من النافذة
من النافذة
من النافذة
من النافذة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
بقلم طه حسين
إن الذين عنوا بإنشاء هذه السلسلة ونشرها لم يفكروا إلا في شيء واحد، هو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، لا يريدون إلا أن يقرأ أبناء الشعوب العربية وأن ينتفعوا، وأن تدعوهم هذه القراءة إلى الاستزادة من الثقافة، والطموح إلى حياة عقلية أرقى وأخصب من الحياة العقلية التي نحياها.
من النافذة
جلست ذات صباح في غرفة صغيرة ذات شباك عريض يطل على الطريق، وهي غرفة أوثرها في أول النهار قبل أن تعلو الشمس ويرفع النهار، صيفا وشتاء، وفي وسعي - وأنا قاعد على الطارقة (الكنبة) - أن أوارب الشباك فأرى ولا أرى. وأظل فيها حتى أدعى إلى الطعام أو يأني أن أنتقل إلى مكتبي أو أخرج إلى عملي. وأكثر ما يطيب لي فيها الجلوس في أيام الإجازات أو البطالة، أو ساعات الكسل والفتور، ومزيتها أنها في ركن قصي من البيت - أو الشقة على الأصح - وإن كانت على الطريق، وأني أكون فيها كالراهب المنقطع في صومعته، سوى أني لا أتعبد إلا بالنظر إلى خلق الله من الفرجة بين مصراعي الشباك الخشبي؛ وتتعدد المناظر تحت عيني، وتتنوع وتتوالى فتعجبني، فلا أشبع من النظر، فلو شئت - أو استطعت - لظللت هكذا جاثيا على ركبتي - فما أستطيع أن أتربع لهيض في إحدى الساقين - إلى آخر العمر، أو إلى أن يردني السغب كخادم ابن الرومي.
وقد أصبحت - لطول مقامي في هذا البيت - أعرف كل من يقف - أو تقف - على رصيف الترام انتظارا لقدومه؛ وبلغ من ذلك أن الأمر يختلط علي أحيانا حين ألقى بعضهم أو بعضهن في الطريق، فأهم بإلقاء التحية، وأرد نفسي بجهد إيثارا للحيطة؛ ولولا أناة اعتدتها، واحتشام رضت نفسي عليه، لما وسعني أن أكبح نفسي عن التطفل بالتحية على قوم يبدون لي من المعارف؛ ولا أبدو لهم إلا غريبا سمجا.
ولست أعرف من هؤلاء وأولئك الذين صاروا إخوانا لي وهم لا يدرون، إلا ما يفيده النظر، على أني وأنا أراعيهم، وأجعل بالي إلى ثيابهم ومبلغ عنايتهم بها، وما أراه عندهم من ضروبها، وإلى حركاتهم ومشياتهم وطريقتهم في الكلام، وشمائلهم وسكونهم أو ضجرهم إذا أبطأ عليهم الترام، أو حال الزحام بينهم وبين ركوبه، أقول: إني وأنا أراقبهم من حيث لا يشعرون، قد ألفت لكل واحد وواحدة منهم قصة، فلو سألتني من هذا أو هذه لما تلعثمت أو ترددت وأنا أذكر لك اسمه أو اسمها الذي اخترته، وأسرد عليك ما أعرفه - ظنا أو تخيلا - عن حياته أو حياتها. ولست أجد مشقة في تصوير حال كل من هؤلاء، ولكني أجد عسرا شديدا في اختيار الأسماء الموافقة لهم، أو التي توحي وجوههم بها وهيئاتهم، وما يتبدى لي من أحوالهم. وهذا أشق ما أتكلف. وأراني أحتاج أحيانا أن أكتب حروف الهجاء على ورقة، ثم أروح أؤلف منها الأسماء المطلوبة، وقلما أرضى عن اختياري في هذا الباب. وما أكثر ما أنسى ما سميت به هؤلاء، فأكد خاطري وأجهد ذاكرتي فتخونني ولا تسعفني. وأحس كأن هؤلاء ليسوا بأناس حقيقيين، وإنما هم من مخلوقات الخيال، لأنهم لا أسماء لهم أعرفهم بها، أو أطلقها عليهم، والمرء بغير اسم لا يكون في إحساس القلب ونظر العقل أكثر من فرد من جنس، لأنه لا يتميز باسم يستقل به وينفرد، بالغة ما بلغت شخصيته الخاصة من القوة. أفترى الأحرف مجتمعة في اسم لها ... ماذا؟! لا أدري، ولكني أذكر أبياتا للعقاد من قصيدته: «كأس على ذكرى» يقول فيها:
هاتها باسم حبيبي
قاتل الله عداتي
آه لو تعلم ماذا
في اسمه من عزمات
أترى الأحرف فيه
غيرها في الكلمات
تنكر السحر وهذا
بعض أسرار اللغات (وقد حذف الأستاذ العقاد هذا البيت الأخير - ولعله سقط سهوا - حين نشر الأجزاء الأربعة الأولى من ديوانه في مجلد واحد سنة 1928.)
وقد أخذت عيني اليوم فتاة أسميها زكية - لا أدري لماذا - ولكنها تبدو على حال غير حالها المألوف، فإن عهدي بها أنها تلميذة، وقد اعتدت أن أراها في الشتاء الماضي ترتدي زي التلميذات وتحمل حقيبة الكتب، أما اليوم فإنها تلبس السواد وتحمل في يدها شيئا ملفوفا في جريدة قديمة، فأنا أرجح أن يكون أبوها قد انتقل إلى الدار الأخرى. مسكينة!
وقاتل الله هذه المنايا ورميها حبات القلوب على عمد، أو عفوا، فإن الأمرين سيان.
وقد تركت المدرسة - ولا شك - بعد أن فقدت عائلها، وأصبحت لا قبل لها بنفقات التعلم. ومن يدري؟ ماذا كانت خليقة أن تكون لو كان قد أتيح لها أن تواصل الدرس. ولكن متوجهها أخذ عليها فهي تكف عن التحصيل، ويسوء حال أسرتها - فإن الثوب يبدو رثا - فيدفعها شظف العيش إلى العمل؛ أي: نعم العمل، فإني أراها تصدف عن الترام رقم 3 وتركب الآخر الذي رقمه 33، وهو يذهب إلى إمبابة، وهناك وفي الطريق إلى هذه القرية مصانع شتى، ولا شك أن هذا الشيء الملفف الذي تحمله في يدها تارة، وتضعه تحت إبطها تارة أخرى، رغيف وإدام لغذائها. مسكينة! صارت التلميذة التي كانت في خصب من العيش ولين، والتي كانت تتطلع إلى مستقبل حسن، وتطمع أن تكون معلمة أو طبيبة أو محامية أو غير ذلك، صارت وهمها الآن أن تكسب رزقها بعرق الجبين! أأقول: رزقها؟ كلا! بل رزقها ورزق أخواتها وأمها أيضا على الأرجح، ولعل لها أخا يستعين بالقليل اليسير الذي تكسبه على التعليم، وعسى أن يكون اعتماده عليها بعد الله في كسوة العيد! من كان يظن أن فتاة مصرية في مثل هذه السن الغضة تسد مسد الرجال وتعول أسرة أعسرت بموت أبيها؟!
وكرت بي الذاكرة - وأنا أفكر في هذا - إلى أيام الطلب والتحصيل، وكنت تلميذا في المدرسة الخديوية، وبيتي في حي السيدة زينب وطريقي إلى المدرسة ومنها على درب الجماميز، وكان في الدور الذي يلينا أسرة حسنة الحال - على خلافنا - لها فتاة تتعلم في المدرسة السنية، فكانت تخرج مؤتزرة، ولعل من القراء من يذكر «الحبرة» القديمة اللماعة، والنقاب الأبيض، فهذا كان ما تكتسي به وتستر فوق ثيابها، كأن الثياب لم تكن سترا كافيا! وكان الخادم يخرج معها ويحمل عنها الكتب والكراسات وغيرها من الأدوات، وينتظرها على باب المدرسة عصرا ليعود بها، فما كان يليق يومئذ أو يجوز في حال ما، أن تسير فتاة ناهد وحدها في الطريق. ثم مات أبوها، ولم يخلف لأسرته غير الدعوات الصالحات أن «يسترها»، فلم تتخلف الفتاة عن المدرسة ولم تنقطع، فقد راحت الأم تبيع حليها وتنفق على بيتها وفتاتها، حتى عطلت، فشرعت تبيع ما بها غنى عنه من أثاث البيت، ورأت أن هذا لا يكفي فاتخذت الخياطة لكسب الرزق وسد الخلة، ولكنها كانت تفعل هذا سرا، فكانت صديقاتها يرسلن إليها الثياب فتفصلها وتخيطها وتردها، ولا يعلم بذلك أحد سوى خاصتها ممن هن موضع سرها، وخطبت الفتاة فعجلت بزواجها واستراحت من همها، ومضت هي على سننها تكسب رزقها بالعمل ليلا على ضوء مصباح البترول، وتكف عنه وتخفي ما كانت فيه إذا جاء ضيف أو زارها أحد من الأهل والأصهار. إي نعم، فقد كانت تخفي سرها عن هؤلاء الأهل مخافة أن يأنفوا ويستنكفوا أو يعيبوا أو يشهروا، وإن كانوا لا يعينونها بشيء ما. وكانت فتاتها تود أن تواظب على الدرس حتى تتخرج وتصبح معلمة، ولكن أمها فضلت الزواج، لما جاء الكفء، وقالت: إن هذا المستقبل هو الطبيعي لكل فتاة، فلا داعي للإرجاء، فكان ما أرادت.
ولكن أم «زكية» - إذا كان لها أم - تقعد في بيتها مرتاحة راضية وتقذف ببنتها الصغيرة على الدنيا لتعمل وتكد وتعود إليها آخر كل أسبوع بعشرات من القروش، لعلها كل مسكة الأسرة من الرزق.
وعسى أن تكون «زكية» مغتبطة مبتهجة، وأكبر الظن أنها لا يخطر لها أن الطريق الجديد الذي حولتها صروف الأيام إليه غاص بالمعاطب، وأن الدنيا قاسية لا تترفق بأحد، فلنسأل الله لها السلامة فإنها صغيرة غريرة. ***
آه زكية! ماذا جرى؟ إنها زكية ولا شك، وإن كانت لا تعرف أن هذا اسمها عندي، وقد ألفت أن أطلقه عليها وأدعوها به حتى لأحسبني خليقا أن أنفر وأستغرب إذا تبينت أن لها اسما غيره، فإن المرء يألف أن يعرف الشيء أو الإنسان أو الحيوان باسم معين، وينكر أن يسمعه يدعى بغيره، ويحس أن الاسم الجديد لا يوافقه، كأن نرى امرأة في زي رجل أو رجلا في زي امرأة. وما أظن أن هذا إلا من فعل العادة، ولو أن فتى عوده ذووه أن يدعو الكلب قطا لأنكر واستهجن أن يرى غيره يقول: إنه كلب.
واحتجت إلى نظارتي لأستثبت؛ فقد ساء بصري قليلا. نعم هي زكية بقدها الممشوق ووجهها الصابح وديباجتها المشرقة، ولكنها على هذا زكية جديدة لا عهد لي بها، فقد خلعت السواد، وحسنا فعلت، فإنه لون يقبض الصدر، ويأخذ بالمخنق، ويعصر القلب، وما أدري كيف يطيقه على بدنه إنسان، ولو كان الأمر إلي لنفيته من الأرض وأرحت الناس من ثقله ومن سوء ما يوحي.
وليس ثوبها الجديد بجديد، فما عدت - فيما أرى - أن عادت إلى القديم الذي طرحته إلى حين، وأكبر ظني أن هذا الذي اتخذته الآن من الكتان الملون، وهو من أصلح ما يلبس في الحر واليبوسة، وإن لم يكن كالحرير رقة واسترسالا وتجلية. ولزكية شعر أثيث مسترخ، وكانت تجمع مقدمه وترفعه وتلويه وتثبته بالمشابك، وتدع ما عداه مسترسلا يعبث به النسيم إذا شاء، واليوم أراها قد زادت ففرقته عن شمال، وأحسبها دهنته بشيء فإنه يلمع، وكانت عاطلا فعلقت في أذنها قرطا من حبة لا أدري من أي شيء هي، وغرزت في شعرها حلية على صفة الوردة، ومن يدري لعلها تطيبت أيضا.
ويدنو منها فتى يكبرها بحوالي سبع سنوات - إذا صدقت فراستي من هذا البعد - وهو في قميص أبيض وسراويل إلى القدمين، ولا شيء في رأسه المتلبد الشعر كأنه مدهون بالصابون، ويبتسم لها فيتهلل محياها ويشيع فيه البشر، وتندفع يمناها وتمتد إليه تنشد المصافحة والملامسة، ولكن يديه في جيبه وعينه في عينها، فهو لا يرى راحتها المبسوطة فتثني الأصابع وتسترخي الكف وتميل وتمضي على مهل إلى الحقيبة التي تحت الإبط الأيسر، فقد صارت فتاتنا تحمل حقيبة أو مثبتة حمراء بلون حذائها، وإنها لحائلة اللون سوداؤه في مواضع من أثر الأصابع، ولكنها شيء جديد على كل حال لم تكن تتخذه فتاتنا. وأين يا ترى ذهب الرغيف الملفوف في صحيفة قديمة؟ لعلها دسته في الحقيبة، فإنها تتسع له مطويا أو مشطورا نصفين، فقد صارت زكية - على ما يبدو لي - تستحي أن ترى بغير حقيبة، وأن يرى معها غذاؤها ملفوفا في جريدة؛ لأنها استيقظت - أيقظها على الأرجح هذا الفتى - وهو أول من أراه يحدثها على رصيف الترام. ترى من يكون؟ إنه ليس طالبا، فقد ذهب الطلبة كبارهم وصغارهم إلى معاهدهم ومدارسهم، فقد جاوزنا الثامنة من ساعات نهارنا، وليست هذه بالثياب التي يرتديها طالب أو موظف ذاهب إلى مدرسته أو ديوانه؛ والأرجح أنه يعمل في متجر أو في مصنع، ولو رأيت كفيه لكان من المحتمل أن أرى فيهما ما أستعين به على الظن والتخمين. وهو واقف كمصباح النور الذي إلى جانبه، فلولا أن شفتيه تتحركان أحيانا لصلح أن يكون تمثالا، ولكنها هي لا تستقر في مكان، ولا تزال تتحرك وتدور وتوليه ظهرها حينا وجانبها حينا آخر، كأنما تعرض عليه قوامها من كل ناحية، ولا تزال يدها ترتفع إلى شعرها مرة، وتلمسه لمسا خفيفا كأن بها حاجة إلى ذلك، وتهوي إلى ثوبها فتسويه، وترتد إلى حاجبيها فتمسحهما، وهو جامد لا يعير شيئا من هذا التفاتا، كأنما كانت تفعله وهي وحدها قبل إقباله.
وطال وقوفها في انتظار الترام الذي لا يجيء، أو يجيء ولا يقف، لأنه غاص ولا متسع فيه لقدم؛ فجعلت عيني تتحول عنهما إلى غيرهما من الخلق ثم تعود إليهما. فرأيت فتيات ونساء أخريات في ثياب متفاوتة النسج والطراز والتفصيل والألوان؛ فقلت لنفسي: إن أكبر الظن أن فتاتنا زكية ما نضت السواد وارتدت هذا الثوب الملون الزاهي - على الرغم من قدمه - إلا من أجل ... ترى ما اسمه؟ فلنسمه عبد المنعم، ولو من باب إطلاق اللفظ على ضده. اكتست هذا الثوب من أجله، وخالفت ما كانت تتوخاه في وقفتها من سكون الطائر، لأنه طلع عليها بما حرك نفسها أو هجم عليها على الأصح، ولا يمكن أن يقول قائل في عصرنا هذا: إن الثياب إنما تتخذ لمنفعتها، فإنها - ولا سيما ثياب النساء - ذات صلة وثيقة بمعاني الجنس. والطبيعة تلهم المرأة الوسيلة إلى اجتذاب الرجل؛ لأن ظهور جيل جديد من الناس رهن بهذا. ولو كفت المرأة عن اجتذاب الرجل، أو عجزت عنه، لخلت الأرض من نسل حواء وآدم، وقد يؤثر بعضهم هذا ويراه أولى، ولكن للطبيعة مذهبا آخر وحكمة قد تخفى علينا، ولكن خفاءها أو غموضها لا يجيز لنا أن ننكرها أو نرفضها، فمن المفهوم - والصواب إذن - أن تتجمل المرأة للرجل، أو تتبرج له على قول ابن الرومي، وأحسب أن لو كان العري أجمل وأوقع في النفس لتجردت المرأة، ولكنها تدرك بغريزتها الذكية الملهمة أن الستر أفتن.
