من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
ژانرها
51
ويتراوح عرض الفارابي بين وجود الله وعلمه. ويتحدث عن علم الله باعتباره وجودا واقعا، فمن الطبيعي أن علم الله موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه لم يزل ولا يزال ولن يزال موجودا يعلم يقينا ما يقع من أفعال البشر في المستقبل، ولكن علم الله المسبق الضروري لا يعني فرض الضرورة على الله أو أن يمنع الضروري إلى الممكن. كما أن العلم الإلهي المسبق بكل ما يقع من حوادث لا يمنع الإنسان من أن يكون حرا مختارا مسئولا عن أفعاله وإلا انتفى الثواب والعقاب. ولا يكفي القول بأن العلم الاضطراري اضطراري بنفسه بالإضافة إلى موضوعه لأنه غير واضح بذاته. إنما الأمر هو هل يجوز للشيء أن يوجد على التحصيل، أن يوجد وألا يوجد؟ وقد اختلف القدماء في ذلك. فقد رأى البعض أن ما لم يزل ولا يزال موجودا ليس ممكنا ألا يوجد، وأن ما لم يزل ولا يزال غير موجود لا يمكن أن يوجد. وآخرون جوزوا ذلك؛ وبالتالي جوزوا أن يعلم الله على التحصيل أحد المتقابلين. وهو أنفع في الملل فلا تناقض بين علم الله المسبق والفعل الإنساني القائم على الاختيار والروية. يضع الفارابي الفكر اليوناني في إطار تاريخه، ويفصل اتجاهات القدماء في موضوعه.
52
ويرفض الفارابي مقالة هزيود عن ظلم الله، والله لم يظلم ولا يظلم ولن يظلم، في الماضي والحاضر والمستقبل. ظلم الله لم يزل غير موجود ولا يزال غير موجود، وحتى تنفي الضرورة عن الله فإنه يظل ممكنا. فهو ضروري من جهة، ممكنة من جهة أخرى.
53
والعدل والجور مصطلحات إسلامية في مباحث العدل عند المتكلمين ثم نقل مصطلحات المنطق إليها، والعدل والجور والفضيلة والرذيلة ملكات، لكل منها عدم. إذا فقدت خلقها ضدها؛ لذلك لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة التي تدل على الطبيعة. فإن من الشنيع أن يوصف الله بالعدم السالب في حالة نفي الملكة فيقال الله ليس عدما، وهنا يرفض الفارابي نفي العدم عن الله إثباتا للوجود. ويرفض كل ما يسمى باللاهوت السالب. فالصفات التي تطلق غير محصلة أي غير قابلة للتضاد والتقابل. لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة. فالله ليس له عدم ولا يحتاج إلى إثبات وجود.
ونقل المنطق إلى الإلهيات يظهر حدود قضايا المنطق، وأن الله في الذهن الإنساني فكرة محددة لكسر حدة الضرورة المنطقية. لا يمكن تصور الله جوهرا ينتقل من الفعل إلى القوة على نحو طبيعي. فالله موجود بالفعل، جوهر أول، كان في عصر أرسطو يعتقد الناس أن الجواهر الأولى آلهة. ويرى «أهل زماننا» أنها ملائكة أو أنها مائتة في حين يرى زمان أرسطو أنها أزلية. وهي موضوعات تعليمية صرفة لا يمكن الاستشهاد بها للحكم على الموضوعات الأزلية. واضح أن الفارابي هنا يضع الفكر في التاريخ. فالعقائد تتغير بتغير العصور، تعدد الآلهة عند اليونان، والله الواحد عندنا. وأزلية الجواهر الأول عند اليونان، وخلق الملائكة عندنا.
54
ويظهر الأسلوب الإسلامي في بعض التعبيرات اللاشعورية مثل «اللهم» كما تظهر البيئة الدينية الإسلامية في أول المخطوط ونهايته من أجل وضع الشرح في بيئته الحضارية الجديدة، والانتقال من البيئة اليونانية إلى البيئة الإسلامية. يبدأ المخطوط بالبسملة، ويلقب الفارابي بالشيخ، ويدعى له بأن يرضى الله عنه ويترحم عليه. وينتهي بالحمدلة والصلوات على الرسول وآله، ثم ببيان تاريخ النسخ ومكانه. ويبتدأ النص بقال الفارابي؛ إعلانا عن بداية المخطوط ويعلن عن نهايته بانتهى، ويعلن عن عدد الفصول. يتم إذن التوحيد مع الموضوع، ويخرج الموضوع من الداخل وليس من الخارج، ويصبح جزءا من الثقافة الموروثة. وإن كان في البداية من الوافد. ولا فرق بين الناسخ والمترجم والشارح والفارابي فهم كلهم مؤلفون يتدخل الناسخ كأن الفارابي بالنسبة له آخر وأرسطو آخر الآخر. ولا أحد مقلد.
55 (ج)
صفحه نامشخص