من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
ژانرها
ويكون كل تأليف بلغة عصره وعادة أهل الزمان؛ فلكل عصر أسلوبه ولغته ومستوى ثقافته، وطبقا للجهد البشري بالرغم من بقاء بعض المصطلحات المعربة من عصر إلى عصر آخر مثل «الأسطقسات». (و) ثم يذكر أرسطو (مرة واحدة) مع أفلاطون (ثلاث مرات)، التلميذ مع الأستاذ، في «ماهية النوم والرؤيا»؛
15
فأرسطو هنا الفيلسوف المبرز تابع لأفلاطون حكيم اليونانيين راويا عنه أقواله في النفس بأن لها علما بالطبع، وأنها تحيط بجميع الأشياء المعلومة حسية كانت أم عقلية؛ فأفلاطون هو حكيم اليونانيين، آخر ما وصل إليه القدماء من علم، والكندي يستأنف العلم القديم بالعلم الجديد. وقد انتهى أفلاطون طبقا لرواية أرسطو إلى ما وصل إليه الكندي من قبل، ولم ينقله فقط أرسطو عن أفلاطون، بل اقتناه وتبناه؛ وبالتالي تتأكد السلطة العلمية للقدماء مرتين؛ أفلاطون العالم، وأرسطو العالم الراوي. ويستشهد الكندي بأفلاطون على أنه قال نفس الشيء قبله طبقا لرواية أرسطو؛ فالكندي هو العالم. ويتأكد قوله بحجة تاريخ العلم، أفلاطون عن طريق رواية أرسطو طبقا للأمانة العلمية، وعن طريق تأكيد ما قاله بالعلم والبرهان دون تقليد أو تبعية. صحيح أن الكندي يستعمل لفظ «فنطاسيا» المعرب، ويعني القوة أو التخيل، أي الرؤية والنبوة والأحلام؛ وذلك لأن الكندي أول حكماء الإسلام، وما زال المصطلح العربي لم يستقر بعد بين النقل والتعريب؛ فالقوة المصورة عند الكندي هي التي يسميها اليونان فنطاسيا، وليست الفنطاسيا عند اليونان هي التي يسميها الكندي القوة المصورة. الكندي لديه المسمى واليونان لديهم الاسم، ربطا للجديد بالقديم، واستمرارا لتاريخ العلم. وفي مقابل أفلاطون وأرسطو ذكر الكندي مصدرا موروثا، أو بالأصح واقعا محليا، هو حمزة بن نصر وذويه كنموذج لأضغاث الأحلام ونكس القول وتخليط الكلام، وهو من المرويات في الثقافة الشعبية الموروثة.
16 (ز) وفي رسالة الكندي في «العقل» يذكر أرسطو (ثلاث مرات)، وأفلاطون (مرتين)، وأرسطو هو الأول في الذكر. وقد تمت الإشارة إلى اليونان بناء على سؤال من الواقع، وليس تبعية لهذا الفيلسوف أو ذاك أو نقلا عن الآخرين؛ فالتعامل مع اليونان تعامل مع الواقع بعد أن أصبح الوافد جزءا منه، وكأننا مع الوحي والواقع وأسباب النزول؛ فالواقع يسأل والواقع يجيب. الواقع يسأل عن رسم قول في العقل واليونان تجيب، اليونان ككل وليس واحدا بعينه، حضارة الغير من لها باع في العلم، ومن حاولت الإجابة على الأسئلة قبل إجابة الوحي عليها، ثم يتخصص الآخر الوافد بالمحمودين منهم وإعلامهم وثمار أشجارهم، وأرسطو أحدهم، معلم أفلاطون. أرسطو هو الزبد، وصانعها هو أفلاطون. ويعترف الكندي بالجميل حتى في فهم الآخرين، ويحاول التوفيق بينهما؛ فحاصل قول الأستاذ هو قول التلميذ؛ إذن ما حاوله الفارابي فيما بعد ليس جديدا، بل بدايته عند الكندي، وهو مشروع حضاري إسلامي استمر أيضا في الحضارة الغربية في عصريها الوسيط أو الحديث، ثم يبدأ الكندي بأرسطو بعد كل هذه المقدمات ورأيه في العقل ثم يبني عليه، ويطوره، ويكمله، بناء واضحا سهلا؛ فالعقل أربعة أنواع؛ الأول: العقل الذي بالفعل أبدا. والثاني: العقل الذي بالقوة، وهو للنفس. الثالث: العقل الذي خرج من النفس من القوة إلى الفعل. والرابع: العقل الذي يسميه الكندي الثاني، العقل بالحس لقرب الحس من الحي، وعموم ذلك يسمى العقل. لم يقل الكندي إن العقل الذي بالفعل هو أبدا العقل الإلهي في بداية التحول من الكلام إلى الفلسفة، ومن العقيدة إلى الفكر الخالص.