أما مبلغ الستر فراجع فيما أرى إلى شعور المرأة الباطن بنوع إحساس الرجل بها، ومبلغ حاجتها إلى تحريك هذا الإحساس واستثارته، وفطنتها إلى الناحية التي يسهل عليها استثارته منها. ويمكننا أن نقول: إنه بغير الشعور الجنسي لا تبقى هناك حاجة إلى الثياب ولا إلى ما يسمى «المودة»، وأعتقد أن الرجل السليم الذي لم يصبه مسخ أو شذوذ في طبيعته، خليق أن يستملح الثياب الطبيعية، ونعني بها تلك التي لا تظهر كل الظهور ولا تستر كل الستر القد ومحاسنه المختلفة، أما الشذوذ فيغري بإيثار ما ثقلت وطأة الشعور به على النفس.
وذكرت وأنا أدير هذا المعنى في نفسي أن أمهاتنا وجداتنا لم يكن يعرفن «المودة» كما يعرفها بنات هذا العصر. ولم تكن الخياطات يكثرن في زمانهن، وكانت ثيابهن - في الأغلب - تفصل وتخاط في البيوت، وكن هن يتولين ذلك على الأكثر، لا لفقر بهن، فقد كانت الحياة أخف وأرغد على قلة المال نسبيا؛ بل لأن هذا كان المألوف، وكانت الثياب أشبه على العموم - مع اختلاف في الألوان والتفصيل - بثياب الراهبات والممرضات؛ بسيطة فضفاضة، إلا في الندرة القليلة، وغايتها أن تحجب لا أن تبدي وتبرز، إلا ما لا حيلة في ستره. ولما كانت «المودة» مظهرا للرغبة في إظهار أجزاء من الجسم أو إخفائها، ومرجعها إلى الشعور الجنسي، والفطنة إلى ما هو خليق أن يستثيره، لما كان هذا هكذا فهل يجوز لنا أن نقول: إن أمهاتنا وجداتنا لم يكن يرغبن في استثارة هذا الشعور في رجالهن، أو لم تكن بهن حاجة إلى ذلك، أو كن جاهلات لا يعرفن كيف يتوسلن إلى رجالهن، أو كيف يعمقن لهم شعورهم بهن ويوسعن آفاقه ويرحبنه. لا أدري. ولعل غيري أقدر مني على الاهتداء إلى وجه الصواب.
وأقبل الترام غاصا كالعادة، ولكنه وقف هذه المرة، وآن لزكية أن تركب، فألقت إلى عبد المنعم نظرة فيها أسف وأمل وشكر؛ فأما الأسف فلفراقه، وأما الأمل فأحسبه في لقائه مرة أخرى، وأما الشكر فعلى قدومه. فما ركب معها، بل عاد أدراجه ويداه ما زالتا في جيبيه، كأنما جاء ليقف معها هنيهة، فلماذا كان منه إذن هذا المجهود؟ ألا يعرف كيف يبتسم؟ أم هو أدهى مما يبدو، ويتكلف الفتور ليغريها به وبالإقبال عليه وليحرمها فتطلب.
مسكينة. لو وسعني أن آخذ بيدها لفعلت، ولكن مثلها في مثل سنها قلما تصغي إلا لما يهتف به شبابها الجديد، ويصفه ويصوره ويزينه ويؤمن به قلبها الغرير المطمئن إلى الخير في الدنيا.
مسكينة. أو من يدري! فقد توفق وتسعد فإنها حظوظ وأرزاق وقسم، وقد تكون من أولئك النسوة السعيدات اللواتي يتلقين ويتقبلن كل ما تجيء به الحياة بالرضا والشكر ... لعل وعسى! ***
الله يلعنك يا شيخ! أما إنك والله لخبيث داهية على صغر سنك وغضاضتك! تجيء وعلى ذراعك فتاة مليحة منظرية، ثم لا يرضيك إلا أن تمضي بها إلى حيث زكية واقفة على رصيف الترام، وتبسط يدك وتحرك شفتيك كأنك تقول: «صباح الخير»، وفي عينيك - اليوم - وميض البشر والسرور؟ وزكية صغيرة غريرة، وكنت أراها إلى الأمس الدابر مطمئنة إليك، فرحة بك، ولكنك في هذا الصباح تفاجئها بهذه الفتاة على ذراعك، وتفجعها بهذا السرور الذي تشرق به ديباجة وجهك، فتكاد تشهق المسكينة، فما تعلمت أن تتكلف الإغضاء، وتكتم ما يتحرك في نفسها من الغيرة ويشكها ويخزها من الألم في قلبها وجبينها، ويستحيل لونها «إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد » وتختلج شفتاها اختلاجا بينا وهي تجاهد أن تتمتم بما لا أحسبك سمعته من رد التحية.
ويضاعف ألم زكية أني أراها اليوم عنيت بتنسيق شعرها على نسق جديد، وكانت تفرقه عن شمال، فزادت وفرقته عن يمين أيضا، وجمعت قصتها ولمتها، وغرزت فيها هذه الحلية التي هي على صفة الوردة، وضمت خصله الفينانة التي كانت من قبل مسترسلة، وربطتها بشريط أرجواني. وأراها اليوم معنية أيضا بهندامها، ترتدي ثوبا من قطعتين؛ واحدة من خز رقيق أبيض كالقميص لا يتجاوز الخصر، والأخرى تبدأ من حيث تنتهي تلك، وتشتمل بها إلى الساقين، وهي من قطن وفيه خطوط بيض وحمر. وكانت وهي واقفة تتلفت ويترقرق ماء الشباب في محياها النضير، وتخشى - على الأرجح - أن يقبل الترام قبل أن تقبل أنت، فما كانت التفاتاتها تخلو مما يشي بالاضطراب والقلق، وترجو - حين تراك وتبتسم لك، وتلمس ثيابها وشعرها - أن يلهمك الله أن تفتح فمك وتسرها بثناء على هندامها وزينتها وذوقها، وإذا بك تجيء بفتاة على ذراعك! ولو اكتفيت من تخييب أملها بإهمال الثناء على زينتها لك، أو إبداء الإعجاب بحسنها، لتعزت بأن الرجال هكذا أبدا، عمي أو بلداء أو جهلاء، لا يبصرون، ولا يفطنون إلى بواعث المرأة على التزين، ولا يدرون أن هذا الثناء عليها ملحها وخبزها.
ثم من هذه الفتاة المزاحة الملاعبة الضاحكة؟ لا أرى زكية راضية عنها أو مستحسنة لها، فإنها تنظر إليها شزرا وتزلقها ببصرها، وتقيسها من فرعها إلى قدمها، ثم تعرض كأنما تأنف أن تراها.
والبلاء أن عبد المنعم كثير المرح في هذا الصباح على خلاف عادته، وهو بادي الحفاوة بصاحبته الجديدة والإقبال عليها والضحك إليها، فإذا كنت قد دعوت عليه فإن لي العذر، وما فعلت ذلك إلا بلسان زكية. وعلى أني لا أظن أن اللعنة تنقصه، فما يخدعني هذا القميص الأبيض النظيف، وإني لأستطيع أن أرى - من نافذتي - وضر زيت أو شحم على إحدى ساقي السراويل فوق موضع المفصل، فأكبر الظن أن صاحبنا صانع ميكانيكي يعمل في إصلاح السيارات. والأرجح أنه خراط أو حداد، فإن يده معصوبة إلى الرسغ، وعسى أن يكون حد المخرطة قد جرحها أو وقعت عليها المطرقة.
والصورة التي ترتسم في ذهني لعبد المنعم هي أنه يتيم - أعني أن أمه قد ماتت عنه - ويكبر في وهمي أن أباه تزوج أختها بعدها، فعبد المنعم وأخته - فإني أتخيل له أختا أصغر منه سنا - يعيشان مع أبيهما وخالتهما. وجاءت الحرب فأيسر الرجل قليلا وألفى نفسه ذا وفر «نسبي» لم يعهده من قبل، فطلق المسكينة واتخذ زوجة أخرى أصبى وأنعم وألين، وترك ولديه مع الخالة المطلقة، واكتفى بأن يبعث إليهم بنصف ريال في اليوم، فهم في شدة من العيش، فاضطر عبد المنعم أن يعمل بيديه لكسب رزق آخر؛ سبعة قروش أو نحوها تضاف إلى العشرة فتخفف ما هم فيه من ضنوكة. أما الأخت فبعثوا بها إلى خياطة تتعلم، وتستطيع بعد ذلك أن تكسب شيئا يعين الأسرة على العيش. ولعلها لا تزال عند الخياطة لا تتعلم شيئا، فإن الخياطات ضنينات على الفتيات بالتعليم، وعسى أن تكون كل ما تصنعه هذه الأخت الصغيرة هو أن تخرج لقضاء الحاجات؛ تشتري اللحم والخضر للخياطة والبلح حين يمر بائعه، وتذهب بالثياب المخيطة إلى الكواء وتعود بها بعد كيها، ولا تزال طوال نهارها طالعة نازلة، داخلة خارجة، تحادث وتضاحك من تلقى من خدم السكان، ويمازحها - وقد يغازلها - غلام الكواء أو الجزار أو غيرهما من أصحاب الدكاكين التي اعتادت أن تذهب إليها، وتقف في موعد الانصراف أو القدوم مع زميلاتها من الفتيات اللواتي يطلبن هذا العلم أو الفن، فتقص كل واحدة منهن على الأخريات ما ترى أن تبيحهن من تجاربها، وكيف ذهبت إلى السينما مع صاحب لها، وبماذا أكرمها، وماذا أطعمها، وبماذا كان يوشك أن يهم. ويتبادلن الأخبار؛ أخبار المعارف والجيران وسكان العمارة وغيرها مما يقع لهن شيء عنه، ويغتبن معلمتهن، ويذممنها أو يثنين عليها، ويلغطن بذكر السيدات والأوانس اللواتي يفصلن ثيابهن عند معلمتهن ... وهكذا إلى آخر ذلك - إن كان له آخر يعرف.
ولنسم هذه الأخت - التي لا أعرف أن لها وجودا - فتحية. وبعد عام أو عامين من التحصيل في هذه المدرسة تصبح فتحية أعرف بالحياة مني ومنك، وأحسن اطلاعا على بواطنها وخفاياها، وأجرأ - من أجل ذلك - على المغامرة فيها، وأشد استهانة بعقبى الاجتراء، وأسرع استجابة للإغراء.
وركبت زكية الترام، واكتفت من توديع صاحبها بهزة رأس خفيفة لا تكاد تلمح، فلولا أن عيني عليها لما تبينت أنها هزت رأسها، وليت من يدري كيف تزاول عملها في يومها هذا! وإلى أي حد تخلط وتغلط، وماذا يبلغ من صبر رئيسها أو رئيستها عليها وحلمها معها! وقاتل الله الغيرة، فإنها بلاء وداء عياء، وسخافة ما بعدها سخافة - في نظر العقل - أما في إحساس القلب فإنها ما تعرف - أحر نار الجحيم أبردها - على حد قول الشاعر، وما يستطيع أحد أن يقهرها إلا بالرياضة الشاقة. وإني لأكون كاذبا إذا زعمت أن الله وقاني شرها، ولكي أستطيع أن أزعم أني استطعت بالرياضة وبتغليب الإرادة المعتمدة على العقل أن أكتمها وأحجبها وألطف من سورتها في آن معا، وأن أظهر أيضا خلافها، فأفادني هذا راحة، ويسر لي ما كان - لولا ذلك - خليقا أن يكون عسيرا، وأبقى زمامي بيدي.
وهذا باب في القول استطردت إليه وفتحته على نفسي، والكلام فيه يطول فيحسن أن أرجئه. ***
صار أمر عبد المنعم أعقد من أن تغني في حله نظرة من نافذة، ولو كانت كمرصد حلوان. فما عدت أرى زكية في هذه الأيام الثلاثة الأخيرة، فماذا صنع الله بها يا ترى؟ أهي «مريضة حبا»، أم مزكومة، أم غيرت طريقها لتعفي عينيها من رؤية هذا الفتى الغادر، الذي لا يزال يجيء كل يوم بفتاة بارعة الحسن على ذراعه؟ أم تركت عملها إلى سواه؟! وحسنا صنعت إذ تخلفت اليوم على الأقل، فلو أنها رأت ما أرى لطقت وانشقت مرارتها من الغيرة والكمد. فإن عبد المنعم اليوم مخلوق جديد لا عهد لي به، حتى لقد ارتبت في صدق فراستي، فمن لي بمن يعينني على التوجس عن أخباره، فإنه يحيرني. من أين جاء بهذه البذلة الجديدة الكاملة؟ ذهب القميص الأبيض وما كان من حرير بل قطن، وطرح السروال الملوث بالزيت والشحم، وهذا ثوب جديد من صوف لا يقل ثمن المتر منه في أيامنا هذه عن ثلاثة جنيهات، وهو مفصل على قده، فلا ضيق ولا سعة، ولولا ذلك لقلت استعاره من قريب له، وهذا الحذاء الأسود اللامع يبدو لي أيضا غير قديم، فإن النعل طويلة لطيفة كهيئة اللسان، والجلد ليس فيه تجعد أو تثن من أثر المشي، وهذا القميص المخطط البراق لا أشك في أنه من الحرير، والربطة أيضا ثمينة، فأنى له هذا كله؟ أورث كارنيجي وروكفلر معا؟! أم هو مهرب مخدرات غفل عنه الشرط، أم أملوا له ليخدعوه ويوقعوه في حبائلهم؟!
وهذه الفتاة الجديدة ما حكايتها أيضا؟ إنها ليست كالتي كانت معه منذ أيام وأسخطت عليه زكية وتركتها محنقة تتقي - على ما يظهر - أن تلقاه مرة أخرى، وهي - أي الجديدة - من طبقة أخرى، وكأني بها معلمة أو طبيبة أو شيء من هذا القبيل، فإن فيها لتوقرا واعتزازا بنفسها، على الرغم من إقبالها عليه وبشاشتها له وأنسها به، وتناولها أصابع يسراه خفية وفركها بأصابعها والضحك إليه بعينيها، وهي تفعل ذلك وتحسب أن لا أحد يراها، ولا تدري أني من مرصدي هذا أرقب كل قمر طالع من فلك «الميدان».
وثيابها أيضا نفيسة ناعمة، وكأنها الغلالة الرقيقة التي تلبس تحت الثياب، وهي قطعتان كذلك؛ صدار أبيض قصير الكمين، وفوق موضع القلب منه، أو أعلى قليلا، حرفان يرمزان إلى اسمها بخيوط حمر؛ والثانية مجول أزرق هفهاف يخف مع الريح، والحذاء سيور بيض وزرق، وإبهام القدم بارز والظفر أحمر. أما الشعر ففينان مسترسل وقد لفت عليه - دون أن تغطيه - منديلا أدارته كطرف العمامة. وأما الوجه والقد فلا قبل لي بوصفهما، فتخيل ما شئت على هواك، واعلم أنها استغنت بجمالها عن كل زينة أخرى، فلا أحمر على الشفتين، ولا شيء على الخدين، وهي فوق ذلك رزان، وإن كانت غير قليلة الكلام أو الابتسام؛ ولا كبر بها، ولا خفاء بتحببها إلى صاحبنا - أو صاحبها هي على الأصح.
