الجبل الجبار أطعمني
قوت النسور، وهذا النهر رواني
خفف عتوك واغسل قلبك الجاني
للظلم يوم وللمظلوم يومان
عرش العتي على بركان منكره
شتيمة رخمت في قلب سكران
ما كان سلطان هذا الشعب سيده،
إن السيادة ما احتاجت لتيجان
هذي الرعية، مهما تطغ، نافرة
ومن تكن، لست فيها غير سلطان ...
تعصي ضميرك والدنيا تناط به
وحين أعصي ضلالا فيك تنهاني؟!
فاخلع وبدل، لك الحرباء قاعدة،
لك الوداعة والطغيان ثوبان
من أنت؟ أنت يد سوداء ما ارتفعت
إلا لتفريق أحباب وإخوان
من أين أنت؟ من الفحشاء لو شعرت
روحي بها لم أبع سهلي وأظعاني
من جاءنا بك؟ حمق الشعب، يا ملكي
لا بؤسه، فبك الهدام لا الباني
لقد بطرت فلم تستر مخدرة
وقد زنيت فلم يهنأ حبيبان!
لك الحسام على رأسي تسرحه،
ولي عليك، ولو حجبت، عينان!
لم يبق غير ثمار منك فانية
خدائع نتنت في بعض عيدان
أما سمعت هبوب الريح؟! إن له
صدى تزحف أشباح وأكفان!
فدمدم الحاكم الغضبان، وارتسمت
عليه أشباح غيلان وحيتان
وأصدرت نفسه ما في قذارتها ال
حمراء من شهوة للأحمر القاني
وصاح: إن يك ذا حد لسانك بي
فلي لسان عليه الموت حدان
فحملق الحر في العاتي، وقال له:
أقضي غدا أو أموت اليوم سيان
فكل ما أبتغي أن لا تقاطعني!
دعني أكمل دفاعي، أيها الجاني!
فليكس فارس
تذكرني، وحقك ما نسيت
وهل أنسى شجونك ما حييت؟!
أحسك في الحرارة من حنيني
كأنك في غليل دمي تبيت
وأسمع منك ما أسمعت قلبي
وقد غدر الحبيب المستميت
يغرق من عيونك في عيوني
هوى ساه ووجدان شتيت
تقول: «أرى على وقبيك خمرا
إذا وصفت تنكرت النعوت
أخاف عليك من دمها فإني
بذلت لها الحياة وما رويت
هواك هواي قلبك مثل قلبي
كما تهوى على مضض هويت
سلكنا معضل الدنيا» ولكن
شفيت من الشقاء وما شفيت
تراب القبر أسلم من فراش
على جنبيه ثعبان وحوت
رأيتك تملأ الدنيا ضياء
وفي عينيك تحترق الزيوت
وتفنى في المحبة وهي بكر
ويسمن حولك البغض المقيت
وقلب الحر آفته هواه
وآفة وحيه الأدب النحيت
ففيه يحقر الخز الموشى
ويكرم في سواه العنكبوت
تكلم يا فليكس فنحن صرعى
وفي أعماقنا حلم يموت
وعلم كيف تكتسب المراقي
وكيف تشاد للأمم البيوت
وكيف صواعق الأفكار تهوي
وكيف يجلجل الشعب الصموت
أفتش في سكوتك عن بياني
فيخرسه بروعته السكوت
وأبحث عن شعاعك في سراجي
ولي من زيتك العلوي قوت •••
سمعت المنبر المحزون يشكو
فتتضع الأرائك والتخوت
يقول: «رزقته أشهى طعامي
ولما اشتد ساعده قويت
أبر الولد بالآباء خلقا
وأقربهم إلي إذا زهيت
على عريي نما أملا ولما
أظلتني ذراعاه كسيت
وكان وكنت صمصاما وغمدا
تجللني البروق إذا عريت
يلف وتينه خشبي فيحيا
وينبض لي به شرف وصيت
وكنت أود لو ذوبت نوطا
له وإلى سريرته رقيت
ونوط البعض تحرمه الأعالي
ويمنحه الزبانية التحوت»
سمعت عروس شعرك في خيالي
تقول: «عشقته حتى اشتهيت
ففي عينيه ذوب السحر يرغي
وفي أهدابه المسك الفتيت
بذلت له الخطايا من عروقي