17
يتفلسف الكندي ثم يستشهد بأرسطو، سلطة القدماء وثقافة العصر، على صدق تفلسفه. أرسطو يأتي بعد الكندي وليس قبله. الكندي هو المقروء، وأرسطو هو القارئ، كما كان ابن رشد هو المشروح، وأرسطو هو الشارح. يأتي الكندي بحججه الداخلية ثم يأتي أرسطو بحجج خارجية؛ فأرسطو هو الذي يتفق مع الكندي، وليس الكندي هو الذي يتفق مع أرسطو. ولو كان هناك خلاف لأعلن عنه؛ فالموافقة تعني احتمال المخالفة. (ح) ويذكر الكندي في «الحيلة لدفع الأحزان» الإسكندر (خمس مرات)، منها أم الإسكندر (مرة واحدة)، وسقراط (ثلاث مرات)، ونيرون (مرة واحدة)، وشخصية الإسكندر الأكبر في الفكر الإسلامي وعلاقته بأرسطو نموذج الملك الفيلسوف والفيلسوف الملك، رفقة الفكر. وقد نسج الخيال العربي الإسلامي قصصا وحكايات وأساطير حول الإسكندر الأكبر وعلاقته بأمه وأستاذه وجنوده، بل ووروده في القرآن في قصة ذي القرنين، وأصبح موطنا خصبا للانتحال. كتب الإسكندر إلى أمه رسالة يوصيها فيها بدفع الأحزان بداية بنداء «يا أم إسكندر»، كما هي عادة العرب. وربما هي قراءة عربية لوصايا الإسكندر، البداية تاريخية، والنهاية إبداعية. ويضرب الكندي بالإسكندر المثل في الحيلة الرابعة لدفع الأحزان؛ الشعور بالتأسي بالماضي، والإحساس بتيار الشعور الجارف. وتظهر عبارات أرسطو ومصطلحاته على لسان الإسكندر، مثل الكون والفساد. هل كان الإسكندر في أقواله وأفعاله فيلسوفا حقا، مخلصا لتعاليم أرسطو، أم أنها قراءة سقراطية أو أرسطية للإسكندر وتحويله إلى مثال؟
18
ويشير الكندي إلى سقراط اللاتيني في حكاية بعد البرهان المنطقي لتصويره في سيرة من لا يحزن؛ لأنه لا يقتني شيئا يحزن لفقده، سواء كان اقتناء الأشياء أو اقتناء العواطف مثل الحب، وتحديده بالأثيني أي المغاير للعربي الإسلامي. كما يذكر الكندي حكاية أخرى للملك نيرون مع الفيلسوف وهو سنيكا دون أن يعينه الكندي بشخصه اكتفاء بالموقف، وتفيد نفس المعنى؛ الفرح الظاهري بامتلاك الشيء الثمين يسبب الحزن على فقده. ولم يلتزم الكندي بنص معين، بل بين احتمال الوضع الأخلاقي للتاريخ. وتدل الحكاية على حضور الوافد الروماني مع الوافد اليوناني. وأخيرا يقوم الكندي بتصحيح أقوال اليونان باعتباره مسئولا عن تراث الأقدمين؛ فيصحح قول أبسقلاس في المطالع، ويراجع اختلافاتها بعد مراجعة كتب القدماء في علم حقيقة الكواكب ومعرفة ماهيتها، وينقد أرسطو القدماء اعترافا بإمكانية تقصيرهم كبشر.
19 (2) آليات الإبداع. وكما جرت العادة في محاولة وضع منطق للفكر ونشأة النص وتكوينه في آليات الإبداع في الشرح والتلخيص والعرض، فإنه يمكن اتباع ذلك أيضا في التأليف وعلى نسب متفاوتة. وأول شرط للإبداع هو التمايز بين الأنا والآخر؛ فبالرغم من هذه القدرة على تمثل الوافد واحترام القدماء وتعظيمهم، إلا أن هناك تباينا وتمايزا وتقابلا بين الأنا والآخر، والحديث عن الأنا بضمير المتكلم الجمع، منفعتنا، منافعنا، لساننا، مطلوباتنا، شكرنا، زماننا، مددنا؛ ومن الأفعال أشركونا، أفادونا، خرجنا؛ ومن الأدوات لنا، عندنا، قبلنا؛ وذلك مقابل الآخر في ضمير الغائب المفرد والجمع، الاسم والفعل مثل هم؛ إنهم قصروا، سهلوا، فكرهم. وأرسطو فيلسوف اليونانيين، وليس فيلسوف المسلمين، وصفا للتمايز بين الأنا والآخر؛ وسقراط الأثيني، وليس البغدادي أو البصري.
20
صفحه نامشخص