وما أظن بها إلا أنها وقعت عليه أول ما وقعت في غير مصر، فإني أرى على محياها الصابح سمرة العائدة حديثا من مصيفها بالإسكندرية على الأرجح، ولا أستكثر، أو أستغرب أن يكون عبد المنعم قد تيسر له أن يقضي أياما على ساحل بحر الروم؛ ومن أدراني أنه لم يحصل على «استئمارة» سفر - ذهابا وإيابا - في الدرجة الأولى؟ أبعيد أن يكون له قريب في السكة الحديدية يجود بها عليه؟ أو صديق يحرم نفسه ويعطيه؟ وإني لأرى له قوام الشاب المغرى بالرياضة، فلعله سباح ماهر، أو لاعب كرة بارع، وعسى أن يذلل له هذا ما يعترض طريق السفر من مصاعب. ويكبر في وهمي أنه لقيها في القطار، فأعانها على شيء، كفتح شباك أو إدارة مروحة، واتصل حبل الكلام، ولانت النظرات، ورقت الأصوات، وكثرت النكات. أو لعله أنقذها من الغرق، فعرفت له جميل صنعه، أو أعجبها في الماء فتظاهرت بالإشفاء على الغرق ليخف لنجدتها، فإن للمرأة لحيلة، ثم ذهبت بعد ذلك تتلقى عليه دروسا في السباحة وهي تحسنها كالسمكة، ولم يخطر لها أن تسأله من أنت؟ وما عملك؟ واكتفت بأن تقص عليه هي تاريخ حياتها مذ عرفت أن لها حياة وتاريخا. وأحسب أن نفسه نازعته أن يصارحها كما صارحته، ثم أحجم مستحييا أن يقول إنه صانع، وإنه يكسب رزقه بعرق جبينه وكد يديه، فعدل عن هذا وأخذ في حديث الرياضة وما أجاد منها وبلغ فيها، وتركها فيما عدا ذلك تتوهمه شيئا ذا قيمة، وهل يكون راكب الدرجة الأولى إلا ذا شأن؟! وإذا كان قد آثر أن يمسك عن التحدث عن آله ومقامه وجاهه، أفلا يجوز أن يكون ذلك منه إشفاقا عليها حتى لا يروعها، أو اتقاء لأن يذكر لها ما تدرك منه أنها دونه مالا وجاها؟! إن منطق المرأة عجيب، وهو أعجب ما يكون حين تعشق. وقد عشقت هذا الفتى ما في ذلك ريب، فإني أرى من مرصدي ما يرفع الظن إلى مرتبة اليقين.
وتورط عبد المنعم، فماذا يصنع؟! إن صاحبته - ولنسمها كريمة - تقبل عليه مشغوفة به، في خفر واستحياء؛ إي نعم هذا واضح، ولكنه خفر لا يجعلها تكتم تحببها، بل تغزلها، وهو يستظرفها ويتمنى لو اتصلت أسبابه بأسبابها، ولكنه حائر لا يسعه أن يكاشفها بحقيقة أمره بعد أن تركها تخدع، وما كذب عليها، ولكنه غالطها بالكتمان، وأطلق لها أن تتخيل ما شاءت مما يقع في الروع من ظاهره؛ وليس في وسعه أيضا أن يسايرها ويطاوعها ويلين في العنان لها، لأنه يعرف أنه دونها في كل شيء؛ في العلم والمقام وما إلى ذلك. ثم إنها حدثته - فيما يخيل إلي - أنها مخطوبة لقريب أو غريب، ولكن بينها وبين خطيبها خلافا، فإنها هي تبغي البقاء بالقاهرة، وهو في أسيوط أو دمياط، ولا يريد أن يتطامن ويتواضع ويوسط بعض أولاد الحلال لينقل إلى القاهرة، وقد ثقل هذا الخلاف على كاهل صبره، فرحل إلى حيث عمله معلنا أنه لن يعود إلا بعد أن تستقر هي على رأي حاسم؛ فإما أن تكون معه حيثما يكون عمله وإلا ...
وهكذا صار اللقاء في القاهرة ميسورا بغير تحرز، ولكن عبد المنعم بليد على الرغم من أن حبها له بين، وتعلقها به أوضح من الشمس. وليس عبد المنعم بالبليد أو الجافي أو الشموس، ولكنه خائف حائر مضطرب، أخوف ما يخاف أن يفضحه الله ويكشف ستره، ولولا أنه شديد الإحساس بنفسه - وهو أن أمره ضئيل بالقياس إليها - لما عبأ بذلك كله شيئا، ولأقدم غير حافل بما يكون، وأمرها هي إلى الله. قد كان هذا خليقا أن ينفرها منه، ولكنه زادها رغبة فيه، وتشبثا به، وكبر في ظنها أنه غرير، وأن به حاجة إلى من يأخذ بيده ويهديه ويعلمه فنون الحياة، وإن كانت ترى منه أحيانا ما يعد من مظاهر «الشقاوة»، غير أنها كانت تحدث نفسها أن هذا إنما كان عفوا، وأنه من وحي الفطرة ليس إلا، ومن أجل هذا راحت تقول له إنها تعده صديقا في مرتبة الأخ الشقيق، بل تنزله منزلة الشقيق وتحبه كحبها لأخيها، حبا عفيفا لا ترتقي إليه الظنون ، وتسأله: «من أنت؟ ألا تحبني هذا الحب الأخوي؟» وتتمنى أن تسمع منه كلمة الحب ولو مقرونة بهذا الوصف الثقيل، فيتمتم ولا يبين، ويتضرج وجهه ويضطرب لكثرة ما ينازع نفسه من العوامل التي تجهلها، فتحيل هذا على حياء الغرير.
وتدعوه إلى بيتها أيضا، وتعرفه بأهلها أو تعرفهم به، وتقول لهم إنه كان خير معوان لها في الإسكندرية، وإنه أسدى إليها من الأيادي ما لا قدرة لها ولهم جميعا على رد جميله، ويرحب القوم به، وهم في سرهم يتعجبون أو ينكرون، ولكن ما حيلتهم؟ لقد شبت فتاتهم عن الطوق جدا، وصارت موظفة ولها مرتب حسن، ومستقبل مرجو، وفي وسعها أن تستقل إذا شاءت، ثم إنها تعينهم ببعض مالها، وتعنى بأخواتها، أو هي على الأقل قد حطت عن كواهلهم عبئها، ثم إنها بنت عصرها، وهم أبناء عصرهم الذي ولى، وتخلفوا عن ركبه فصاروا بدعا في العصر الجديد، وشذوذا محتملا على التسامح والإغضاء، وقد ولى سلطان الآباء على بنيهم وبناتهم، بل انقلبت الحال وانعكست الآية في بعض الأحوال، فصار السلطان للبنين والبنات، والأمر والنهي لهم، وما على الآباء إلا السمع والطاعة راضين أو مكرهين. ويرى القوم في احتشام عبد المنعم وحسن أدبه وشدة حيائه ما يطمئنهم، فيدعون بنتهم وما آثرت لنفسها، والله الهادي وهو المسئول أن يقيها العثار. ترى كيف تنتهي هذه القصة التي أرى بدايتها على رصيف الترام تحت نافذتي! ليس في تصوير نهايتها عسر، ولكني أوثر أن أكبح الخيال عن الاسترسال والتريث أياما. ولكني في حيرة من أمر الثياب الجديدة التي يرتديها عبد المنعم، أفتراني أخطأت حين توهمته صانعا؟ لا أظن! على كل حال سنرى. ***
برح الخفاء وعرفنا زكية وصاحبها عبد المنعم ومن يكونان؟ وما خطبهما في هذه الأيام؟ وما أوحي إلي هذا العلم ولا تلقيته «من النافذة»، ولكن الفضل لها مع ذلك فيما اهتديت إليه ووفقت له، فلولا أنني جعلتهما قيد عيني من النافذة لظلا كغيرهما من خلق الله الذين لا أعيرهم التفاتا خاصا. ولا أتبع النظرة إليهم نظرة.
ويبدو لي وأنا أتدبر هذا أن كل ما يقع لنا في حياتنا يجيء اتفاقا ومصادفة أو قضاء وقدرا إذا شئت، وليس معنى هذا أن الحياة ليس لها قانون أو نظام، فإن سنتها ثابتة لا تتغير، ونظامها لا يضطرب، وإنما معناه أن ما «يتفق» أن يقع موافقا لهذه السنن يكون، وأكثر ما تجيء المصادفة عفوا بغير عمد، والشواهد أكثر من أن يأخذها إحصاء، فلا داعي للتمثيل؛ وحسبك أن تفكر في وجودك أنت، فهل كان إلا مصادفة بحتا؟ وهل جئت إلى الدنيا إلا عفوا؟ لقد كان من الممكن أن لا تكون، لولا أنه اتفق ما اتفق، فأفضى ذلك إلى خلقك، وكان من الممكن أن لا يكون لك إخوة أو بنون، فكان هؤلاء وأولئك جميعا، لأن أباك قدر له أن يتزوج، وأن تكون زوجته تلك التي صارت أمك وأم إخوتك، ولو تزوج غيرها - وماذا كان يمنع ذلك لولا القدر - لرزق سواك أو لما رزق أحدا، ولما خرجت أنت على الحالين.
ويخطر لي من أجل هذا أن حب المرء لإخوته عادة ليس إلا، حتى حب الرجل لبنيه يبدو لي غير حب أمهم لهم، فهذه قد حملتهم وثقلت بهم وولدتهم وأرضعتهم، فليس يسعها إلا أن تحس وترى أنهم بعضها، أما الرجل فأمره مختلف، وشعوره بأبوته لهم معنوي لا مادي كشعور الأم، وإن كانوا من صلبه، ولعل إيحاءه لنفسه أنهم من صلبه، وأنهم بعضه هو الذي يعمق هذا الشعور ويقويه، حتى يقارب شعور الأم أو يعادله، ثم تجيء العادة - وفعلها معروف. أعرف رجلا له بنت من زوجة طلقها بعد أن ولدتها له بقليل، ثم لم يرهما بعد ذلك، وقد كبرت البنت وناهزت العشرين وتزوجت وأبوها لا يراها ولا يسمع من أخبارها شيئا، وكان الاستغراب هو كل ما شعر به لما علم أنها ما زالت حية ترزق وأنها تزوجت، وقد خطر له يوما أن يعرفها بنفسه وبإخوتها - فإن له زوجة وأبناء - ثم أمسك، وقال: إن الخيرة فيما اختاره الله. وعاد إلى إغفال أمرها، وعهدي به أنه ليس ممن يبدون غير ما يخفون، ولعله يصبو إليها من حين إلى حين، ولكنها على التحقيق صبوة إلى مجهول لا يحسن أن يتصوره؛ لأنه لم يعتده كما اعتاد بنيه الآخرين الذين شبوا في كنفه.
وأعود إلى زكية وصاحبها بعد هذا الاستطراد؛ فأما زكية فعملها رفو الجوارب في بيت قديم في زقاق ضيق، وأجرها طفيف لا أدري كيف يكفيها لطعامها وحدها، فإنه ستة قروش ليس إلا، فلست أستغرب ما كان قد خطر لي من أن بعض ثيابها من قديم ما كانت تلبس أمها، وقد أصلحته على قدها. وأما عبد المنعم فغلام حلاق - أستغفر الله - بل هو حلاق فنان كما يصف نفسه، ومن أجل هذا يتدلل، فيعمل أياما ويتبطل أياما - على هواه - وفنه هو قص شعر السيدات وتصفيفه وكيه وما إلى ذلك مما لا معرفة لي به، وهو في هذا بارع حاذق لا يبارى ولا يجارى - على ما يقول صاحب الدكان. وخير ما فيه أن السيدات يرضين عنه ويأنسن به ويرتحن إليه ولا يقبلن بديلا منه؛ فإذا لم يجدنه في الدكان انصرفن على أن يعدن حين يشاء أن يجيء. ويقول صاحب الدكان: إن هؤلاء النسوة أمرهن عجيب، فإنهن على استعداد لأن يعطلن ويؤخرن أفراح المدينة كلها في سبيل الفوز بالجلوس بين يديه حين يطيب له هو أن يعمل. وهذا هو السبب في أن الرجل لا يرى لنفسه معه حيلة، ولا يقدر على الاستغناء عنه؛ لأن في الاستغناء عنه خراب بيته.
وعبد المنعم يحب زكية، وزكية تحبه، ولو كان لهما ناقة وبعير لتحابا مثلهما، ولكن غيرتها عليه، وغيرته عليها تسود عيشتهما وتنغص حبهما، فهو يرمي المقص، ويترك الدكان ويهيم على وجهه في الشوارع إذا خطر له أنها ربما تحادث رجلا آخر في الطريق، أو حتى صاحب المصنع أو المشرف على عمل البنات فيه، ثم يذهب إلى محطة الترام لينتظرها وهي عائدة، ويرافقها إلى بيتها، ويتأخر الترام على عادته في هذه الأيام فيقلق ويسخط ويضطرب، وإن كان يعلم أن لا ذنب لها في هذا، ويروح يرفع قدما ويحط قدما كالحصان، ويقبل الترام والناس فيه كالسردين، متلاصقين متلاحمين، فيغمض عينيه لئلا يراها في هذا الحشر، ومن يدري؟ قد يكون بعضهم لصقها، وعسى أن يلمحها تبتسم فيتوهم أنها تبتسم لرجل! وتغلبه الغيرة فيندفع إلى سلم الترام ويزاحم النازلين ويدفعهم بيديه لينظر، كأنما ينثر كوما من الورق، وتكون هي قد نزلت من ناحية أخرى وهو لا يدري، لتعاميه أولا، ثم لما أغراه به ودفعه إلى جنون الغيرة، وتدنو منه وتربت على كتفه، وكثيرا ما تحتاج أن تجره من ذراعه وهي تضحك، فيتشهد، ثم يمشيان وهو مطرق معبس.
ويسألها فجأة: «أين كنت؟»
فتضحك وتقول: «يا له من سؤال! وأين أكون إلا حيث تعلم؟! وأين كنت أنت؟ ولماذا تركت الدكان؟ وما هذا العرق المتصبب؟!»
وينتهي هذا الحوار كما ينتهي دائما بأن يصارحها بما كان، فتقول له إنه يظلمها، وتسأله - منكرة - لماذا يثور إذا تصور أن رجلا في الطريق أو في المصنع كلمها أو كلمته؟ ماذا تصنع إذا نهض رجل عن مقعده في الترام لتجلس؟ ألا تشكره؟ أم يكون عليها أن تقطب وتزوي وجهها وتظهر التأفف من وجوده؟ ماذا يسعها غير أن تجيب رئيس العمل أو صاحبه إذا كلمها وراجعها؟ أينبغي أن تخلو الدنيا من الرجال ليطمئن ويسعد؟
ويسرها أن يكون هذا مبلغ غيرته عليها، فإنها من الحب، ولكنها ينبغي أن تظل أحد العناصر التي يتألف منها هذا الحب، لتصفو الحياة وتطيب؛ أما هذه الغيرة فطوفان جارف. ثم أليس هو حلاقا للسيدات؟ ألا يلمس كل يوم - بل كل ساعة - شعورهن؟ أليس معروفا مشهورا أنهن جميعا معجبات بحذقه وأستاذيته؟ أليس بينهن واحدة جميلة تصبيه إليها؟ إنها أولى بالغيرة، وأحق بالقلق الدائم، فإنه عرضة للفتنة في كل ساعة من ساعات النهار، ويضاعف دواعي القلق أنهن نساء مترفات غنيات، والمال وحده فتنة كافية، فكيف إذا اجتمع المال والحسن؟! فماذا يمنع أن تخطفه منها واحدة من هؤلاء اللواتي آتاهن الله ما حرمته هي؟
ويثقل عليها هذا الخاطر فتبكي، والدموع غوث للمرأة، فينعصر قلب الفتى ويقبل عليها يستعطفها ويستغفرها، وتسكن العاصفة ويصفو الجو ويرق، وينقضي يومان أو ثلاثة تكون فيهما زكية أسعد بنات حواء، ويكون فيها عبد المنعم مثال الرقة والدماثة، ويبلغ من ذلك أن يرى رجلا يفسح لها لتنزل من الترام وهو يقول: «تفضلي يا هانم!» فتشكره زكية، فلا يمتعض عبد المنعم ولا يغضب، بل يبتسم للرجل وهو يمد لها يده لتعتمد عليها وهي نازلة ويقول «مرسي يا بيه!»
غير أنه لا دوام لشيء أو حال في هذه الدنيا. ***
إي نعم يا سيدي، كل شيء يتغير في دنيانا هذه، ولا يثبت على حال، لأن التغير هو سنة الحياة، والإنسان منا يعرفه الناس باسمه، ويرونه فيدركون أنه هو فلان الفلاني، ولكن فلانا هذا ليس إلا عدة أناس تعاقبت على حمل هذا الاسم. عندي إطار فيه أربع صور صغيرة لي، ما تأملتها قط إلا تعجبت، كيف يمكن أن يعد الأصل الذي أخذت عنه واحدا؟ صحيح إن الملامح والمعارف باقية ومشتركة، ولكن تعبير الوجه مختلف، وأحسب أنه لو رآها غريب لا يعرفني لكان أول ما يقع في نفسه منها أنها صورة لإخوة أشقاء لا لمخلوق واحد. ولست أعني أن الأنف في إحداها أطول منه في الأخرى، أو أن الخدين هنا أو هناك أكثر امتلاء، فليس بالي إلى هذا، وإنما أعني أن المعاني المرتسمة على الوجوه الأربعة ليست متطابقة ولا متشابهة، ولا حتى متقاربة، والمعاني مصدرها النفس، فها هنا أربع نفوس انتقلت بها الأحوال فصارت إلى هذا الاختلاف البين فيما ينبعث عنها.