وحين لمست مرشفه نقيت
وأطلقت الروي له جواري
قيان في مزاهرها ربيت» •••
سمعت بلادك الثكلى تنادي: «لي الغطريف والرجل الثبيت
لي الأنوار في عنت الليالي
إذا ما راغت الدنيا العنوت
لي الفصحى على أدب بليغ
ومن ألبان ثدييها سقيت
وليس لي الضواري في خدوري
تسرتني وكالسلع اقتنيت
يقعقع في مشافرها سميج
وأدرد أشنع الدعوى هريت
عذيري من مماليك موال
لهم خطط وليس لهم سموت» •••
سمعت القبر ينفث من دجاه
حديثا فيه أشجاني الخفوت
يقول: «إلي يأتي كل حي
ويبقى في ترابي ما بقيت
يقيم اثنان في دنيا سكوني
فتى يفنى وآخر لا يموت»
بشر بن عوانة
أتجهل قدر بشر؟! إن بشرا
لأرفع منك في الناسوت قدرا
نما بين الأباعر في البراري
وغير الكهف لم يعرف مقرا
ولكن حل في برديه وحي
كفاك تفاخرا وكفاه فخرا
وهل في بردتيك سوى دعي
تسود في القبيلة حين أثرى؟!
رأت بشرا عجوز ذات يوم
وقد حزرت به وطرا وأمرا
فقالت: «أنت تبحث عن عروس
وبابنة عمك المضياف أحرى»
فقال لها: «وهل هي ذات حسن؟»
فقالت: «إنها في الحسن بشرى
لها شعر كأن الليل منه
تمنى البدر فيه أن يمرا
كأن ذؤابتيه حبال أسر
تشد بها قلوب العرب أسرى»
فخف لعمه نشوان جذلا
وكاشفه، فلاقى منه زجرا
فقال له: «أبيت اللعن، قل لي
أفاطمة لغير دمي تسرى؟
أتأباها علي ومن ذراعي
لآمال القبيل عملت جسرا
فمن لك في الرعية غير بشر
يرد غوائل الغزوات حمرا
وكم بكر وهبتك من دمائي
وتأبى يا ظلوم علي بكرا»
وهام مشعث الأحلام غيظا
يخرب تارة ويعج أخرى
وثار على قبيلته بضر
فكان الذئب فتكا أو أضرا
فضج بنو الرعية من أذاه
وأوجس عمه خوفا وذعرا
فقربه إليه وقد تحرى
له شركا ليوقع فيه ذمرا
وقال له: إذا ما كنت شهما
أنلني من خزاعة منك مهرا
فدبت سورة العربي فيه
وأسرج مهره حتى يكرا
وجنب في حمالته جرازا
لهيب الموت ينفث منه جمرا
وكان الجو مربدا رهيبا
كأن من الجحيم عليه سترا
فسامره حفيف الغاب حينا
وحينا سامرته طيوف ذكرى
وفيما بشر يطوي البيد طيا
وينشرها على الآمال نشرا
إذا بالمهر أجفل واعتراه
جمود دمى وأحجم واقشعرا
فأغمد في الدياجي ناظريه
فأبصر في ثناياها هزبرا
وفاضت نشوة من مقلتيه
مشعشعة فقال: عقرت مهرا
وحين جذا انتضى السيف المروى
وقال: اثبت فإنك لن تفرا
فلست براجع يا ليث حتى
يصر بك الذباب الغث صرا
وأقدم مثبت الأبصار فيه
فكان كلاهما أسدا تسرى
وكان الليث يفرق منه طورا
ويبسط تارة للوثب ظفرا
وفي ألحاظه لهب غضوب
يراشقه به شفعا ووترا
ينش بشدقه زبد حرور
وينفث صدره حمما أحرا
وضج الغاب فالدنيا صراع
تفجر في رواق الليل شرا
وحين رآه أرسخ منه بأسا
تذأب والغضنفر كان حرا
وأطلق بشر منصله عليه
فقد له من الأضلاع عشرا
وثار الكون ثورته فألقى
على الليل الحسام فدار فجرا
وأسكر مشهد الضرغام بشرا
وكم شرب الدم المهراق خمرا
فقد قميصه عنه وأملى
عليه بالدم المطلول شعرا «أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا؟!»
