من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
ژانرها
وأرسطو هو نموذج العقل الكامل مثل الأولياء، نموذج الإشراقي الكامل، وليس المنطقي الطبيعي، قراءة للوافد بألفاظ الموروث. ويستعير ابن باجه لوصف حالة كون الفعل في ذاته وبذاته تشبيه الإسكندر للكامل ورجوع ذاته بذاته، الراجع والمرجوع، الذات والموضوع؛ فيكون روحانيا لا جسمانيا، ولا يحتاج في وجوده إلى جسم ولا قوة جسمانية.
ومن الموروث يحال إلى أبي نصر والغزالي، ومن المؤلفات إلى كتاب الملة، ومن الفرق إلى الصوفية.
17
وصورة الفارابي عند ابن باجه أنه شيخ يدعو إلى تصفية النفس بذكر الله وتعظيمه في كتاب «الملة». ويؤيد ابن باجه الغزالي بالرغم من نقده له في «تدبير المتوحد» وفي «رسالة الوداع»؛ فطريق الصوفية، طريق الغزالي، موصل إلى المعرفة والسعادة ومأخوذ من النبي. ولا يوجد نقد لهم مع أن ابن باجه نقدهم من قبل مع الغزالي؛ فهو طريق قاصر على بلوغ الصور الروحانية. ويستشهد بقول بعض رؤساء المتصوفين: «ولو وصلوا ما رجعوا.» ومن ثم يغيب البرهان وإيصال الحقائق للناس. وقد أفرط الصوفية في وصف هذه الحالة، الخيالات التي توجد في نفوسهم حسب الظن دون التيقن من صدقها أو كذبها، مجرد نفس نزوعية لا تتصل إلا بالنفس الوهمية، ولا يتحقق من الصدق والكذب بالنزوعي المنطقي الذي يصيب النفس بحالة الفرح. أما النزوعية فهي أقرب إلى البهيمية.
وتظهر بعض الموضوعات الدينية، مثل الوحي والكهانة والرؤيا والفيض والملائكة والرسل والكتب، وهي موضوعات موروثة خالصة. قد تكون الرؤيا الصادقة بالوحي أو بالكهانة، ولا حرج من الاعتراف بأشكال النبوءات الأخرى. كما يتم العلم بالفيض على الملائكة، ومن الملائكة على عقول الإنسان طبقا لاستعداده، كما هو الحال عند الصالحين المخلصين المؤمنين بملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فيفيض الله عليهم بواسطة ملائكته في الرؤيا وحوادث العالم العجيبة. كل ذلك في موضوع النبوة وتركيب نظرية الاتصال عليها، والخيال في موضوع «بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول» على النحو التالي:
هناك إذن علاقة متبادلة بين العقل والخيال، كل منهما مصدر للآخر. وهو خليط إشراقي من الصوفية والغزالي وأبي نصر مع الاتصال مع الوحي. (ط) وفي «الفطر الفائقة والتراتب المعرفي» يظهر من الوافد أرسطو وحده، نموذجا للمتدين الكامل الإشراقي، وتوارى أرسطو المنطقي الطبيعي.
18
ولا يظهر من الموروث إلا آية قرآنية واحدة. والفطر الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني معدة لقبول العقل الإنساني؛ فالكمال هو العقل، قبول العقل الإلهي المستفاد من الله، وهي الفطر التي تعلم الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة والبقاء والسرور. والعلم رؤية ببصيرة النفس، موهبة من الله. ويؤدي بلوغ الكمال الإنساني إلى العلم الإلهي والكمال العقلي، وهما أيضا بصيرة للأشياء؛ فلا فرق بين العلم النازل والعلم الصاعد، بين التنزيل والتأويل. ويتفاضل الناس في هذه الموهبة التي هي بصائر القلوب، وأعظمها بصائر الأنبياء، يعلمون بها الله ومخلوقاته دون تعلم أو اكتساب، علما كليا بالله وملائكته، ثم يأتي الأولياء بعد الأنبياء. يأخذ أصحاب الفطر الفائقة علمهم من الأشياء، ما يوصلهم إلى العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى. ويظلون كذلك حتى يروا العلم بأنفسهم، ويرونه ببصائرهم حسب درجات الموهبة من الله؛ فيأنسون بالعلم، ويلتذون بالفكر، وينعمون بذكر الله، سواء نطقت بذلك ألسنتهم أم لم تنطق. يفيض الله عليهم بحسب الرؤيا جزءا يسيرا مما وهبه الله للأشياء من الاطلاع على المعنيات. ومن الأولياء صحابة النبي، وكل من أخلص وصدق. وبعد الأولياء طائفة وهبهم الله بصائر يتحققون بها تدريجيا حتى يصلوا إلى اليقين بالمخلوقات والعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة. تبرءوا من البدن، وحصل لهم الكمال، وهي السعادة القصوى، بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل. يدرك الإنسان أجل مطلوباته، وهو العلم بالله والالتذاذ به، يرضى به ولا يحاكيه. وبفطرته وبصيرته يهتدي إلى علم الأنبياء، فيصل إلى العلم الواحد من طريقين. ويفسر سورة الفاتحة، فيجعل المنعمين عليهم الذين وهبهم الله المعرفة، والمغضوب عليهم الذين وهبهم الله الموهبة ولكن يتبعون هواهم، والضالين الذين عدموا الموهبة.