وقد قضت زكية أياما وهي راضية قريرة العين بما فاء إليه صاحبها عبد المنعم من الرقة والظرف، وحسن المعاشرة وترك الغيرة الذميمة، ثم قلقت وأوجست خيفة، فقد كان شططه في غيرته عليها يمضها ويسود عيشها وينذرها بالشقوة معه في حياتهما، فكانت تجزع وتندب سوء حظها، وتتساءل عما جنته حتى يقسم لها أن تحب رجلا ظنونا لا ينفك يتخيل ثم يخال، ولكن الغيرة كانت مظهر حب، ففيها لها مرضاة وإن كانت فيما عدا ذلك كربا وبلاء. والآن لا غيرة ولا شبهها، فماذا حدث؟ هل نضب المعين؟ وفتر الحب؟ وتحول القلب؟ هل استولت على هواه إحدى الفتيات الجميلات الغنيات اللواتي يراهن كل يوم في الدكان؟! أليس المعقول إذا رأيت فتاة جميلة تأبى كل الإباء أن يلمس شعرها غيرك، أن يغرك ذلك ويطيب وقعه في نفسك فتتلقاها، حين تقبل عليك لا تقصد إلى غيرك، هاشا باشا مسرورا؟ وتحتفي بها وتلاطفها وتضحك إليها، ثم يكون ماذا؟ ما المسافة بين هذا وبين الحب؟ إنها قد لا تكون أطول مما يستغرقه التقاء نظرتين في صقال المرآة!
وريعت المسكينة لما دار في نفسها إمكان ذلك، وأحست بالنار في صدرها والبرد في أطرافها، وحارت ماذا تصنع لاتقاء هذه النكبة أو كشف الغمة، ثم خطر لها وهي تتهيأ للنوم ذات ليلة أن في وسعها أن تمتحنه، فإن هذه الظنون التي تعتلج في صدرها لا تطاق، ولخير منها أن تيأس، ومن يدري؟ لعل الامتحان الذي استقر عليه عزمها يحرك النار التي قاربت أن تخمد.
ولقيته في الصباح بوجه لا يبدو عليه أثر مما كابدته في ليلها الطويل، وابتسمت إليه متكلفة، وقالت له إنه يحسن به ألا ينتظر أوبتها هذا المساء في موعدها، فقال: «طيب، كما تحبين» ولم يبد عليه أنه عبأ شيئا، وإن كان لم يتخلف قط عن انتظار عودتها، مرة واحدة في شهور طويلة، فكادت تهوي إلى الأرض، غير أنها تشددت وتحاملت على نفسها وقالت له - على سبيل الإيضاح: إن جارا ظريفا لها دعاها إلى السينما فقبلت، وسيذهبان لمشاهدة الشريط في حفلة المساء، لأنه لا يتسنى لها أن تذهب قبل ذلك، فهل تراها أخطأت؟ فقال: لا لا لا، إن الأمر على العكس، فقد أحسنت كل الإحسان، وإنه ليسره أن يراها تنعم بالحياة.
فقالت لنفسها وهي تركب الترام: «آه! كان ما خفت أن يكون! فليس هذا عهدي به، وكيف يطيق - إذا كان لا يزال يحبني - أن يتصور أن أقضي ساعتين وزيادة إلى جانب شاب مثله، وأن تلمس ركبته ساقي، أو كفه كفي، وأن نتسامر ونتضاحك حين يتاح لنا ذلك ، وقد نذهل عن الرواية بما نحن فيه، وأن يقوم هذا الشاب مقامه، وينوب عنه في إبلاغي بيتي؟!»
ولم يكن هناك شاب ولا رواية، وإنما اختلقت هذا لتثير غيرته، وتوقظ الحب الذي يخيل إليها أنه يغط في النوم، ولم يسعها - وقد كذبت - إلا أن تؤثر المشي على الركوب لتتأخر، ولم تكتف بهذا؛ بل اختارت طريقا أطول، وجعلت إلى هذا، تتلكأ وتقف أمام الدكاكين تنظر ولا ترى.
وسألها في الصباح عن الرواية كيف كانت، فأثنت عليها وأطرت رفيقها الموهوم، وزعمت أنه أكرمها وسرها وتحفى بها وفعل كيت وكيت، وأبى أن يعود بها إلا في سيارة، فقال عبد المنعم: «برافو! هذا شاب ظريف ولا شك، وإنه لأهل لما تذكرينه به من الخير وزيادة، وقد انشرح صدري الآن إذ عرفت أنك مسرورة»، وأحست وهو يقول هذا أنها لا تسمع كلاما، وإنما تتلقى طعنات خنجر في حبة قلبها، وكاد الدمع يطفر من عينيها، فلولا الإباء الحر لارتمت على صدره وراحت تبكي بأربع.
واتفق ذات مساء أن قابلت في الترام جارا لها حقيقيا، يعرفها وتعرفه، فحدثت نفسها أن الله أرسله إليها، وأقبلت عليه وتوددت إليه، وشجعته بالابتسام والحديث على الطمع في صحبتها، كما لا تحسن إلا المرأة أن تفعل، وأدى عنها الفتى أجرة الترام فشكرته شكر المستزيد، ودخلا في حديث استدرجته فيه حتى دعاها إلى التنزه معه يوما في بعض الحدائق، فاتفقا على يوم الأحد لأنه يوم راحتها، وكان عبد المنعم ينتظرها على عادته في المحطة المعهودة، فعرفته بهذا الصديق الجديد، وأبلغته نبأ الدعوة في موعدها، وزادت فسألته: «ما قولك في أن تكون معنا؟» فابتسم عبد المنعم وقال إنه يخشى أن ينغص عليهما متعتهما بوجوده، واعتذر، ومشى معهما خطوات ثم استأذن، وانصرف خفيفا مرحا، كأنما هو يرقص من طرب. ولم يبق في نفس زكية شك في أن عبد المنعم قد ملها وسلاها، واعتاض منها سواها، وحز في نفسها هذا، وعدته ظلما لها، وغمطا لحقها، وغاظها واستثار نقمتها أيضا، وكانت لا تنوي أن تنجز وعدها للفتى فآلت لتفعل، وليكن بعد ذلك ما يكون! أليس قد مضى عنها وكأنه يتشهد لإعفائه من مسايرتها بضع خطوات إلى منزلها؟ وهل بقي شيء يدل على أنه يعبأ بها أو يكترث مما تفعل أو تترك؟ إنه لم يعد له عليها حق بعد ذلك، وأكبر الظن أنه كان يتلهى بها، ولم يكن يحبها، وعسى أن يكون قد فتنته عنها إحدى هاتيك النسوة الغزلات المتحببات إلى الرجال، بارك الله له فيها أو فيهن جميعا، فما عادت هي تبالي ما يكون من أمره، وإنها لحرة الآن بعد أن نفض يده منها هذا النفض، وما هي بالتريكة التي يلقاها الرجال ويصدفون عنها، وستريه أنها قادرة مثله على السلوان، وواجدة عوضا عنه كما وجد. ***
اعتزمت زكية بعد الذي رأته من عبد المنعم من قلة المبالاة أن تركب رأسها، وتلج، فما بقي لها فيما ترى حيلة، وقد خمدت نار الغيرة التي كانت تتلظى كنار الجحيم ذات الوقود، وخمودها هو الشاهد على أن شعلة الحب قد انطفأت، وأن قلب صاحبها خلا، والأرجح أن تكون سواها قد حلت محلها، وتربعت مستقرة مطمئنة، ولا تعليل غير هذا لفتور عبد المنعم.
ولم يعد يرضيها، بل يسخطها ويستثير حنقها وحردها أن عبد المنعم لم يغير عادته معها، فلا هو يكف عن مرافقتها في الصباح إلى الترام، ولا هو يفوته أن ينتظرها عند إيابها في المساء، فإذا كان قد سلاها واعتاض منها غيرها فلماذا يفعل ذلك؟ وما له لا يريحها باليأس، وأمرها إلى الله؟ ألا بد أن ينكأ لها الجرح كل يوم مرتين؟ هل كتب عليها أن لا يزال لها منه مذكر لا يغفل ولا يتركها تتغافل وتتشاغل وتتنافس وتتلهى؟ ولا يسعها كلما وقعت عليها عينه ورأت هدوءه وسكينة نفسه ورضاه عن الدنيا إلا أن تقيس هذا إلى ما كانت تعهد منه، وإنها لقسوة أن يلح عليها بمجاملة السالي بعد غيرة المحب الثائر!
أم تراه يتعمد ذلك ليحنقها فتنفر وينتهي أمرها هي أيضا معه إلى السلوان، أو حتى إلى البغضاء؟ هو عذاب على الحالين كائنا ما كان مراده. ولأولى به وأرفق بها أن يدعها وشأنها، فإن هذا كتبديل جلود الكفار في جهنم، وتجديدها كلما اشتوت واحترقت ليظلوا في عذاب أليم دائم لا ينتهي. وصارت تتأخر عن موعدها عامدة حتى لا تراه كعادته واقفا في محطة الترام مسندا ظهره إلى مصباح النور ويداه في جيبيه، فما بقيت لها قدرة على الاحتمال. وتلكأت مرة أمام دار السينما ونازعتها نفسها أن تدخل وتغيب في جوفها ساعتين، وإن كانت رواية غير عربية، واحتمال فهمها لموضوعها وسرورها به بعيد، واستهولت أن تنفق في ساعتين أجرة يومين، وتمنت أن يرزقها الله برجل طيب واسع الرزق، فيقول لها: تعالي يا بنتي، فقد أجاب الله سؤلك، وبعثني إليك لتستمتعي بما تشائين. واستهجنت أن يخطر لها مثل هذا الخاطر، وأنكرت فيما بينها وبين نفسها، أنها يمكن أن تقبل دعوة من غريب إلى السينما أو غيرها، وطاف برأسها أن: «وماله! وما ضير ذلك؟! وماذا أخشى؟ أتراه يأكلني؟» وألفت نفسها ترد وتقول: «عيب يا زكية، اختشي! أنت بنت ناس، وما هكذا يفعل بنات الناس! وماذا أبقيت للخليعات الفاجرات؟» واستحت كأنما كان الذي يزجرها إنسان حقيقي، وهزت رأسها، وسمعت نفسها تقول بصوت خافت: «هو صحيح؟ إنما هو كلام!»
وتنهدت وحولت وجهها عن السينما، فلو رآها أحد لظن أنها كانت تتأمل الصورة المنشورة على الجدران على سبيل الإعلان والتشويق، وخطت خطوات وهي مطرقة، وإذا بجارها يدركها وهو يلهث من العدو ويقول لها: «أين كنت؟» فأدارت إليه وجهها وقالت بجفوة: «وأنت مالك!» وتعجبت لنفسها، وأحست أنه كان ينبغي أن تفرح به، فإنه رفيق على كل حال، وهو جار لها وبينهما معرفة، فلا غرابة إذا كلمها في الطريق، ثم إنه هو الذي أرادت أن تكايد به عبد المنعم وتستثير غيرته، فما لها تمتعض الآن إذ تراه؟ وحدثت نفسها أنها تستطيع أن تدعه يرافقها إلى بيتها، وعسى أن يراه معها عبد المنعم فيعرف أنها وجدت منه بديلا، وأنها ليست بالفتاة التي يزهد فيها الرجال إذا كان هو قد زهد! ولكنها نحت هذا الخاطر وطردته طردا، كأنه عمل لا يليق، وكأنها لم تفعله من قبل.
وفوجئ الفتى ودهش وجعل يكرر: «أنا مالي؟! أنا مالي؟!»
قالت: «نعم، مالك أنت! ألا يمكن أن أمشي في طريق إلا وتشق الأرض وتطلع لي كالعفريت؟ شيء بارد!»
فزادت دهشة الفتى ومد يده وتناول يدها وسألها: «ماذا جرى؟ ماذا فعلت؟»
فانتزعت يدها منه وهي مقطبة مشمئزة وقالت: «من فضلك اتركني بالتي هي أحسن.»
فضرب كفا بكف وقال: «بالتي هي أحسن أو بالتي هي أقبح، لماذا؟ ماذا جرى؟»
فصاحت به مرة أخرى: «قلت لك يا سيدي اتركني! مالك ومالي؟ أما إن أمرك غريب! صحيح ثقيل!»
وهم الفتى بالكلام، ولكنه عوجل بضربة ألقته على الأرض، ونظرت زكية فإذا عبد المنعم يتهيأ للإجهاز عليه، فجرته من كمه، وهي متعجبة وفرحة وخائفة واجفة القلب ... متعجبة لأن عبد المنعم شق الأرض وخرج منها كما زعمت أن الفتى يفعل، وكان آخر ما يجري لها في خاطر أن ترى عبد المنعم في هذه الناحية، وفرحة لأنه كان متلهبا متغير الوجه كعهدها به حين تأكل قلبه الغيرة، وخائفة لأنها خشيت أن يصيب الفتى مكروه فيقع عبد المنعم في بلية.
ومضت به دون أن يتلفت أحد منهما إلى ذلك الذي وقع على الأرض كالحجر، ولم يتكلما بشيء حتى بلغا خط الترام، فحياها وهم بأن ينصرف، فتعلقت به وقالت له: «مالك؟ ماذا جرى؟»
قال: «لا شيء، لم تعد بك حاجة إلي، فلا داعي لبقائي معك.»
قالت: «ماذا تعني؟»
قال: «وما سؤالك هذا! ألست قد بعتني؟»
قالت: «أنا بعتك؟»
قال: «أينا الذي باع صاحبه إذن؟»
فكادت ترقص في الشارع، وكبحت نفسها، واقترحت عليه أن يتمشيا إلى البيت ليتسع الوقت للكلام ...
ولا نطيل، وما الداعي؟ كانت خلاصة ما علمته أن عبد المنعم استشار رجلا مجربا، فقال الحكيم العارف بالدنيا وأسرار النفوس: إنه ما قتل حب المرأة ولا نفرها من رجلها كشدة غيرته، وإنه ما هاج حرقاتها شيء كقلة المبالاة، مهما يكن ما تفعل أو ما تترك. فصدقه عبد المنعم وراض نفسه وتحامل عليها، حتى كتم أنفاس غيرته المتأججة ليبدو لزكية على حال من الفتور الموصوف المرجو الخير، فكان ما كان من أمرهما معا ما يعرف القارئ.
أما كيف شق الأرض وطلع فتفسيره أن تأخرها عن مواعيدها أزعجه، وأطار الوصفة النافعة، فراح يتبعها في ذهابها وإيابها وهي لا تراه. ***
العصي، معروضة في دكان، أو على أيدي بائعيها الطوافين بها، أو تحت آباطهم، لا يبدو لي أكثر من أعواد من خشب منجور ومدهون مصقول. ولكنها في أيدي متخذيها أو حامليها، أو المتوكئين عليها تدب فيها الحياة، وتكتسب «شخصية» وتنقلب أشبه بالعنوان أو الشارة أو الراية.
وأنا أرى من نافذتي - التي أصبحت لي كالمرض - كثيرين يغدون ويروحون، ولكني لا أجعل بالي إلى هؤلاء السابلة؛ لأنهم يمرون خطفا ولا يثبتون على النظر، فلا يتسنى لي أن أتدبرهم، إذ كان الواحد منهم لا يكاد يبدو حتى يختفي، أو لا يسلم حتى يودع، ومن أجل هذا أوثر الواقفين على الرصيف ينتظرون الترام ويسألون الله في سرهم أن يكون فيه موضع قدم، وأن يعطف الله قلب سائقه عليهم فيقف ريثما يثبون متزاحمين متدافعين إلى سلمه، أو يتعلقون بشيء فيه تبلغه اليد وتتشبث به.