ووالى سيره يمتل فيه
ليبلغ مأربا قد كان وعرا
وأنداء الصباح تفوح طيبا
ويسكبها النسيم عليه عطرا
وفيما الحب ينهبه عراه
فحيح مر في أذنيه مرا
وأبصر حية طلعت عليه
من الأدغال مثل الترب سمرا
أذاب الصبح خمرته عليها
فمالت من خمور الصبح سكرى
وشعت كالزجاج وقد تلوت
على أعشابها بطنا وظهرا
فقال: «أخوك كان علي وقرا
ولكن أنت أثقل منه وقرا
فهل بعثت به روح تردت
بجلد الأفعوان تروم ثأرا؟!
ولاقاها بصدر راض صبرا
ولاقته بصدر ضاق صبرا
فكانت تنثني عنه اغتيالا
وتنشب رأسها للفرس غدرا ••• «ترى ماذا يحل بنا إذا ما
أصيب بنكبة؟ الله أدرى
فبشر مرجع الفرسان فينا
وحامينا إذا الجو اكفهرا
بعثت به إلى حتف ذميم
كأني للقبيل حفرت قبرا
فإن يسلم من الأسد ابن داذا
فلن ينجو من الأفعى طمرا»
وشمر للحاق به، وكانت
دماه تثيره والعين شكرى
على فرس كأن الجن تعدو
برجليها فتختفيان سحرا
ولما أدرك ابن أخيه حيا
يروغ الوحش منه جذا وخرا
وقال: «اعدل عن الأفعى فإني
رأيتك أرحب الأعراب صدرا
لأنت أحق من أمراء قومي
بفاطمة فكن لي ابنا وصهرا»
فألهبت الحماسة كف بشر
فصعد سيفه المصدور جمرا
وأطعم خصمه يسرى يديه
وأجرى الموت من يمناه نهرا
فقبل عمه يده بحب
وقال: «أتيت أطلب منك عذرا
ألا عد بي إلى حيث السرايا
تقيم لعرسك اليوم الأغرا
فقد شهدت صخور الغاب يا ابني
بأنك فارس الأعراب طرا»
وعادا والغصون تميل تيها
كأن بها لما شهدته سكرا
وتعطف في الطريق على يديه
تقبل منهما يمنى ويسرى
وإذ كانا يجوبان البراري
وينثر بشر آي الفخر نثرا
إذا بملثم العينين نجد
تعرض في الطريق له مصرا
وقال: «كفاك تفخر يا عصاما
ففخرك مر في أذني فجرا
قتلت بهيمة وقتلت سوسا
وتملأ ماضغيك قذى ونكرا؟!»
فقال: «ومن تكون؟» فقال: «إني
نذير الموت جئت إليك جهرا
أنا دهر وأيامي سعير
إذا نازلتني نازلت دهرا!»