والرسالة كلها خطاب ديني مطعم بآية قرآنية، سورة الفاتحة ، بالإضافة إلى آيات مرسلة حتى أصبح موضوع الرسالة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مضمونها الفقهي. تتأرجح بين الفطرة والاكتساب كما هو الحال في الأشعرية؛ لذلك كان الصوفية أدق عندما جعلوا الأحوال مواهب والمقامات مكاسب. كما تتأرجح بين المعرفة والوجود، بين العلم بالغيب والعلم بالواقع والمشاهد، بين الإيمان التعليمي والاستدلال الفعلي كما هو الحال في حكمة الإشراق. تجعل قدرات الأنبياء نظرية أكثر منها عملية، فهل الأمر لذة المعرفة أم شقاء الجهاد؟ ويتصور ابن باجه مدينة إلهية قمتها الأنبياء ثم الأولياء ثم فلاسفة الإشراق والصحابة والأولياء، ويستعمل مصطلحات الصوفية مثل الفناء والبقاء، ولغة اللذة والعشق، حرمانا من الدنيا وإشباعا في الآخرة، تطهر وثنائية مانوية وكأننا في «رسالة الطير» لابن سينا، أو رسائل إخوان الصفا. يفسر الفاتحة تفسيرا صوفيا صرفا، والوحي على نحو إشراقي، والسؤال: كيف يكون هذا الظن والفلسفة يقينا وبرهانا؟ وتبدأ الرسالة بالفطرة الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني المعدة لقبول العقل الإنساني، ثم العقل الإلهي، وهو عقل مستفاد من الله. وتنتهي بالمعقولات الأولى التي يعملها الله للإنسان المعد لأن يعلم بها بالموهبة من الله. وهو دور منطقي، لا يعلم الإنسان الله إلا بالموهبة التي يعطيها الله له، وكأن الله هو المهيئ للمعرفة وموضوع المعرفة، وأن الإنسان ليس له دور إلا السير في الطريق المرسوم له. (ي) وفي «الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي»، من الوافد لا يحال إلا إلى اسم كتاب «إيضاح الخير» دون مؤلفه، وهو منحول على أفلوطين أو برقلس؛ فالمهم الموضوع لا الشخص، حتى ولو لم يتم التعرف عليه تاريخيا ونسبته إلى صاحبه. ومن الموروث لا يحال إلا إلى عيون المسائل للفارابي دون ذكر اسمه، مقارنا بالغزالي في تأويل الكتاب واتفاقهما في الفيض من العلم الإلهي إلى العقل الإنساني، وهو موضوع أقرب إلى روح أفلوطين الإشراقي منه إلى روح أرسطو المنطقي الطبيعي. الرسالة كلها وثنية الطابع. إذ يفيض الله من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل، فيتقبل كل موجود حسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل من العلم حسب مراتبها، وكذلك الأجرام تقبل الأشكال والصور النفسانية حسب مراتبها، ومراتبها حسب أمكنتها. ولكل جرم سماوي خاضع للكون والفساد عقل ونفس. بالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على جهة التخيل، وبالعقل يعلم الإنسان العلوم المنزلة عليه من الله ما يتعلق بالماضي وبالمستقبل وما لم يشاهده بالعيان، غيب لا يطلع عليه إلا من يشاء من عباده بواسطة الملائكة. ويحدث العمل عنه في الأجرام بواسطتها؛ لأن أعماله بذاته عن علمه أو بتوسط عقلي أعلى من الإنسان؛ فالعمل فيض من الله مثل العلم، وفيض على العقول والأجرام، وليس على الإنسان جهد أو إبداع؛ ونتيجة لذلك سينشأ الإيمان بالقضاء والقدر. الرسالة كلها تصرف ودعاء ودعوات. تحولت من المنطق الطبيعي إلى الفلسفة الإشراقية والمواعظ الأخلاقية. لا فرق بين برقلس والغزالي والفارابي وابن باجه. وفي البداية يحيل ابن باجه إلى القضاء والقدر لتقدير الفيض والعلم، وفي النهاية يتحسر على الضلال، ويأسف للشغل بالأحوال والأهل، ويدعو القارئ إلى اغتنام التفرغ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
19 (2) آليات الإبداع
صفحه نامشخص