ويخلو الرصيف أحيانا، ويقبل الترام متريثا متمهلا، كأنه «جمل المحمل» ويقف في المحطة، دقيقة ودقيقتين، وليس به إلا سائقه وحاديه أو زامره، وكأنما يقول: ها أنا ذا قد وقفت، وما من راكب أو راغب في ركوب، فاللهم اشهد! حتى إذا مل الوقوف والتلكؤ، وانطلقت الزمارة تدعوه إلى استئناف السير، أقبل رجل يعدو ليدركه، ولكن السائق يكون قد أعطاه كل ما عنده من سرعة، فيقف المسكين وإحدى قدميه على الرصيف والأخرى على الأرض، ويمناه على العصا، ويسراه على قلبه، ورأسه مثني، وصدره كالخضم يعلو ويهبط، ولا قدرة له على التفكير في سوء حظه، من شدة الإعياء.
ويسعى المسكين إلى حيث يقوم مصباح الإضاءة الذي حجب ضوءه، ويسند ظهره إليه، ويتوكأ على العصا بكلتا يديه، وهو لا يزال ينهج، ويجيء ترام في إثر ترام، فلا يتوقف كأنه في سباق، ولو وقف لما كان فيه موضع ينحشر فيه حتى ولا طفل رضيع.
فأتعجب لهذا الحظ الذي يشبه «الرفيق المخالف».
يكون المرء مستعجلا فيعوقه كل شيء عما يطلب، ويكون في فسحة من أمره ووقته، فإذا كل شيء ميسر، وما يخطر له أو لا يخطر، مهيأ حاضر. خرجت مرة أتمشى - على غير هدى أو قصد - وليس لي مطلب سوى هذه الرياضة الهينة، فبلغت محطة ترام أمامها بائع سجاير، فملت إليه، وجاء الترام ووقف، فاشتريت ما أبغي من السجاير، وارتددت لأعبر الشارع إلى الرصيف الآخر فإذا الترام لا يزال واقفا وما فيه راكب واحد، حتى ولا ذبابة، فترددت: أأركب أم أتمشى! ولم يقطع ترددي إلا صوت يقول لي: «ما تركب وإلا تمشي!» فضحكت وركبت وأنا أقول لنفسي: «هذا ترام خاص يقلني، ولكن إلى حيث يشاء هو لا أنا» ولو كنت أبغي الركوب لكان الأرجح أن يكون غاصا، وأن لا يقف.
وأعود إلى ذلك الواقف معتمدا على عصاه، فأقول: إنه كهل، ولكن العصا رفعته إلى الشيخوخة المتهدمة، ولقد رأيته يعدو، فهو لا تزال له بقية من قوة، ولكن العصا أضافت إلى سنه وهو واقف عشرين عاما.
وأعرف شيخا يصبغ شعره صبغا متقنا، أراه أحيانا فارغ اليدين، فلا تخدعني الصبغة ولا تزور سنه، وأراه وفي يده عصا قصيرة كالتي نراها في أيدي طلبة مدرسة البوليس سوى أنها أغلظ، فإذا به قد ارتد شابا. فيما أرى، وفيما يحس هو أيضا؛ لأنه يكون وهي معه أنشط وأخف وأشد وطئا على الأرض فأتعجب.
وأرى شابا مبالغا في التأنق وفي يده عصا مفضضة المقبض، فأقول لنفسي: هذا فتى مدلل أو محدث نعمة، ولا اعتماد عليه ولا خير فيه، والأغلب أن يكون أميا أيضا، ولعله كان يلبس جلبابا ومعطفا، فاعتاض منهما ثياب الأفندية، وأساء اختيار الألوان، ولو ظل في جلبابه ومعطفه لكانت العصا أشبه به وأليق، ولما عدا حينئذ أن يكون من «أولاد البلد» الذين يخرجون في مثل هذه الملابس حين يريدون أن يحيوا الليل بالسهر ، وأن يبيتوا في «خمور وأمور» كما يقول ابن الرومي في صفة التجار.
والعصا كاللحية تكون أليق في سن منها في سن أخرى. وكذلك ألوانها وزينتها أو عطلها وحجومها. وهي توافق الذوق العام حينا وتنافيه حينا آخر. فما لهذا الذوق ثبات، وإنه لدائم التغير والتطور. ففي الجيل الماضي مثلا لم يكن مستغربا أن ترى الشبان الأقوياء الخفاف يتخذون العصي، ولا يبدون إلا وهي في أيديهم، أما الآن فقد اختلف الحال، وصار الذوق العام ينفر من منظر الشاب وفي يده عصا. ولا عجب، فإن من يكتفي من الملابس بقميص مفتوح الجيب، قصير الكمين، وسروال إلى ما فوق الركبة، لا يمكن أن يكون إلا مستهجن المنظر إذا اتخذ عصا؛ لأن معنى العصا لا يوائم هذه الثياب الخفيفة التي تفيد معاني القوة والجلد والنشاط والأسر والمرح.
وقد كانت لي عصا ذات تاريخ، ولم تكن عصاي ولا كنت اشتريتها، وإنما أعارنيها - أو نزل لي عنها - صديقي العقاد، لما هيضت ساقي، وكان أخي - وهو أقصر مني قامة - يتخذ عصا أطول منه، فاستعرتها منه لأتوكأ عليها، ولكنها كانت طويلة تكاد تبلغ كتفي، فبادلت الأستاذ العقاد وهو مديد القامة، غير أن عصاه كان قصيرة تصلح لي دونه، وظلت معي سنوات طويلات، عرفها إخواني جميعا، لطول عهدي بصحبتها، وكانت لا تفارقني حتى عند النوم، كنت أبقيها إلى جانبي على السرير، وكنت ربما نسيتها في الترام، أو مقهى، أو بيت صديق، فترد إلي كالثوب الذي يقول فيه الشاعر:
طال ترداده إلى الرفو حتى
لو بعثناه وحده لتهدى
ثم اتخذت بيتي في صحراء الإمام على الطريق إلى قرية البساتين القريبة من المعادي، فاتفق لي في إحدى ليالي رمضان أن عدت من القاهرة قبيل السحور، وإذا بمجنون ضخم الجثة هائل الأنحاء، كثيف شعر الصدر والذراعين والوجه والرأس، يتصدى لي، و«أنا» كما يعرف القارئ - أو لا يعرف - «من خف واستدق؛ فلا يثقل أرضا ولا يسد فضاء»، وكان هذا المجنون هادئا في العادة؛ لا يثور ولا يمس أحدا بسوء، وكان العطارون يستخدمونه - بدلا من الحمار - في إدارة طاحون البن، فإذا وقف ألقوا إليه بالرغيف فيلتهمه ثم يدور بالطاحون، وكان شر ما يصدر عنه مما يدخل في باب الأذى، أن يرى فتاة على رأسها جرة ماء كبيرة فيتناولها - الجرة لا الفتاة - ويقلبها على فمه فيأتي على ما فيها، فلما اعترض طريقي دهشت ثم فزعت، ولم يمهلني؛ بل انتزع مني العصا فتركتها له ونجوت بنفسي، وإذا به يكسرها على ركبته، كما يكسر بعضهم عود القصب، وكانت غليظة متينة، فحمدت الله الذي لم يجعلني في يديه بدلها! ***
جلست في بكرة الصباح إلى نافذتي أنظر إلى الطريق وهو يفرش رملا فإنه يوم المحمل، وكان البرد شديدا، وبلغ من قسوته أني كنت أنفخ في يدي وأفركهما وأنا خلف الزجاج، فكيف بهؤلاء المساكين الذين يجرفون الرمل ويفرشونه وما عليهم من الثياب إلا هلاهيل! ولو استطعت لرقدت ودسست نفسي في لحاف، ولكني لا أطيق الفراش بعد أن أفتح عيني على مطلع نهار جديد. ولست أتخذ المواقد للتدفئة أو المراوح للتبريد؛ لأني أكرهها وأخشاها، فإني ضعيف وهنان الكيان، فلا أزال من أجل ذلك أقول في الصيف: ويلي من سمائمه، وفي الشتاء: ألا بعدا لمشتائي! ولا أصنع - لقلة عقلي من فرط خوفي - شيئا ألطف به الوقدة أو أدفع به القرة.
وسيقبل الناس - رجالا ونساء وأطفالا - بعد ساعة أو نحوها، فيزدحم بهم الطريق، ليشهدوا موكب المحمل، وإن كان لا جديد فيه، وستغص الشرفات والنوافذ بالمطلين والمطلات، وسيدق علينا بابنا فنفتحه، ويدخل من نعرف ومن لا نعرف، ويحتلون شرفاتنا ونوافذنا لينظروا وينعموا. وقد قضيت في هذا المسكن اثني عشر عاما وزيادة، ولست أذكر أن رجلا غريبا طرق بابنا ورجا منا أن نأذن له في الفرجة، ولكن المرأة تجترئ وتقدم على ما يحجم ويجبن عنه الرجل. ولم أجترئ أنا قط على سؤال واحدة من هؤلاء الطارقات الغريبات عن هذه الشجاعة: من أين يجئن بها! وقلت: أسأل امرأتي، فلعلها وهي من جنسهن تدري، ولكنها ما استطاعت قط أن تجيبني بأكثر من قولها: «وهل أنا أعرف؟» فأسألها : «ولكن لماذا أرى الشجاعة تخونك أنت دونهن؟» فتستغرب وتسأل: «ماذا تعني؟» فأقول: «أعني لماذا لا ترديهن عن بيتك ما دمت لا تعرفيهن؟» فتقول: «يا خبر أبيض! وبأي وجه أفعل ذلك؟» فأقول: «بمثل الوجوه التي يتطفلن بها عليك» فتقول: «هذا شيء آخر. إنهن لا يسألننا شيئا سوى أن يقفن في شرفة أو نافذة، فكيف يضيرنا هذا؟!»
فلا أرى فائدة ترجى من هذا الحوار فأقصر، وأبقى في غرفة كتبي لا أبرحها، وإذا كان لا بد من الخروج، أوصدتها ودسست مفتاحها في جيبي. فما أكثر ما استعير من كتبي ولم يرد! وماذا تقول لمن تحلف لك مائة يمين ويمين أنها ستعيد الكتاب بعد يومين اثنين لا أكثر؟! والمصيبة أن كتبي غير مرتبة، وأني لم أضع لها فهرسا، ولست أقيد ما يؤخذ منها، لأنه لا خير في هذا، فإني أنا أنسى أن الكتاب استعير، والذي يستعيره يؤثر أن ينسى أنه عارية ترد. ولكني لا أخجل هذا الخجل حين يكون طالب الاستعارة رجلا، فلماذا يا ترى؟! ألأن الرجل منا لا يطيب له أن يدع امرأة - ولو كانت لا تعنيه - تظن أنه فظ جافي الطباع؟! وأحسب أن الرجل يدور في نفسه - وهو مدرك لذلك أو غير مدرك، سيان - أن كل امرأة صديقة محتملة؛ أي إنها قد تكون في يوم من الأيام صديقة له، فمن سوء التمهيد لذلك اليوم أن يردها ردا سيئا. وليس هذا منطق العقل، ولكنه منطق الطباع، فإن من قلة العقل أن يكلف الرجل نفسه عناء التمهيد لصداقة كل امرأة في هذه الدنيا، ومن قلة العقل أيضا أن يتوهم أن المراضاة هي التمهيد الذي لا تمهيد غيره، فقد تكون الخشونة أفعل وأكفل بأن تبلغ الرجل سؤاله. على أني لا أدري، فما زالت المرأة - فيما أرى - لغزا معقدا لا حل له.
وعلى ذكر الكتب والمكتبة أقول: إن من أغرب ما وقع لي في هذا البيت، أن لصا تسور في ليلة صيفية إلى غرفة نومي، وحمل كل ما على المشجب من ثيابي وثياب امرأتي، وكان حكيما عاقلا، فلم يحاول أن يفتح خزانة أو صوانا أو غير ذلك، لئلا يحدث صوتا فنستيقظ، ولو عرف ما اتقى ولا بالغ في حذره، فما عندنا شيء ندفع به عن أنفسنا - حتى ولا عصا - وقد سألني أخي بعد ذلك عما كنت خليقا أن أصنع لو كنت غير نائم، فكان جوابي الذي لا أتردد فيه: «كنت أتناوم!»
على أن هذا ليس بيت القصيد، وإنما بيته أن اللص ترك ما كان في جيوبي من أوراق ومفاتيح عند مخبأ في الفضاء الذي يشرف عليه البيت، فجاءنا بها حارس المخبأ فأكبرت في اللص هذا الحرص على نبذ ما لا ينفعه، وحمدت له أنه ألقى بالمفاتيح والأوراق على مقربة من البيت، ولكني لما تأملت المفاتيح ألفيتها ناقصة، فقد أخذ اللعين مفتاح باب المكتب الذي على السلم. فهو إذن ينوي أن يشرفنا بزيارة أخرى! وضحكت وقد خطر لي أن لعله لص عالم، أو من هواة الكتب، ولم يسعني إلا أن أغير القفل.
وأعود إلى المحمل الذي استطردت عنه فأقول: إني سألت نفسي هذا السؤال: «ماذا ترى يفعل هؤلاء الذين يفدون زرافات ووحدانا ليقفوا على الرصيفين المتقابلين في انتظار موكب المحمل إذا علموا أن تاجرا سيشنق بعد ساعة في ميدان باب الخلق - وكان قديما هو الميدان الذي يشنق فيه من يحكم عليهم بالإعدام، وقد رأيت اثنين منهم يشنقان، وكان أحدهما أعمى - لسبب من الأسباب التي توجب الشنق؟ هل ينتظرون المحمل أو يخفون إلى باب الخلق؟!»
وقلت في جواب هذا السؤال: إن الأرجح عندي أن يهرعوا إلى باب الخلق، فإن موكب المحمل منظر مألوف، وإذا مد الله في أجلهم فإنهم يستطيعون أن يروه في موسم الحج المقبل، ثم إن مشاهدته لا تفيدهم شعورا أعمق مما يستفاد من الحفلات العامة. أما شنق رجل في ميدان عام فيحرك عواطف أعمق، فهو أولا قد اعتدى على الجماعة بقتل واحد منها مثلا، وبالخروج على نظامها وقانونها، ثم إنه بما اجترح يعد - إلى حد ما - ثائرا متمردا على الجماعة، فلا يسع الجماعة الوادعة إلا أن تشعر بمقدار من الإعجاب في سريرة نفسها - وحتى من غير أن تدرك أنها تعجب - بقوته وبأسه وجرأته. ثم إن شنق واحد من الجماعة مظهر لسلطان القانون وسطوته، فهو شيء رهيب له روعة. وأخيرا أحسب أن الشنق العلني يثير ويدفع إلى السطح الخشونة الكامنة في الجماعة، والقسوة الفطرية التي يحجبها الصقل والتهذيب والنظام في العادة، وقد يعرف القارئ أن الجماعة - كجماعة - أخشن وأعنف وأقل رحمة وأدنى مستوى على العموم من الفرد، وقد لا تستطيع وأنت وحدك أن تعتدي على ذبابة، وقد تسقط مغشيا عليك إذا رأيت دجاجة تذبح، وقد لا يطاوعك لسانك على الدوران بكلمة نابية تقولها حتى لأعدى أعدائك، ولكنك وأنت في جمهور كبير تلفى نفسك قادرا على العدوان باللسان واليد على من يعديك الجمهور بسخطه عليه، فإن وجود المرء في جمهور يجعله طوع الروح العام، فيصبح التيار الساري هو المسيطر عليه، لا عقله ولا إرادته. ثم إن اندماجه في خلق كثير يشجعه ويذهب عنه الخوف والجبن، ويطمئنه. وقد رأيت مرة جماعة من الرجال يعابثون امرأة مجنونة معابثة غليظة، ويضحكهم صراخها وعويلها وما تهرف به؛ إذ يجذبون ثيابها ويلوون ذراعيها، ويفعلون غير ذلك مما يصنع القط بالفأر، فزجرتهم فكادوا يتركونها ويعنون بي دونها، وأسمعوني من الكلام أفحشه وأقبحه، فمضيت عنهم وأنا أحدث نفسي أنه لو لقيها واحد منهم بمفرده لكان الأقرب إلى الاحتمال أن يرثي لحالها، وأن يجود عليها ويعطيها مما أعطاه الله.
ورأيت الأعمى يشنق في باب الخلق، وكنت في طريقي إلى المدرسة، فإذا الناس يضحكون ويصفقون وينكتون، ويقذفون المسكين بكل بذيء من القول، حتى النساء زغردن يومئذ، وكن في غير هذا الجمع خليقات أن يبكينه ويندبنه.