وفي غضب تبدى الموت فيه
على سيفيهما كرا وفرا
أصاب ملثم العينين بشرا
فأحجم عنه إخفاقا وقسرا
وصاح به: «أبيت اللعن فارفع
لثامك لا تظل علي سرا»
فقال الخصم، وهو يميط سترا: «أنا ابنك فانظر الولد الأبرا»
فعاود بشر تذكارات عهد
تصرم تاركا في الصدر ذكرى
وقبله وقال: «أراك يا ابني
بفاطمة ابنة الأعمام أحرى»
الحجر الحي
أمام تمثال فوزي المعلوف
أطبق جناحيك معقودا لك الظفر
فقد وصلت وشوط المجد مختصر
ما ضر وكرك أن تأتيه منطفئا
ما دام قلبك في جنبيه يستعر
أليس من ريشك المحبور مطرفه
هذي الفراخ عليها الأبرد الحبر
تركتها وعلى أكتافها زغب
وجئتها وعلى أبدانها أزر
هذي البواكير ما أوردت سحرتها
إلا ليخصب في آصالها الصدر
قذائف لن يرى فجر النسور على
أحلامها البيض إلا حين تنفجر
أتيته في النحاس الحي طيبة
عليه من روحك الأعراق والسرر
عيناك في الحجر المصبوب ساهرة
يقظانة فيهما أحلامك الغرر
تواجه الليل هول الريح صاخبة
ما ضرك الذئب جوعانا أو النمر
نيران عبقر في عينيك إن مردت
هوج الدجى فعلى عينيك تنصهر
مهما طغى الليل لا تشقيك زوبعة
ولا يجهم في أجفانك الحور
صلب على الدهر لا تهوي صواعقه
إلا على جانبي وقبيك تنتحر
يقظان والناس عمي في مراقدهم
سيان ناموا على ذل أم احتضروا
عار علينا ننام الليل هانئة
عيوننا وعباب الليل معتكر
لم يبق من رومة إلا صغائرها
ومن قياصرها إلا دمى كسر
وتشهد الصبح عرس الصبح منعقدا
على جبينك نور منه ينضفر
ولائم لك تزجى، من موائدها
العطر والنور والألحان والصور
والشمس بالجفنة الخضراء عاشقة
من مرشفيها دم العنقود يختمر
والدلب - كنارة الأنسام - مرتعش
فيه لكل نسيم عابر وتر
تشد جفنيك رؤيا لا قرار لها
كأنما الغيب في عينيك منحصر
عين العظيم ضياء الأنبياء بها
مر الجحيم ولم يطرف لها بصر
رفعت عنك ستار الناس منتفضا
أيحجب الخلد من يبلى ويندثر؟!
هذي الستارة كانت في تشددها
عليك آخر قيد شده البشر
كأنها وهي تنضى خلعة كذبت
من الفناء لحاء عنك يقتتر
منذ ابن مريم والأكفان هاوية
عن النبوغ وصخر القبر منحدر
كم في بلادك من نفس تود على
وقاح عورتها أن تسدل الستر
جاءت عروسك في حلمي تخاطبني
يصونها الملكان: الحب والخفر
شبابها قبل الأجيال في دمه
كأنه بجمال الله مؤتزر
في مقلتيها نجوم للهوى جدد
وفي يديها نجوم للعلى أخر
من جنة الحب غرس الخير ما نبتت
لو ذاقت الأرض من أثماره سقر
قالت: ثماري لم تبذل لغير فتى
جرت به الدعة الخضراء والكبر
كم شاعر نورت في روحه قبلي
فكل قبلة حب من فمي قمر
ولم أطأ قلبه إلا على زهر
وسادتي وفراشي قلبه العطر
وكم فتى بطر الإلهام في دمه
فقام يغصبني في شعره البطر
أطعمته شفتي حينا فساوم بي
كأنني سلعة تشرى وتحتكر
لما رددت عليه معطفي خجلا
صار الحطيئة في أحقاده عمر •••
أبا النسور، سقيت الموت خمرته
فصلبك المصطفى للخلد مدخر
ما ضر نسرك لم يعقب وقد نسلت
منه النجوم، ففوزي وحده أسر
لرب حي غدا في قومه حجرا
ورب ميت غدا حيا به الحجر
