من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
ژانرها
42
وفعل الكينونة في اللغتين يكون اسما وفي نفس الوقت يدل على زمان المضارع. ويقارن بين أدوات التعريف والأسماء المعرفة في اليونانية والعربية والفارسية، ولكن يظل العرب أكثر ذكرا من اليونان مما يبين نقل الوافد على الموروث وابتلاع الموروث للوافد، ثم الفرس والهند مما يبين قرب الفرس، وانتشار الثقافة الفارسية لدى العرب أكثر من الثقافة الهندية. ينقل الفارابي حضارة العقل اليونانية وحضارة السياسة الفارسية وحضارة الدين الهندية إلى حضارة الوحي الإسلامية. وقد أدت مقارنة اللغات عند الفارابي؛ العربية واليونانية والفارسية والهندية إلى وضع قواعد علم اللغة العام في كتاب «الحروف». وتتجاوز المقارنة مع الهند اللغة والرابطة وفعل الكينونة وأداة التعريف إلى المقولات الواحدة في كل الثقافات والمحسوسات الواحدة؟
43
ويهدف الفارابي من علم اللسانيات المقارن إلى وضع قواعد لعلم اللسانيات العام ودون أن يشار إلى لغة بعينها اليونانية أو الفارسية أو الهندية، لغات الثقافات الوافدة مثل حروف العطف والروابط وما يقوم مقامها في سائر الألسنة. ويكرر الفارابي هذا القصد باستمرار لدرجة شعوره هو نفسه بذلك. هناك بنية لزمان الأفعال في كل الألسنة. وكل كلمة لفظ دال في جميع الألسنة في لسان جميع الأمم. وفي كل لغة حروف العطف في سائر الألسنة. وأداة التعريف عام في كل لسان. واستعمالاتها أو ما قام مقامها في الألسنة في العربية وما قام مقامه في جميع الألسنة عند كل الأمم، والمعقولات واحدة عند جميع الأمم في حين أن الألفاظ الدالة عليها والخطوط المكتوبة بها مختلفة. ولو كانت الألفاظ طبيعة للإنسان لكانت واحدة بأعيانها عند جميع الأمم مثل المعقولات أما نسبة المعقولات للألفاظ فهي اصطلاحية شرعية؛ فالألفاظ والخطوط إذن بلغة الأصوليين اصطلاحية وليست توقيفية، من وضع البشر وليس بتعليم من الله. ويترادف الاصطلاح والوضع والشريعة عند الفارابي، وتعني الشريعة هنا وضع المجتمع وليست الشريعة الإلهية. فالمجتمع أو الرئيس الإمام يشرع للسلوك والأفعال كما يشرع اللغات.
44
وقد يظهر من شرح العبارة للفارابي منهاج إسلامي وباطني مستقى من علوم التفسير، العودة إلى الأصول، وتخليص النص القرآني من تأويلات المفسرين. فالنص الأرسطي هو مصدر فلسفة أرسطو وليس تأويلات المفسرين. وتفسير أرسطو بأرسطو مثل تفسير الكتاب بالكتاب. فأرسطو يفسر بعضه بعضا كما يفسر الكتاب بعضه ببعض. وقد يكون عرض اسم الكتاب ومرتبته وغايته وتحقيقه تقليدا إسلاميا أكثر منه شرحا لأرسطو وكما هو معروف في الصفحات الأولى في العلوم الإسلامية الشارح الإسلامي هنا يصحح أخطاء الشراح اليونان، ولا يعتمد عليهم، ولا يقتبس منهم، فهو غير المنتسب للحضارة اليونانية أكثر قدرة على الحكم العدل على النص اليوناني من الشارح اليوناني الذي ينتسب إلى الحضارة اليونانية. الشعور المحايد أقرب إلى الرؤية من الشعور المنتسب. والجمع بين أفلاطون وأرسطو رؤية إسلامية متكاملة تضع نصفي الحقيقة في الحقيقة الكلية، المثال والواقع، العقل والحس، الله والعالم، النفس والبدن، الآخرة والدنيا. كما يظهر الأسلوب الإسلامي الكلامي في تخيل المعترض والرد عليه، فإن «قال قائل» ... «فإن سأل سائل» حتى تكتمل الفكرة من جميع وجوهها ورد أوجه الاعتراض فيها مسبقا.
45
وهناك بعض الموضوعات الإسلامية غير المباشرة التي تظهر عند الفارابي مثل الفطرة والشريعة والوضع. يحيل المنطق إلى الفطرة أو إلى وضع الشريعة والقول. فنص أرسطو لا فطرة فيه إنما هو اصطناع وتركيب وحرفة.
46
وقد عرف الفارابي ذلك من علم أصول الفقه الذي حدد معاني اللفظ في ثلاثة؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي. يلجأ الفارابي كما سيلجأ ابن تيمية من بعد في نقد المنطق الأرسطي إلى الفطرة. فهي بديهية. بينة بذاتها، لا تحتاج إلى القياسات والتركيبات المنطقية. فهي تجب اللغة. هي عمل الشعور مباشرة فيما وراء الألفاظ. هي البداهة العقلية، الشعور العام، المشهور عند الجميع. فلا تعارض بين الفطري والمشهور. الفطرة هي الطبيعة الفردية، والمشهور هي الطبيعة العامة، فالمنطق كله الذي يعلم بالاكتساب من أرسطو يمكن أن نعلمه نحن بالفطرة. والفطرة اختيار وإرادة وروية. والفطرة في مقابل الوضع والشريعة والقول. الأولى طبيعة، والثانية اكتساب. الفطرة عند الفارابي مقابل التوقيف عند الأصوليين. والشريعة والوضع والقول هو الاصطلاح. مهمة المنطق والفلسفة البحث عن أشياء معلومة بالفطرة وليس إعطاء علم جديد عن طريق المقدمات والنتائج ولزوم الشيء عن الشيء. القضية البينة عند أرسطو يمكن معرفتها أيضا بالفطرة بصرف النظر عن كونها مشهورة أم غير مشهورة. وهنا يتم التحام أرسطو بالفارابي، والمنطق اليوناني بالمنطق الإسلامي عن طريق لحام الفطرة؛ فالفطرة هي القاسم المشترك بين الثقافتين وبين الفيلسوف. لقد عرف أرسطو الفطرة كما أثبتها الإسلام بعده بألف عام ثم أكدها الفارابي بعده بثلاثمائة عام، ولكن آباء الكنيسة لم يلحموا المسيحية بأرسطو. فلم تصبح الفطرة قاسما مشتركا بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية.
صفحه نامشخص