ورأيت في عرس قديم - قبل جيل تقريبا - شابا من أولاد البلد يتجمع عليه لفيف من أمثاله ويعرونه من ثيابه - إلا السراويل - وكانت ليلة شتوية باردة، ويرغمونه على الرقص وهم حافون به راصدون له، يحضونه على مواصلة التثني والتلوي ويصفقون، وهو يبكي من الغيظ والخجل مما صار إليه من الذلة، وبقية الناس يضحكون ويقهقهون وهم وقوف لينظروا، وأصحاب العرس عاجزون عن حماية الفتى المسكين، وأنا أتعجب له! ماذا تراه صنع حتى استحق ذلك؟ ولا أهتدي - على كثرة ما سألت - إلى جواب مريح، فقد كان كل من أسأل يقول: والله لا أعرف! وما داعي أن يعرف؟ أليس حسبه هذا المنظر المسلي؟!
وسمعت وأنا جالس إلى مكتبي أصوات التصفيق، فكان هذا إيذانا بمرور الموكب، فانتظرت دقيقة ثم قمت إلى النافذة أنظر، فإذا الشارع قد خلا إلا من الشرط، والنوافذ ليس فيها وجه واحد يطل! انحسرت الموجة وأعقب المد جزر، وسيمد هذا البحر الإنساني مرة أخرى ويقبل موجه يرجف حين يؤذن الموكب بعودة، فلننتظر. ***
أرى من نافذتي على هذا الرصيف شعوبا شتى لا يبدو لي أنها تتعارف أو تتواطن، وإن كانت تتجاور في حي واحد، ولكل منها حياته الخاصة التي لا تشبه حياة الآخرين، لا في مطعم ولا في ملبس، ولا فيما ينشده إنسان في حياته ويبغيه من دنياه. وأنا إذ أنظر إليها يخيل إلي أني أرحل إلى بلاد بعيدة، وإن كنت لم أبرح مقعدي إلى جانب النافذة، فسبحان ربي الخلاق! أكل هؤلاء المختلفين الذين يأبون أن يأتلفوا ذرية، آدم واحد وحواء مفردة؟! عجيب هذا! على أنه ليس أعجب من أن يكون كل من الرجل والمرأة إنسانا من أصل واحد. وتذكرت قول «لن يوتانج» إنه يتعجب للمرأة كيف تستطيع أن تمشي على قدمين اثنتين وتقاوم ما يغريها من طبيعة جسمها بالمشي على أربع!
وتذكرت ما حدثني به الأستاذ العقاد مرة أنه قرأ لعالم من العلماء، يرجح أن تكون أنثى الإنسان قد انقرضت لأسباب شتى ذكرها، فسطا على أنثى حيوان آخر واتخذها له بديلا من أنثاه؟
وتذكرت أني لقيت مرة إحدى بنات حواء التي لعلها مظلومة، فسألتني: «إلى أين»؟
قلت: «إلى الأستاذ العقاد، فهل لك في زيارته معي؟»
وكنت أعرف أنها تعرفه من كتبه فقالت: «وأنا هكذا؟»
وصوبت عينها إلى ثيابها وأجالتها فيها، ورفعت كفها إلى شعرها تسويه.
قلت: «ما لك!»
قالت: «لا زينة، ولا ثياب جميلة، وشعري منفوش وشكلي ملخبط وحالي اليوم حال».
قلت: «سبحان الله العظيم! ولماذا تخصيني أنا دون خلق الله بمزية هذه اللخبطة؟»
وتعجبت للمرأة، لماذا تعنى أول ما تعنى بمنظرها، وكيف تبدو في عين الرجل ولا يعنيها أن يعجب أول ما يعجب بعقلها، أو أدبها، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، ولا ترى في هذا زينة كافية لها، أو جمالا هو حسبها ... ولو أن رجلا أثنى على عقل امرأة أو سعة اطلاعها أو حسن أدبها أو حكمتها، أو حزمها في تدبير أمورها، وأمسك وأقصر، لسرها هذا وساءها في آن معا؛ فأما أنه يسرها، فلأنه ثناء والسلام، وكل ثناء حبيب إلى النفس ولو كان بغير الحق.
حدثني صديق ظريف أن رجلا أقبل على وال من ولاة الترك القدماء وراح يمدحه ويذكره بكل خير، ويبدئ ويعيد في صفة عدله وشجاعته ومروءته وسخائه وعقله وأدبه وعلمه ... إلى آخر ذلك، فقال الوالي - وكان مجربا عاقلا -: «اسمع يا بني، إن كل ما قلت في كذب، ولكنه لذيذ، ووقعه في النفس حميد، فأعد يا بني، أعد، وأطل كيف شئت!»
وأعود إلى ما استطردت عنه فأقول: ولكن المرأة خليقة أن يسوءها من مثل هذا المدح أنه لا يمتد إلى ثوبها وحسن تفصيله على قدها الرشيق وجمال لونه أو ألوانه، وبراعة الافتنان في وشيه، أو إلى حذائها ودقته، أو جوربها الرقيق النسج الذي يشف عما تحته، أو شعرها وتصفيفه، أو عقدها أو قرطها، أو عطرها وطيبها، أو حتى وشمها إن كانت ممن يوشمن - على قلتهن.
وإني لأدرك أن هذا راجع إلى وظيفتها في الحياة، فما هي في الأصل بأكثر من أداة للنسل. وإن كان هذا لا يمنع أنها تستطيع أن تجاري الرجال في بعض ما يعالجون. ولكن هذا دليل على ماذا؟ أليس هو الدليل على الاختلاف الأصيل الذي يغري بعض الناس بالقول بأنها مخلوق آخر؟
وتحت نافذتي اليوم معرض أزياء وأذواق، فإنه الأحد، والساعة العاشرة، والنساء كثيرات على الرصيف في حلل شتى، ومع بعضهن حقائب صغيرة أو سلال فيها على الأرجح طعام وشراب، ومع بعضهن أزواجهن أو إخوتهن أو أصدقاؤهن، وفيهن العجوز والصغيرة والنصف، ولكنهن جميعا في حفل من الزينة، وليس بينهن مصرية إلا أن تكون عابرة سبيل، ومن أين تجيء المصرية وهي لا تخرج إلا لقضاء حاجة أو زيارة أو سينما أو نحو ذلك، ولا تحسن أن تقضي ساعات الراحة أو يومها أو أيامها إلا في بيتها، وفي مباذلها؟ ومن المصريات من لسن كذلك، ولكن هؤلاء نادرات، والنادر لا حكم له ولا قياس عليه.
وتساءلت - وعيني على هذه الثياب الحسنة - عن المصرية - في الأغلب والأعم - كم دقيقة أو ثانية يراها بعلها في مثل هذا الهندام الجميل؟ وقلت في جواب ذلك: إني أحسب أن عامل الترام أو البائع في دكان، أعرف بثياب المرأة من زوجها، وأطول رؤية لها في زينتها.
وإنها لمسكينة معذورة، فما علمها أحد غير ذلك، ولعلها ما كانت لها قدوة غير أم جاهلة.
عرفت فتاة حرة كريمة الأرومة والمنبت، وإن كنت أنا لا أجعل بالي إلى هذه الأصول التي يكثر اللغط بها، ولا أعبأ بها شيئا، ولا أرى الناس إلا سواء، وإن كانوا يبدون متفاوتين أشد التفاوت، وأنا عدو لدود لكل من يرفع طبقة فوق طبقة، ويفرق بين الناس فيقول: هذا كريم الأصل، وهذا لئيمه.
ما علينا. وكانت هذه الفتاة المصرية عصرية مثقفة، وأسلوب حياتها في بيتها على أحدث طراز كما يقولون.
ودعيت إلى الاحتفال بزواجها - أو على الأصح بكتابة العقد - فقد آثر القوم - كما هي العادة - أن يرجئوا ليلة البناء أو الجلوة حتى يعدوا للفتاة ما تجهز به ويحتاج إليه في وجهتها الجديدة. وفي تلك الليلة رأيت ما لا يندر أن يرى مثله؛ ذلك أنهم زوجوا الفتاة هذا الشاب على أن يزوج هو أخاها أخته - بغير مهر في الحالين - وكان هناك طعام وشراب؛ فأما الرجال فكانوا في غرفة وحدهم، وأما النساء فكن في غرفة أخرى، ولكن الباب بين الفريقين مفتوح، وهؤلاء وأولئك يتبادلون الكلام والتحيات والنكات والنظرات، فلا أدري لماذا كان الفصل، إلا أن يكون السبب أن الرجال وضعت أمامهم رواقيد الشراب وحرم النساء مثل ذلك. على أني كنت أشعر أحيانا بغمزة خفيفة، فألتفت فإذا فتاة صغيرة تبتسم لي، ثم تشب - وإن كنت قصيرا كما يعرف القارئ أو لا يعرف - وتهمس في أذني أن فلانة أو علانة ترجو أن أبعث إليها خلسة بكأس، ولا موجب للإطالة، فإن زجاجات الشراب ما لبثت أن صارت تنتقل علانية من غرفة إلى غرفة. ولعل الباب لو كان موصدا لما كان له غناء.
ومرت بي العروس بعد ذلك، فتحدثنا حينا في أمور شتى، إلى أن أفضى بنا الكلام إلى الأزواج، فخطر لي أن هذه فرصة تغتنم وقلت لها: «اسمعي يا عروسنا الجميلة، إني أكبر من أبيك سنا، وأحسبني أيضا أعرف منه بالحياة وأخبر، فإنه لا يعرف من دنياه إلا البيت والمقهى، فهل تقبلين نصيحة مني؟ احذري أن يراك زوجك صباحا أو ظهرا أو مساء - باختصار في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل - في مباذلك أو في ثياب رثة، أو غير جميلة. فإن بيت الرجل موئله، وهو يجب أن يجد فيه ما يشتهي، فلا تحمليه على المقارنة بين ما يراه في بيته من الرثاثة، وما تأخذه عينه في الطريق من مظاهر الجمال والفتنة، فينكر منك ذلك وينصرف عنك، ويزهد فيك، وتتطلع عينيه إلى سواك. واحرصي على تجديد نفسك له بكل وسيلة حتى لا يمل، فإن الملل شر آفة. والمهم أن يجد عندك ومنك كل ما يتطلب، ولا يشعر بحاجة يخطئها أو لا ينالها في بيته ويضطر أن ينشدها خارجه.»
ومضى عامان، ولم أر وجهها في خلالهما، ثم زارتني مرة أخرى، وأخبرتني أن لها في بيت أبيها أياما، وأنها «غاضبة»، فسألتها عن السبب فتلعثمت وتلجلجت، فأعفيتها من الجواب. فقد خمنت السبب في جملته، وعلى وجه العموم، وقلت لها: «هل عملت بما نصحت لك به؟»
قالت: «نعم، بالحرف.»
قلت: «ولا شكوى له أو تأفف أو تبرم من هذه الناحية؟»
قالت: «كلا.»
وقلت: «وتحبينه ويحبك؟»
قالت: «نعم.»
قلت: «اسمعي. ما أرى إذن إلا أنك تفسدين حياتك بعنادك وقلة عقلك. ألم أقل لك احذري أن تحرميه شيئا فيضطر أن يطلبه خارج بيته، لماذا تقذفين به إلى الشارع وتحوجينه إليه؟ اسمعي مني وارجعي إليه، واعذريني إذا كنت أعظك وأثقل عليك، فإني أضن بك على الخيبة.»
قالت: «ولكن كيف يمكن أن أرجع وهو لا يأتي؟»
قلت: «آه. الكرامة! طيب يا ستي. سأجيئك به فتهيئي للقائه والرجوع معه بلا كلام، وكوني له ومعه على ما يحب.»
وأحسبها سعيدة أو راضية، فما رأيتها بعد ذلك، وإن كنت أشتاق إلى المعرفة؛ فإني أحس أني مسئول عنها إلى حد ما؛ ألست قد علمتها ما تعلمت؟! ***
ماذا وراء هذا الظاهر الذي يبدو لنا أو الذي تدركه حواسنا؟ أو ما هي الحقيقة الكامنة وراء هذه الظواهر التي نحسها أو نجتليها؟ في هذا ذهبت أفكر يوما، وأنا جالس إلى نافذتي، فقلت لنفسي: إن الله - جلت قدرته - قد خلق لنا عيونا تشبه عدسة آلة التصوير، ولو شاء غير ذلك لكان له تعالى ما أراد، وكان من الممكن أن يجعلها كالمجهر الذي ترى به الجراثيم وما إليها مما لا يتبدى لعيوننا العارية. ولو فعل - جل وعلا - ذلك لاختلف الكون فيما ترى عيوننا حينئذ، ولكان غير الذي نراه الآن. ولو شاء لجعل لنا آذانا أقوى فسمعنا أصواتا كثيرة من حيث لا نحس الآن إلا السكون التام. ولكان يسعه سبحانه أيضا أن يزودنا بحواس أخرى غير الخمس التي آتانا إياها، ورزقنا عشرا مثلا، فنصبح بها عمالقة، ونرتفع بفضلها فوق طبقة البشرية - كما نعهدها في أنفسنا.
وذهبت أفكر في قصور حواسنا، وقلة جدواها، وخطأ ما تفيدنا من العلم، فقلت لنفسي: إن العين العارية ترى مثلا سطحا مستويا، ولا تستطيع - على فرط التحديق - أن تتبين إلا أنه أملس ناعم مصقول، ولكنا لو جئنا بميكروسكوب قوي، ونظرنا به، لوجدنا هذا السطح الذي بدا لنا ناعما أملس، مضرسا وعرا غير مستو ذا تلال وأودية، فأيهما أولى بالتصديق؟ العين المجردة أم المجهر الذي يرينا ما لا يسعنا أن نرى. إنه لا يسعنا في حياتنا العادية إلا أن نأخذ بما ندركه بهذه الحواس القاصرة، ولكنه لا يسعنا أيضا إلا أن نؤمن بصحة ما كشف لنا عنه العلم، وأن نسلم أن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: ظاهرا؛ وهو الذي لا تستطيع الحواس أن تعدوه، وباطنا أو حقيقة؛ وهو الذي يهدينا إليه ما نتوسل به من أدوات العلم الحديث. فنحن لا ندرك سوى جانب يسير محدود، حين تقتصر على ما تفيدنا الحواس، وليس الذي ندركه بحواسنا - بالقياس إلى الحقيقة التي وراء المظهر - إلا كالثياب التي نرتديها، وتنطوي علينا، وتغطينا وتحجبنا. وما تدلنا الحواس إلا على القليل القريب المتناول، والمحجوب عنها أكثر، فلا مفر لنا من توسيع نطاق وعينا جيدا إذا أردنا أن ندرك شيئا ما على حقيقته.
وتذكرت وأنا أفكر في هذا ما كان أستاذنا في المدرسة يقوله لنا فنستغربه، ونصدقه لأن إثباته سهل؛ وذلك أنه إذا كان قطاران يجريان في اتجاه واحد، وبسرعة واحدة، فإن الراكب في أحدهما يخيل إليه أن القطار الآخر ثابت لا حركة له، فلو اكتفى المرء بما يفيده النظر وحده لغلط وركبه الوهم. فلا سبيل إلى الحقيقة إذا كان المعول على الحواس وحدها. وشاهد ذلك حكاية العميان الذين صادفوا فيلا، فوقعت يد أحدهم على خرطومه، ويد ثان على ساقه ... وهكذا، وقال عنه كل منهم ما أفاده إحساسه بالعضو الذي لمسه.
وأنظر إلى بعض الأشياء فأراها ثابتة ولا يبدو أنها تتغير، وألمسها وأتحسسها وأجسها فلا أخرج بغير ذلك، ولا يخالجني شك في استقرارها والتزامها حالة لا تعدوها! ولكن العلم يقول لي: إن في هذه الأجسام التي أراها ثابتة حركة مستمرة، وإن عناصرها المحجوبة لا تنفك تتنقل، وإن ما يسمى «إلكترونات» لا تفتأ تدور، فكأن هذه الأجسام المادية ليست في حقيقتها سوى ميادين نشاط دائم سريع، ويقول العلم أيضا: إنه ليس في هذا الكون المهول كله حالة سكون مطلق، وإن ما يبدو أنه سكون إنما هو وهم وخيال. أو كما يقول أينشتين: إن السكون إنما هو «مظهر» سكون.