شاعر الليالي
إلى روح إلياس فياض
ملي النور قبل عهد البدور
فهو شطر من الضياء الكبير
أطلع الله في الحياة رجالا
غمروا لجة الظلام بنور
هم بدور الأجيال هم شعراء ال
أرض هم كهرباء هذا الأثير
كلما ذر شاعر في سماء
شعر الليل بانقلاب خطير
إنما الشاعر الحقيقي يشقى
بمجاجات زيته المنذور
كالمنارات تبعث النور في اللي
ل وتشقى في الشاطىء المهجور
أو دخان من المجامر يرقى
حاملا للنفوس عطر البخور
هو من نزوة النبوغ أذان
أن يرى البؤس شعلة في الصدور
وقضاء للعبقرية ألا
يبسم المجد في جناح النسور
هكذا الحكمة الخفية شاءت
فهي تخفي أقباسها في الضمير
تمنع النور عن عيون السلاطي
ن وتعطيه للمعري الضرير •••
أوحش الروض في الخريف فلا تس
مع فيه أغرودة للطيور
والزهور التي تنشقت ريا
ها تخلت عن خدرها للصخور
وسقوط الأوراق يسلخ في الفج
ر بقايا الآمال في المصدور
أين تلك الزهور ينفرط الصب
ح عليها باللؤلؤ المنثور؟!
يذبل الزهر في الخريف ويبقي
لبذور الربيع بعض عطور
هكذا الشاعر المحلق إذ يم
ضي وتبقى آثاره للدهور •••
لم يمت شاعر «الليالي» فعينا
ه تشعان في «الكتاب الصغير»
رب سفر أضاء هيكل نور
خلدت فيه مقلتا شكسبير
رب سفر محا قصور الدهاقي
ن وأعلى بالمجد كوخ الفقير
لا يموت «الفياض» والشعر حي
وعلى البؤس بسمة للثغور
وعلى محجر اليتيم من القل
ب دماء محمومة بالزفير
وقلوب الشباب تنبض للح
ب وتأوي إلى عذارى الخدور
لا يموت الفياض ما دامت الأر
واح تهتز لاختلاج الصرير
وجمال الأفكار من محرقات ال
قلب يمتد في شعاع طهور
والسماع الطافي على وتر الشع
ر يشير الهوى بمرد وحور
يا خيالا في الصبح خدر أجفا
ني ونورا في الليل كان سميري
قل لهم: أستريح في قصري المم
لوك من بؤس بيتي المأجور
ربح السيف فانيات القضايا
وملكت العلى ببعض سطور
ملك في دجنتي يتمنى
مبسم الفجر لو يكون سفيري
دولتي بالخلود نيطت لأني
لم أشدها بالعاج والبرفير
قل لهم: نمت في الحياة على الشو
ك مرارا ومرة في سريري
إن موتي على الرباب رقاد
ينتهي بي إلى صباح منير
يرقد الشاعر الكبير مرارا
إنما السر في الرقاد الأخير
قل لهم: تحطمون في الأرض كأسي
وبموتي تقدسون خموري
عق زهري الورى وقد يتمنى
قطرة للنفوس من إكسيري
زهر المجد لا يفتح للشا
عر إلا على ضفاف القبور •••
نم قريرا فسوف يأتي صباح
يمهد الروح لانقلاب كبير
وغصون الخريف لا بد أن تم
سي غصون الربيع بعد شهور
عودة جبران
خلعت عن الروح ثوب المدر
فخف العذاب وطاب السفر
وأقبلت، فالقمر المستهام
أخوك يناجيك خلف الشجر
وهذي بلادك مهد الزمان
يهز بها الشوق حتى الحجر
وهذا النسيم كما كان أمس
وهذي الجبال، وهذا الحور
وهذي الكهوف بصلب الصخور
جلال القرون عليها انتشر
وهذي عذاراك يا ابن الربيع
تناديك من شرفات القمر
وصنين ما زال جار السماء
وما زالت الهضبات الأخر
وإن تك تبصر في سفحها
سواعد دقت وخلقا ضمر
فروح بلادك لما يزل
وإن راغ منه صباغ الطرر
تبدل منه الإطار الهزيل
وهل يتبدل إلا الخبر؟!
