من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
ژانرها
72
والمسألة الأولى مذكور فيها أرسطو في السؤال دون الجواب؛ مما يوحي بإمكانية الجواب عن أرسطو دون ذكره؛ فالعلم مستقل عن الشخص. وهي السؤال عما أوخذ على أرسطو وعما أشكل على قرائه، هو سؤال نقدي استفهامي. لم أوجب أرسطو للفلك عدم الخفة والثقل؟ والإجابة لعدم وجود حركة من المركز أو إليه، في حين أن الوهم يسوق إلى أنه من أثقل الأجسام. ويظهر من كثير من الأقوال التمويه والسفسطة، ويجر إليه الخلاف في اللفظ بالرغم من الاتفاق في المعنى، حيث تعتبر الحركة إلى المغرب ضد الحركة إلى المشرق؛ فإذا ما تم تجاوز الألفاظ ظهرت المعاني. الحل إذن في جدل اللفظ والمعنى، وفي دور الوهم والسفسطة. حل المسألة إذن في المنهج واللغة أكثر منه في الموضوع والاستدلال. (و) وفي «جواب الشيخ الرئيس على سؤال أبي الحسن أحمد السباعي عن علة قيام الأرض وسط السماء» يبدأ التراكم الفلسفي الداخلي، وتبدأ الأسئلة من الواقع الفلسفي، لا من الوافد ولا من الموروث مباشرة.
73
تبدأ الأسئلة من الداخل؛ فقد أصبح الواقع مخصبا والأرض حبلى، وهو سؤال علمي عن العلة؛ فالعلم هو علم بالعلل، وهو لون جديد من ألوان التأليف أشبه بالفتاوى الفقهية وأحكام السؤال والجواب، مثل فتوى «فعل المقال» لابن رشد. ولم يذكر في أرسطو لأنه ليس هما ولا ضرورة ولا مصدرا وحيدا للعلم، بل ذكر فيثاغورس وديمقريطس إفرادا لهما بالتعيين في معرض ذكر آراء القدماء للإجابة على السؤال، وهي إجابات ثمان لعلل محتملة. ويذكر أصحاب فيثاغورس، أي الفيثاغوريون، كفرقة وتيار، وليس كشخص أو فرد، ويذكر كلاهما في سياقهم التاريخي مع أقاويل العلماء القدماء أو العلماء والقدماء، طائفة منهم بقول، والبعض الآخر بقول آخر؛ فهما يدلان على تقسيمات فئوية لتيارات فكرية وآراء فلسفية. السؤال من الحاضر التراكمي، والإجابات متعددة ومحتملة من الماضي الوافد، ومعظم الآراء الثمانية الواردة أقل علمية من تحليل ابن سينا العلمي. ذكر آراء القدماء من أجل تجاوزها، انتقالا من تاريخ العلم إلى العلم، من التطور إلى البناء، كما هو الحال في تطور الوحي حتى اكتماله في المرحلة الأخيرة. وقد جمع ابن سينا ذلك كله في فصل خاص هو الفصل العاشر لتعديد أقاويل العلماء القدماء، كما فعل أرسطو ذلك من قبل مؤرخا لآراء السابقين ودون تطويل في المناقضة. نقد القدماء وارد وإن لم يكن مستفيضا. يأتي التاريخ بعد اكتمال الموضوع عند الفصل الأول في التاسع، وكأننا أمام قانون الطفو. ظهور الموضوع على السطح بعد تراكمه في التاريخ، اليقين أولا والظن ثانيا، الحقيقة أولا والتاريخ ثانيا، الاكتمال أولا ثم التطور ثانيا.
وتسمى الطوائف على العموم دون تحديد ثقافاتهم، يونان أو مسلمين. المهم الرأي والموقف والاتجاه، وليس أصحابه وممثليه وقائليه. إنما تكون الألفاظ بين العموم والخصوص، القدماء الأعم والعلماء الأخص. للقدماء أقاويل وللعلماء آراء. والأقاويل أقل علمية وبرهانا من الآراء. وهي آراء يستحضرها ابن سينا من الذاكرة، وبها كثير من الإسقاط والصور. فسبب قيام الأرض وسط السماء لأنها متحركة على الاستدارة (فيثاغورس) وهابطة إلى أسفل، أو أنها ساكنة. ثم تنقسم الآراء في علة السكون، قيامها على الهواء وضغطه عليها (ديمقريطس)، قيامها مثل الحبة عليه، طفوها مثل طفو الصفيحة من الرصاص الواسعة، وإلا رسبت إن كانت صغيرة، أو لاستحقاق الجهات بها على التعادل، أو إدارة الفلك وحركته كما يتحرك التراب في قارورة تدور، أو جذب الخلاء، أو تحركها إلى الوسط عشقا لكليتها.
74
وتبدو آليات الإبداع في وصف مسار الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، وبيان مراحله وخطوات استدلاله المنطقي. وهذا الربط بأزمنة الفعل تدل على أن ابن سينا يتعامل مع أفكار وليس مع عبارات، وتتم المراجعة واستبعاد التناقض بحثا عن الاتساق، ليس فقط اعتمادا على اتساق المقدمات والنتائج، واعتمادا على البراهين، ولكن أيضا مع المشاهدة والتجربة. والاختصار أفضل من التطويل بعد بيان القصد، ليس فقط لدوافع العلم والفكر، بل لكثرة المشاغل وقصر العمر، ولوجود التفصيلات في مؤلفات أخرى، ولافتراض ذكاء القارئ وحسن قريحته، وما لديه من علم يغنيه عن التطويل. وتدل الإحالة إلى باقي المؤلفات على وحدة الموضوع واحتواء الفكر له. والتأليف أيضا للسلطان.
75 (2) البيروني
ويمثل عملان للبيروني (440ه) تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. (أ) الأول في الفلك «كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم». ويكون تمثل الوافد في العمق؛ أي أعلام قليلة العدد وكثيرة التردد، مثل بطليموس واليونانيون والروم، بالنسبة للوافد اليوناني، والهند والمجوس بالنسبة للوافد الشرقي، ويعظم الوافد الشرقي على الوافد الغربي، ويدل على ذلك أسماء الشعوب والبقاع. ويكون تنظير الموروث على الاتساع؛ أي كثرة الأسماء وقلة التردد، مثل السريان والنصارى والعرب والصابئة والحرانيون والقبط.
76
صفحه نامشخص