فهناك في كل شيء عناصر دوارة أبدا وعناصر دائمة الاختلاج، حتى الوعي الإنساني نفسه لا يزال في حركة مستمرة من الإحساسات والخوالج والخواطر. وليس لخاطر أو خالجة من الحياة والوجود إلا برهة قصيرة، والخوالج تتلاحق وتتوالى بكثرة لا يأخذها عد، وهي تولد وتموت، كما يولد الناس ويموتون، سوى أن آجالها هنيهات لا تعرف لها - لضآلتها - قياسا زمنيا.
ثم ماذا؟ ماذا يؤدي بنا إليه العلم الحديث والفلسفة الجديدة، أو قل: التفكير القويم المنهج؟ إن خواطرنا ليس لها وجود ثابت أو بقاء، وهي تذهب ويخلفها غيرها مما يشبهها، ولكنه لا يطابقها، ومن هنا يتولد إحساسنا بالاستمرار. ومن هنا أيضا يمكن أن نقول: إن الكون ليس في حالة ثبات، بل في حالة صيرورة مستمرة، لأن الحركة تنطوي على تغير، فهذا الكون الذي يبدو لنا ثابتا ركينا متينا وطيدا، هو في الحقيقة حركة جارية - بهذا يقول العقل وبغيره تنبئنا الحواس.
ويخيل إلى من يتتبع العلم الحديث أنه تناول المادة وفتحها فألفاها خاوية، فإنها - على قوله - ليست إلا إلكترونات تتحرك ولا تفتر. ومؤدى هذا أن الأرض التي نمشي عليها ونبني فوقها ونزرعها ونأكل ثمارها وننعم بخيراتها، فضاء فارغ، وأن حواسنا هي التي توهمنا أنها مادة متماسكة. ذلك أن العلم الحديث يقسم الذرة التي كانت لا تنقسم، ويقول: إنها «موجات». وتسأل: موجات! لماذا؟ فيجيبك العلم: إنها على التحقيق ليست موجات لمادة، وإنما هي موجات لنشاط. فليس الكون إذن مادة، وإنما هو حالات تحدث وتتعاقب، ونحن نعيش في كون عبارة عن «قوة» دائمة الحركة، وأعجب ما فيها أنها تبدو لنا شيئا أو مادة.
وتسأل عن «النشاط» فلا تهتدي إليه في ذاته، وإنما يقولون لك: إن مظاهره هي الصوت والحرارة والضوء ... إلخ. أما النشاط نفسه، النشاط المحض، فما اهتدى إليه أحد؛ لأنه ليس إلا فكرة، وما رآه العلماء والباحثون، وإنما رأوا مظاهره من الصوت والحرارة والضوء ... إلى آخر ذلك، إذ كانوا قد عجزوا إلى الآن عن عزله وتجريده، فهو فرض لا أكثر، ولكنه لم يتبد قط.
والنتيجة؟ النتيجة أنه ليس ثم وجود مادي، وإنما نحن نفكر ونحس فتبدو لنا هذه الدنيا. ويرقد العقل والإحساس، فتزول هذه الدنيا. فالدنيا موجودة ما بقي العقل في يقظة، وهي تختفي وتفقد وجودها إذا نام العقل أو كف. وليس لشيء في دنيانا وجود مستقل عن عقلنا، ولا حقيقة قائمة بذاتها. وليس من الميسور أن نفصل ما يحيط بنا من العالم الخارجي عن ذواتنا، وإنهما لمنفصلان فيما نحس ونرى، ولكنهما شيء واحد أو مرتبطان، يكونان معا، ويزولان معا، ولا بت للعلاقة بينهما، ولا يمكن أن يحس المرء بنفسه وحدها غير مقرونة إلى ما حولها. •••
ولا داعي للمضي في هذا الضرب من التفكير، فإنه خليق أن يطير العقل، ويعصف باللب. وهل مؤداه إلا أنك لست بشيء، وأنك لا أكثر ولا أقل من مظهر نشاط لإلكترونات، ولا أدري ماذا أيضا ... ولكنه على ثقل وطأته على النفس يفيدنا فهما للحياة قد يكون أقرب إلى الصحة، أو هو على الأقل أصح من فهم القدماء لها، أو أحرى بأن يصرفنا عن الأخذ بما ذهب إليه العلماء السابقون من الآراء والنظريات التي نقضها المحدثون، ولا سيما أينشتين صاحب نظرية النسبية. وقد يجيء غيره من بعده فيهدم ما بناه، ويحاول أن يستظهر برأي جديد، فإن عقولنا محدودة ونظراتنا قاصرة، والأمر كله أمر اجتهاد في التفسير والتعليل. ***
للكاتب الفرنسي المشهور «أندريه موروا» رواية بارعة يسميها «كليما» يصف فيها حياة رجل تزوج امرأة أحبها فأرته النجوم في الظهر الأحمر وسودت عيشه ونغصت حياته، وجعلت من نفسها له عجلا يعبده من دون الله، ثم طلقته وفارقته، ومضت الأيام فأحب امرأة أخرى، وكانت ألين عريكة وأسلس قيادا وأطوع في العنان، وكان دأبها أن تتحرى مرضاته وتتوخى مسرته، ولا تفعل إلا ما تعتقد أنه يرضيه ويريحه، ولم تكن تعصي له أمرا أو تخالف له مشيئة، ويقول «موروا»: إن هذا الرجل وضع بيانا بما يحب وما يكره من هذه المرأة، فكتب في ناحية ما يحب: إنه معجب بإخلاصها ووفائها له، وتعلقها به وحرصها على راحته وهناءته ... إلى آخر ذلك ، ولكنه يكره منها أنها لا تتشيطن أحيانا، ولا تتدلل عليه، ولا تعذبه، ولا تظهر له الجفوة، ولا تثير غيرته، ولا تحرك حبه الذي يركده الهدوء، والذي يكاد يأسن من فرط السكينة، وأنه يشتهي أن تثير غضبه مرة، أو تبعثه على الحسرة أو الأسف ... إلى آخر هذا أيضا مما تستطيع المرأة أن تتشيطن به وتركب به الرجل، من ضروب العبث الذي تغريها به طبيعتها إذا ساعفتها الدربة وسعة الحيلة.
وأظن أن هذا تصوير صادق لحال الرجل والمرأة. ولعل صاحبنا الذي وصفه «موروا» في روايته قد ألف التعذيب وطال اعتياده عليه، فهو يحن إليه ولا يستطيع أن يروض نفسه على الخلو منه، فإن الإنسان مع الزمن لا يلبث أن ينقلب حزمة من العادات، وهذا هو بعض الفرق بين الشباب والشيخوخة؛ فإن الشاب لا يزال مستعدا للتحول والتنقل، ولكن الكهل يعجز عن ذلك في الأحيان الكثيرة. وأذكر من أمثلة ذلك أن أعصابي أصبحت منظمة على ساعات الليل والنهار. فأنا حين أفتح عيني لأول مرة في الصباح الباكر أعلم أن الساعة السادسة، ولا أحتاج أن أراجع الساعة التي اعتدت أن أدسها تحت الوسادة. وعلى ذكر ذلك أقول: إن النوم لا يواتيني الآن إلا على دقاتها. ولقد تعطلت مرة واحتاجت إلى الإصلاح فأصبت بالأرق. وبلغ من انتظام عاداتي ووقوعها في مواقيتها المضبوطة أن صار في وسع من شاء أن يضبط ساعته علي، كما كان الناس يضبطون ساعاتهم حين يرون «كانت» الفيلسوف الألماني وهو خارج إلى رياضته اليومية، وكل ما هنالك من الفرق أني لست فيلسوفا ولا شبهه.
وأذكر أني قرأت منذ عدة سنوات قصة قد يظنها بعض الناس أدخل في باب المبالغات والتهويلات التي يقصد بها إلى المزاح منها في باب الحقائق الجافة التي تصلح للمعامل. وتلك - على قدر ما أتذكر - أن رجلا كانت له زوجة طويلة اللسان جدا، فكانت تصبحه وتمسيه باللعنات والشتائم، والإهانات والتأنيب المر، والطعن الوجيع، والقدح الجارح. وكان في أول الأمر ينفر من ذلك ويثور عليه، ويهيج بها من فرط الألم ، فيصب عليها مثل ما تصب عليه، ولكنها كانت أقدر منه، وأطول باعا في الشتم، وأصبر على المواظبة، وأوفر محصولا في باب البذاء، فاستخذى، وألف ذلك على مر الأيام؛ حتى صار لا يواتيه النوم إلا على صوتها المتدفق ببراعات الهجو، ومبتكرات الشتم والقدح واللعن. ثم توفاها الله بعد أربع وعشرين سنة من هذه الحياة، فأقبل عليه آله وإخوانه يهنئونه بالنجاة من لسانها الطويل، ولكن الرجل تضعضع وانهد كيانه وتقوض بنيانه، وتلفت صحته، فراح يعرض نفسه على الأطباء فلم يجده علاجهم، ولم تؤثر فيه منوماتهم. ثم أشار عليه لبق ذكي من أصدقائه، أن يلتمس له زوجة كالأولى، فحار الرجل، ولم يدر أين يجدها.
وراح ينشد طلبته بين الأرامل، إذ كانت الفتيات الأبكار - لعدم خبرتهن - لا يصلحن للاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة. وأخيرا جاءه صاحب له، وأبلغه أن امرأة من «الطراز الأول» توفي زوجها عنها أمس فعليه بها. فشرع يتودد إليها، ولم تمض بضعة أشهر حتى فاز بها. ولكنه وجد صوتها ضعيفا لا يبلغه وهو في الحديقة. فصار يحمل كرسيه إليها، ويجلس قبالتها يشرب لعناتها، ويعب فيما يطول به لسانها عب الظمآن، غير أنها لم تكن - مع الأسف - سوى صدى ضعيف لذلك الصوت الزاخر الذي أخرسه الموت. وكانت المرأة تبذل أقصى ما يسعه طوقها نصف ساعة أو نحو ذلك، ثم تحس بالفتور فتمسك، فيفتح الرجل المسكين عينيه ويقول - متسائلا أو مستحثا لها: «أنت هنا يا عزيزتي؟»
فتقول: «وأين كنت تحسبني أيها الغر المغفل؟»
فينشرح صدره ويبدو البشر والسرور في أسارير وجهه، ويعتقد أنه سينام في ليلته نوما هنيئا، ويقول لها: «تكلمي يا عزيزتي فإني مصغ إليك.»
ولكن بئر سفاهتها تكون قد نشفت، وبعد لأي ما تستطيع أن تجود عليه بما يملأ ربع ساعة، فكان الرجل يراها تسكت، فيهز رأسه ويقول لنفسه: «كلا، لقد كانت زوجتي الأولى - عليها ألف رحمة ورحمة - درة يتيمة.»
وكان إذا أراد النوم لا يزال يستحثها ويستثيرها لتسح عليه بالشتم، فيقول لها مثلا حين يبدو عليها الفتور، ويثني رأسها النعاس: «نعم يا عزيزتي، إن بالي إليك. لقد كنت تحدثينني عن فلانة، وكيف كنت أحملق في وجهها على الطعام ولا أحول نظري عنها إعجابا بجمالها.»
فتهيج به فتمطره صيبا من اللعنات الحرار التي تحيي نفسه وتنعش روحه، ولكن السحابة سرعان ما كانت تقلع ويعود إلى الجو صفاؤه البغيض، وإلى الليل هدوءه الثقيل، وإلى قلب ذلك المسكين حنينه إلى لسان زوجته الأولى، وبذاءتها المحبوبة، فيقول: «هل رأيت فلانة في ثوبها الجديد؟ تالله ما أشد انسجامه على قوامها الرشيق! لقد أخذت قلبي معها حين سلمت علينا البارحة.»
فتكر عليه بنفس متقطع وصوت محشرج من فرط الإعياء، فيرميها بآخر سهم في جعبته ويقول: «أسمعت ما قالت فلانة فيك؟ لشد ما أضحكتني والله.»
فتفتح عينيها وتسأله: «أضحكتك أيها الخائن؟ أتقول أضحكتك أيها الكلب؟»
فيستبشر ويقول: «وكيف لا أضحك وهي تقول: إن لك وجها كالسردينة؟»
ويغمض عينيه ويرهف أذنيه لسماع المشتهى من السباب وليتقي أمواج البذاء الهابطة بسوء القول فيه، ولكن البقية الباقية من قوتها لا تلبث أن تنفد، فيتحسر على النعيم الذي زال، ويظل إلى الصباح أرقا يصعد آهاته وتأوهاته على ما فقد حين ماتت زوجته الأولى، ويتأفف مما صار إليه بعدها من الضيقة في هذه الدنيا التي لا يحسن الناس فيها الشتم المريح.
وهذا مثل سقته بقدر ما ساعفتني الذاكرة كشاهد على فعل العادة، وكيف تثبت وتتأصل مع الزمن، ولا شك أن فيه إسرافا وشططا، ولكن الإسراف هنا ليس من الخطأ، بل المراد به التوكيد. وأعود الآن إلى «موروا» وصاحبه الذي تضجره الراحة، ويسئمه خلو البال من متاعب الحياة الزوجية، فهو يشتهي أن تتدلل زوجته عليه، وتتشيطن أحيانا لتعفيه من الركود، ولتبعث في نفسه الحركة وتثير في قلبه الشعور بالحياة وحبها من طريق الكفاح، فأقول: إني أنا لا أنقم من الحياة الزوجية ما ينقم، وإن كنت لا يسعني إلا الاعتراف بأني أمل أحيانا طول العهد بالراحة، ولكني لا أشتهي - كما يشتهي هو - عذاب القلب ووجع الرأس. ومهما يكن من ذلك فإن الواقع أن شكوى صاحبنا ليست فردية، وكل رجل - إذا اطلعت على سريرته - يشكو فيما بينه وبين نفسه شيئا من هذا، وكل امرأة - إذا اطلعت على سريرتها - يدور في نفسها الإحساس بالملل من تشابه ألوان الحياة وتكررها وعدم تنوعها، ولو أمكن أن تكون الحياة الزوجية - مع الطول والاستمرار - أكثر تنوعا، وأن تخلو من الاطراد الدائم الممل، وأن يعتور صفحتها - في بعض الأحيان وإلى الحد الكافي فقط - مقدار من الاضطراب يجعلها أنشط وأحفل بالحركة، ويكسبها بعض ما فقدت من الجدة، لصارت أمتع، ولكانت حقيقة بأن تكون أهنأ؛ لأن دوام الحال الواحد يفضي بها إلى الركود، والركود يبلد النفس ويفقدها الشعور بنعيم هذه الحياة، ولكن المصيبة أنك لا تستطيع أن تضع حدا للاضطراب يقف عنده ولا يتعداه، فلست تأمن أن تطغى موجته فتغرق فيها وتسوء العاقبة. على أنه يجب أن يكون مفهوما أن الحياة الزوجية، ليست هي التي يرجع إليها ما يشعر به الرجل والمرأة من الملل والسآمة، فإن كل حالة تطرد وتستمر على وتيرة واحدة تكون باعث ملالة وعلة ضجر، ولذلك يضجر المرء من عمله؛ لا لأن العمل في ذاته يثقل عليه، بل لأنه يرى نفسه يذهب كل يوم إلى مكان واحد من طريق واحد، ويباشر عملا لا يكاد يتغير، في أوقات لا تختلف، وبطريقة لا تتنوع، فتنتفخ مساحره ويشعر بالزهد ويحس بالحاجة إلى تغيير أسلوب حياته كله، وهذه هي مزية الإجازات والبعد زمنا عن العمل الذي يزاوله المرء، ولعل خير ما ينفي الملل عن الحياة الزوجية أن تكون هناك إجازات للزوجين يقضيانها منفردين، فإن ذلك خليق أن يكون أشوق وأشحذ للرغبة، وأبعث على الحنين إلى استئناف الحياة المشتركة.