حكيم الزمان وقيثاره
ومهد الهوى والحنان الأبر
هنا الحور فارقد قريرا فما
أحب وأقدس هذا المقر
هنا الأنبياء الألى قبلوك
فنبأت بالأدب المبتكر
هنا طهر الشعر في شفتيك
بنار الألوهة يا ابن البشر
سمعت عروسك منذ ليال
تنبئ بالحدث المنتظر
وفي يدها خشبات رباب
تشظى عليه الأسى فانكسر
وأبصرت وجهك هذا الصباح
يطفو عليه صباح أغر
فيغمره ببخور الحنان
ويمسحه بزيوت الكبر
ويعقد في شفرات جفونك
ذرات نور كرؤيا ظهر
كأن عرائسك الخالدات
وقد كسيت من رؤاك الحبر
أتتك تودع هذا الجمال
فذابت على وجهك المحتضر •••
عروسك عذراء من عبقر
أتتك مصبغة بالخفر
تذيب عليك رؤى الأنبياء
معرفة برموز السور
من السحر في مقلتيها رشاش
وللحب في شفتيها ثمر
فدغدغتها في خدور الربيع
وعانقتها في خدود الزهر
غزلت لها حوة في الجفون
تخدرها عفة في النظر
وغمست ريشة وحيك في
شفتيها ولونت تلك الصور
مشاهد أدميت قلبك فيها
وما زلت تدميه حتى انفجر
تبارك قلب تفيض رسوم
ك منه على كل لوح أثر
وجئت الورى بأناشيد حب
نقي كوجهك أو كالسحر
أناشيد ما صعدت قبل عهد
ك من حلق إنس ولا من وتر
أناشيد كانت على شفتيك
رضاع الهوى منذ كان الصغر
حلمت بأنغامها في الصبى
وعلمت أوضاعها في الكبر
رشيد نخلة
عذيرك من مستلهمين تصدروا
محط القوافي والرواء المعطر
ولبنان فجر الله، أصدق ما به
وأثبت ما فيه الجمال المبكر
ومن عينه نور ومن قلبه هوى
فربك في لبنان يهوى وينظر
ولبنان من عدن جبين ومهجة
جرى كوثر فيه وأزهر عبقر
وأعذب من غنى بلبنان بلبل
على شفتيه قام للحب منبر
ينثر من حلقومه ذهب الربى
ولبنان أغنى الأرض نورا وأطهر
وأكرم من غنى بلبنان شاعر
عرائسه دون القواميس حضر
يضن، على جرعى الكرامة، عزة
ويمرح في مرعى الجمال يبذر
رآني حواري القريض فقال لي:
أتاني هدى منه فقمت أبشر
أعلم عشواء الهوى كيف تهتدي
ومن مس في أعراقه كيف يشعر
وقال لي الأجداد من مسقط العلى
كبرنا به، والفضل بالفضل يكبر
وأولادنا مستودع لبذورنا
نكرم أو نخزى بهم حين نبذر
وقالت لي الفصحى غبطت لسانه
فمن «لغوة» للشعر هذب عنصر
وإن ضاق هذا الشعر وهو محرر
فما ضره؟! إن الكريم محرر
نما في مجاري الشمس عذب بيانه
فمنطقه الفوري كالشمس نير
ومر به لبنان أخضر كالهوى
فإلهامه كالحب ريان أخضر
أمن ساذج الأرياف أقبل وادع
وعن بلغاء العصر قام يكفر؟!
وقال لي «الباروك»: مر بشعره
عبيري، فمسك ما نشقت وعنبر
زلالي معقود بسكر لفظه
وطيبي معجون عليه مخمر
أراني فيه، فالنسيم نقية
معابره، والبطم نديان مزهر
و«للشوف» أرواح ترف كريمة
على وحيه، والوحي للروح معبر
وفي كل مرعى ضمه «الشوف» وائل
وفي كل كوخ ضمه «الشوف» جعفر
وفي كل مفتول إباء مخندق
وفي كل مكحول عفاف مسور
وقال أبو سعدى:
1
حييت بشعره
كأني فيه ما أزال أزمجر
وأعجب من لبنان يطرى جبينه
وما كان إلا الحق فينا يؤمر
ونحن مواليد الجمال وجنده
فما عندنا إلا الجمال مسيطر
وإن عريت من مرمر الأمس دارتي
ففي الخلق الموروث عاج ومرمر •••
تعبت ولم تقنط ومثلك يرتجى
وشعرك في الدنيا الحمام المطير
فمن جبل وعر إلى صخر شاطئ
ومن حمل الآمال لا يتكسر
الثورة العظمى
هذي الروائع من ذاك اللظى خلق
ما أضعف السيف حين الخلق يمتشق!
ما في الحديد ولا في النار منتصر
كلاهما في لهيب الحق يحترق
الله أكبر! كم في الفكر من شعل
حذار في ظلمه أن يبرق الحدق
إذا الضمير ونى في ردع منكرة
فاصبر لها فهناك الحبر والورق
لو يستشار حكيم لم يكن زغل
ولم يكن ظالم لو يسبر العمق
معابر الفكرة الحمراء كيف نما
على ثراك شبابا ذلك العرق
سبع وعشرون لم يفجع بها أدب
ولم يخيم على فتيانها نزق
مشى الشباب بها طوع الضمير فما
في السلم باغ ولا في الحرب مرتزق
هذا الشباب رضاع الحق في دمه
فكيف يسلم من في عرقه رنق
لم تبرح الثورة العظمى تراوده
ثديها الحمر في عينيه تندلق
مضى إلى المجد لم يشهد له مثل
ولم تشق لإنس مثله طرق
في كل صرخة عذراء جرى أمل
وكل وثبة جندي مشت فرق
بطولة حارت الدنيا بروعتها
أسكرة هي في النيران أم شبق؟!
هم الصعاليك، أقصى المستحيل لهم
فلو أقام بأحلاق الردى مرقوا
في كل جبهة صعلوك بدا ملك
وكل أمنية منه بدا شفق
لينين، أحلامك الغراء قد صدقت
فانفض ترابك، يكفي ذلك الغرق
لم يبق من شرعة الدنيا سوى رمق
والمستردون باق منهم رمق
بوركت يا نهضة للشعب ثائرة
هذي الروائع من إيمانها عبق
إن البقاء على الإيمان مرتكز
الأقوياء مضوا والمؤمنون بقوا
عودة الطيار
إلى روح فوزي المعلوف
بلد في مجاهل الأبعاد
مات فيه فتى الزمن
فامتطي الريح يا طيور بلادي
واحمليه إلى الوطن
عشق المجد منذ سحرة عمره
فغزا سره بأسرار شعره
شاعر يسحر الدمى بأغانيه
فتجري فيها الحياة بسحره
لو أصاخ الماضي البعيد إليه
لتمنى لو كان أذنا لعصره
ولو ان الزهور شمت شذاه
لتمنت لو خبأت بعض عطره
ولو ان الخيال جاراه في الري
ح لضل الخيال عن مستقره
ولو ان النسور خبرن عنه
لتمنين لو درجن بوكره
طار في عالم النجوم يدب الر
وح في عالم النجوم بأسره
يا له في العليا جناحا كأن الط
ير غارت منه فهمت بكسره!
اهجر الأرض وابن جدران عشك
في الخلود - على ذراك
طر ودعني أحل أخشاب نعشك
بنشيدي - لكي أراك
ليس للشاعر المسجى على الأح
لام نعش من الجذوع حجابه
إن نعشا تغلغل الخلد فيه
عالم ضاق بالشموس رحابه
المسامير فيه من منجم النو
ر ومن جنة الرؤى أخشابه
عالم أفقه الخيال الإله
ي ونور المخيلات سحابه
الشعور النقي كوثره المن
ساب والند والبخور ترابه
عالم قوته ثمار من الح
ب وخمر من السلام شرابه
نسمات الغفران هبت عليه
فتلاشت أتعابه وعذابه
عالم الخلد ليس يفتح إلا
لملوك الخيال والحب بابه
يا عروس الخيال قودي خيالي
وارفعيه - عن الوجود
ودعيني أسمع نشيد الجمال
إن فيه - معنى الخلود
فتح النعش لي فأبصرت قصر الر
وح قامت على قلوب عماده
ورأيت الفجر المذهب بالنو
ر أحاطت بعرشه أجناده
وتراءى لي الأثير بلون ال
عاج يقتات بالشعور جماده
ونجوم تموج فيها حياة
كل نجم منها يسيل فؤاده
والأعاصير والصواعق في زي
ي حمام، والليل ذاب سواده
ورأيت الخيال في ثوب ملك
تتنزى من الرؤى قواده
ورأيت الفكر الصريح إلها
لا يرى غله ولا جلاده
كان عيد في ذلك النعش لو أص
غى إليه الورى لزال حداده
وإذا بي أرى ملاكا عليه
تتشرد - رؤى دمه
فاض ذوب الشعور من رئتيه
وتجمد - على فمه
في يديه ربابة، وعلى جف
نيه كحل تحار في ألوانه
إن كحلا تراه مقلة الشا
عر تحنيط حبه وحنانه
هو «فوزي» أتى إلى الخلد لا يح
مل إلا العفاف من لبنانه
وسوى آلة الشقا في يديه
وجفاف الدموع في أجفانه
فأحاطت به من النور هالا
ت صباح كأنها من بيانه
وأتته النجوم في زورق الح
ب لتصغي سكرى إلى ألحانه
وإذا أبلون يأخذ تاجا
لؤلئي الإطار من تيجانه
وبذوب اللبان يمسح صدغي
ه وعطر الخلود من أدهانه
وتمشى في عالم الشعراء
صوت مأتم - هال السماء
حملته إليه ريح الفناء
أي سلم - يرقى الفناء!
قال للزهر أبلون: أطلي
واسمعي أي ضجة مشئومه!
أي صوت أتى يذر علينا
في حمانا كبريته وسمومه؟!
ما سمعنا من قبل ندبا كهذا
ورياحا كهذه محمومه!
فأطلت كواكب الخلد حيرى
ثم قالت بمهجة مكلومه: «... يزعمون السماء قد ظلمتهم
فغزت شعبهم وأردت نديمه!»
ثم سادت سكينة عقبتها
خلجات من الحصون العظيمه
ورأيت الخلود يصغي وشاهد
ت عذاراه خشعا ونجومه
تتلقى طوال أروقة الأو
لمب ألفاظ أبلون الحكيمه
ودوى صوت أبلون يقول:
ليمجد - فوزي الحبيب
أغلقوا القصر فالخلود الجميل
ما تعود - هذا النعيب
أي شأن للناس بالشاعر المل
هم لا شأن للتراب بنفسه «هو من عالم الخلود» ففي عين
يه نور من الخلود وقدسه
أطلقته الأرض التي قيدته
فانثنى عائدا لمسقط رأسه
نحن أولى به فهم ظلموه
يوم دسوا سما بخمرة كأسه
يوم راحوا يكدرون ندى الوح
ي عليه ويشمتون ببؤسه
أزعجوه عهد الشقاء، ولما
زف للخلد أزعجوه بعرسه
وإذا بالخلود يغلق في وج
هي فأهوي إلى الفناء ويأسه
وبقلبي مما سمعت نشيد
لم أزل مصغيا لرقة همسه!
صفحه نامشخص