على أن عقدة العقد في الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة ليست هذه، بل مسألة أخرى؛ وتلك أن المخلوقين مختلفان في الحقيقة، ولكل منهما حياته ووظيفته فيها، واختلاف الوظائف في الحياة يؤدي إلى الاختلاف في أساليب التفكير وفي اتجاه الذهن، ومع هذا الاختلاف الجسيم يجب أن يتفق الرجل والمرأة ويتفاهما ويتسايرا ليسعدا، وينبغي أن تطرد حياتهما المشتركة على الرغم من اختلافها في مجرى واحد. فكيف يتيسر ذلك؟
هذه هي المسألة كما يقول «هملت»، وحياة الرجل مدارها غريزة المحافظة على الذات؛ لأن عمله في الحياة هو السعي والكفاح والنضال، وهو يستهدف للمصاعب والمهالك والتلف والبوار، ولا يسعه إلا أن يعمل جاهدا لاتقاء ما يعرض له من ذلك، كما يعمل جاهدا للكسب والفوز، ومن هنا قويت غريزة المحافظة على النفس؛ لأن عملها دائم ونشاطها غير منقطع. وللمرأة حياة أخرى ووظيفة غير هذه - إلى الآن على الأقل - وأكبر ما هو معهود فيه إليها هو حفظ النوع والحرص على أن تظل هذه الدنيا عامرة بنسل أبينا آدم. وقد تزاول مثل ما يزاول الرجل، فتسعى وتكافح وتنافس، وتكسب الرزق وتقوم بأود الأسرة، ولكن عملها الأكبر سيظل هذه المحافظة على النسل، ومن هنا قويت في المرأة غريزة المحافظة على النوع، وليس معنى هذا أن غريزة المحافظة على النوع شيء لا يعرفه الرجل، وإنما معناه أن الغريزة الفردية فيه أقوى من أختها، كما أن الغريزة النوعية في المرأة أقوى من الغريزة الفردية، وهذا هو سر الاختلاف بين الجنسين، وهو اختلاف له مظاهره الجسمية، فليس هو من الأوهام، وليس القول به من الآراء التي تحتمل النقض وتتسع للمكابرة.
وهذا الاختلاف في الطبيعة يفضي حتما إلى اختلاف مثله في نظر كل منهما إلى الآخر؛ وأضرب مثلا فأقول: إن حب الرجل للمرأة معناه أنه يريدها خالصة لنفسه لينعم بها وحده، ويستأثر بالمتعة المستفادة من جمالها. أما حب المرأة للرجل فمعناه أنها رأته - بغريزتها لا بعقلها، فلا دخل للعقل هنا - أحق رجل بأن يعينها على أداء وظيفتها، أي: الإتيان بنسل صالح في الدنيا وبقاؤها عامرة بهذا النسل، وهي لا تفكر في ذلك كما لا يفكر الرجل في الأمر؛ لأن العمل والوحي هنا للغريزة لا للفكر. فالرجل يحب نفسه حين يحب المرأة، أما المرأة تسعى للتضحية الكبرى حين تحب الرجل، فهو لهذا أناني في حبه، وهي لهذا مضحية في حبها، وهي تحتمل المكاره في سبيل الحب؛ لأن حبها تضحية كبرى ، فأولى بها أن تصبر على التضحيات الصغرى.
أما الرجل فهو كما قلت، أناني فلا صبر له على تضحية، ولا احتمال منه لعذاب إلا وهو كاره أو عاجز عن الفوز بالراحة؛ لأن طبيعة حبه لا تسمح له أن يفهم هذه التضحية، ولا تجعله مستعدا لها. وأنا أتكلم عن الأصل لا عما يعرض من الشذوذ. ومن هنا كانت المرأة أوفى، وكان الرجل أغدر، بالمعنى الشائع لا الحقيقي. فإن الوفاء من الرجل إفلاس نفسي، وخيانة لطبيعته التي فطر عليها، أو التي نمت فيه بفضل أسلوب حياته. وهذا هو الأصل، ولذلك رأينا الرجل في تاريخ الإنسانية يتخذ المرأة والمرأتين والثلاث والأربع، وتكون له الجواري فضلا عن الزوجات أو من هن في حكمهن، ولم نر المرأة تتخذ من الرجال - أعني الأزواج - اثنين أو ثلاثة أو أربعة، إلا أن يكون ذلك - أي أن تصاحب غيره - سرا وخفية ولعلة، ولكن الرجل لم يكن يصنع هذا سرا، بل جهرا، وكان يقيمهن في بيت واحد، وكانت المرأة ترضى وتذعن وتسعى سعيها لتكون هي الأثيرة المحبوبة لا الوحيدة، وكان الرجل لا يكف عن الاشتهاء والتطلع إلى غير الموجودات والتبرم بالموجودات، وهذا هو قضاء الطبيعة وحكم الفطرة - أو ما صار كالفطرة - في الرجل والمرأة.
فالوفاء فيما يتعلق بالرجل، أكذوبة ومنافاة للطبيعة كما قلت غير مرة، ولكنه فيما يتعلق بالمرأة، صدق وإخلاص للطبيعة، ومن هنا إن المرأة لا تزال تتهم الرجل بالغدر والتحول والتقلب وقلة الثبات، وهذا هو تفسير الغيرة الشديدة من جانب المرأة، وهي غيرة لا تقاس إليها غيرة الرجل مهما عظمت؛ لأن غيرة الرجل على المرأة هي كغيرته على كل ما يملك، فإذا أمن أن يضيع ملكه لم يبال ما دون ذلك مبالاة تذكر، فغيرته في الكليات لا في الجزئيات والتوافه، ولكن غيرة المرأة مرجعها إلى إدراكها - بغريزتها الذكية التي تهديها في حياتها - أن الرجل لا يستطيع الصبر على الوفاء، ولا يملك إلا أن يتحول ويتقلب في حبه، وإلا أن يصرف قلبه من هنا إلى هناك. فكل حركة منه أو لفتة نذير منه عندها بوشك هذا التحول وبفقدان ما كان لها عنده من مقام ومنزلة وإيثار، وبعودتها واحدة من مئات الآلاف اللواتي لا يباليهن أو يحفلهن ولا يحسهن أو يفطن إلى وجودهن. فهي غيرة على الوجود وكل ما ينطوي عليه من الحقوق والمزايا، ولذلك لا تنفك مشبوبة مضطرمة.
وقد يتغير كل هذا وتتقارب الطبيعتان تبعا لتغير الزمن الذي دفع بالمرأة إلى ميدان السعي والعمل، وحملها على مشاركة الرجل فيما كان يستأثر به. ولكن حدوث هذا التغيير يحتاج إلى أحقاب طويلة علمها عند الله؛ وإلى أن يحدث هذا التغيير تبقى مشكلة الوفاق قائمة بين الرجل والمرأة، ويبقى عسرها كما هو الآن، وما أظن الحب حينئذ يكون كما هو الآن، بل لا أدري كيف يكون هذا الحب. فإن الاختلاف لا التوافق والتطابق هو الذي يجذب الرجل إلى المرأة، ويجذب المرأة إلى الرجل، فإذا صارا شبيهين وأصبحا ندين وقريعين، فكيف ينشأ بينهما الحب الذي ينشأ الآن؟!
ومشكلة أخرى جاءنا بها العصر الحديث والتطور الجديد في حياة الجنسين وعلاقاتهما. فإن القناعة ترجى مع الحجاب، ولكنها مع السفور والاختلاط عسيرة. ذلك أن المرأة كانت لا ترى إلا رجلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته، فإذا رأى غيرها لم يكد يرى إلا الثياب التي هي ملفوفة ومحجوبة تحتها؛ وفي وسعنا أن نقول: على كل حال - مع شيء من التجوز لا يؤثر في القضية - إن الرجل كان مقصورا على امرأته، والمرأة كانت مقصورة على رجلها من حيث الاختلاط والمعايشة وما ينطويان عليه، ولكن الحال اختلف الآن بعد أن برزت المرأة سافرة تغشى المجتمعات، وتختلط بالرجال، وتكون معهم ومثلهم، فالرجل يرى أمامه ما لم يكن يراه، والمرأة كذلك. وقد كان الرجل في نظر المرأة مثلها الكامل؛ لأنها لم تكن تعرف سواه ولم تبل غيره، ولكنه الآن لا يمكن أن يكون مثلها الكامل، لأنها تطلع على حياة غيره كما لم تكن تطلع، وتعرف كيف يكونون في كل حال، غير أن من العبث أن تطمع أمة في حياة كريمة أو عزيزة، أو ما شئت غير ذلك إذا كان نصفها معطلا محكوما عليه بالسجن والاستعباد والذل وعدم الكفاءة للحياة، مقضيا عليه بالحرمان من الحرية التي هي حق كل موجود، والاستقلال الذي هو ميراث طبيعي للإنسان. ثم إن الحجاب من ناحية أخرى يحرم المرأة الفرص اللازمة لفهم الرجل، وهي لا تستطيع أن تفهمه إلا إذا درسته، ولا سبيل إلى دراسته إلا بالمخالطة والمعاشرة. فإذا امتنع ذلك - وهو يمتنع مع الحجاب - كانت النتيجة أن المرأة تكون مكلفة أن تعاشر مخلوقا لا تفهمه ولا تعرف عنه إلا أنه يأكل مثلها ويشرب، ثم يلبس ويخرج إلى حيث لا تدري على التحقيق، ليعمل ما لا تعرف وما لا تستطيع أن تفهم على وجه جلي. وهي مع ذلك مطالبة بأن ترضيه وتسايره وتوافقه، وتكون معه كما ينبغي في رأيه هو لا رأيها هي. أما كيف تكون معه كما ينبغي فشيء يعلمه هو دونها، ولا أدري كيف يتيسر هذا فإني أراه محالا، ولكن الحجاب كان يقضي به مع ذلك.
وأعود إلى المقارنة التي استطردت عنها فأقول: إنها على خطرها المحقق لها فائدة ومزية محتملة، فإنها خليقة أن تدفع الرجل إلى استكمال النقص الذي فيه، كما أنها خليقة بأن تغري المرأة باكتساب المزايا التي تراها في غيرها من النساء، وهذا عامل رقي ولا شك. ولكن البلاء أن كل إنسان - رجلا كان أو امرأة - عنده من الغرور مقدار كاف جدا. وما من أحد إلا وهو يعتقد أنه خير من غيره وأكمل وأسمى وأرقى وأجمل وأظرف ... إلى آخر ذلك، وكل إنسان قادر على أن يوحي إلى نفسه هذا الاعتقاد ويلح عليها به، حتى تؤمن وينتفي عندها الشك فيه، فإذا أحس نقصا أو عيبا وآلمه الشعور بذلك لم يحاول أن يعالجه، بل راح يحاول أن يعوضه من ناحية أخرى، فإذا كان ضعيف الجسم، مسلوب القوة، التمس سعة الحيلة ... وهكذا. وما دام هذا الغرور في الإنسان - وكل إنسان مغرور - فإنه خليق أن يمنع - إلى حد كبير - ذلك النفع الذي أشرت إليه.
وليست هذه إلا بعض معضلات المجتمع الإنساني وما تنطوي عليه من الحقائق المحيرة. أما كيف تعالج فشيء لا أعرفه، وأكبر الظن - بل المحقق - أن الجماعة تنظم نفسها بنفسها وفق الأحوال وعلى الأيام، فلا داعي للقلق ولا موجب للخوف من عواقب هذه المشاكل. وقد يسأل سائل: إذن لماذا تصف أمورا لا داعي للقلق من ناحيتها، ولا خوف على المجتمع منها؟ وردي على هذا السؤال أن الأديب عمله الكلام ولو كان فارغا. ولو خلت الدنيا من الكلام الذي لا ضرورة له لكفت ألسنة الناس جميعا - لا الأدباء وحدهم - عن الدوران ثلاثا وعشرين ساعة وتسعا وخمسين دقيقة وسبعا وخمسين ثانية! ***
ألقيت الكتاب وذهبت أفكر. وخير ما أعرفه للكتب من المزية والنفع هو هذا: أنها تفتح لي أبوابا جديدة تفضي إلى رحاب واسعة في عالم الفكر والخيال. وكان الكتاب رواية عن عصر ريشليو، وكان مدارها الدسائس التي لم يكن يفرغ منها. وقلت لنفسي وأنا أضطجع: «هذا رجل عظيم يعد بحق خالق فرنسا الحديثة. وماذا كان ملكه الضعيف يستطيع أن يصنع بغير معونته؟ لا شيء! ومع ذلك كان ريشليو غرض الدسائس كلها. وكان الأشراف جميعا يمقتونه ويكيدون له، إلا من اصطفاهم وانتفعوا بالقرب منه. وكان هم هؤلاء الأشراف أن يحبطوا سعيه. ولو أنه كان أخفق لخسرت فرنسا. ومن يدري! إن الذي يرى النجار يقطع الأخشاب ويفصلها وينجرها قلما يستطيع أن يتخيل المائدة الجميلة التي تحف بها الأسرة وتجلس إليها مغتبطة مسرورة. ولو أن ألواح الخشب وسعها أن تعلم أن ستكون منها هذه المائدة الجميلة النافعة لما وسعها مع ذلك إلا أن تألم لفعل المنشار والفارة وما إلى ذلك من أدوات النجارة وآلاتها، ومن يدري أيضا! لعل هؤلاء الأشراف كانوا يتوهمون أن ريشليو يسيء إلى فرنسا ولا يحسن، أو أنهم هم أقدر منه على نفعها ورفع شأنها وإعلاء مقامها. ومن العسير على كل حال أن يدرك الناس الخير في أثناء العمل له وقبل أن يتم ويتخذ الصورة التي يسهل أن تراها العين ويدركها الفهم!»
وقلت لنفسي أيضا : «وفي سبيل هذه الغاية، ألم يرتكب ريشليو أخطاء ومظالم وجرائم؟ ولكنه استهان بذلك كله إذا سلمت له الغاية الكبرى واطمأن إلى تحقيقها. وفي سبيل الخير، ما أكثر ما يجني الناس الشر! بل ما أكثر ما يكون الشر هو سبيل الخير! ونحن الآن نقول: إن ريشليو إنما أراد مجد فرنسا، فمن أدرانا أنه لم يكن ينشد المجد الشخصي! أقليل هذا السلطان الذي جمع أعنته في يديه؟ من الذي يسعه أن يجزم بأن بواعثه كانت خالية من العوامل الشخصية، أو أنها كانت كلها شخصية؟ وما البأس على كل حال من اختلاط البواعث العامة بالشخصية؟ أو كيف يمكن أن لا تختلط؟ وكل زمن وكل بلد فيه مثل ما كان في زمن ريشليو ... مناورات ومساع، بعضها شريف والبعض وضيع. ومنافسات تحوج إلى الدس والوقيعة في جملة ما تحوج إليه.
وما هذه الأحزاب السياسية التي نراها؟ أليست صورة أخرى للأشراف الذين عفى على عهدهم الزمن، والذين كانوا لا ينفكون يقتتلون على السلطان والمجد؟! والأحزاب تطلب الحكم وتزعم أنها إنما تبغيه لتخدم بلادها! وإنها لصادقة ولكنها كاذبة أيضا؛ هي صادقة لأن غرور الإنسان يجعله يتصور أنه أقدر ممن عداه، ولأنه لا داعي لأن يفرض المرء أن هذا الحزب أو ذاك إنما ينشد الحكم ويسعى لولاية الأمر ليسيء عمدا، فما يفعل ذلك إلا عدو أو خصم للجماعة كلها أو مضطغن على العالم يريد - كما يقول المتنبي - أن يروي رمحه غير راحم، ولكنها كاذبة حين تزعم أن غايتها الخير للجماعة وحدها، وأنها لا تبغي لنفسها جاها أو سلطانا ولا يعنيها أن تنعم بمزايا الحكم. على أن إرادة الحكم - لما يفيده من المزايا - لا تنفي الإخلاص في إرادة الخير للجماعة والصدق في دعوى التنزه عن المآرب الشخصية. ووجه الصدق والإخلاص هنا أن الإنسان يظل يلهج بخير الجماعة حتى يوحي ذلك إلى نفسه، فيصبح وهو يعتقد أنه لا يبغي إلا هذا الخير العام. وأنه لو جاءه هو خير عن طريق الحكم لزهد فيه وأعرض عنه. فالذي يحسه من نفسه ويعرفه من غاياته هو هذا الخير للجماعة، والمستور عن عينه بفعل الإيحاء الملح هو المجد الشخصي والمطامع الذاتية.
ومن الناس من لا يمنعه الإيحاء إلى نفسه أن يدرك أن له مآربه وأن يضعها قبالته، وأن يتحرى أن تكون وسائله معينة عليها ومؤدية إليها. ولا سبيل إلى الجزم بشيء، فإن النفوس ليست كتبا تقرأ، وأصحابها كثيرا ما يجهلونها، فكيف بغيرهم؟! وقد يعين على الحكم على الغير أن يتدبر المرء نفسه، ويقيس عليها. ولكن نفس الإنسان شيء معقد جدا ووجوهها مختلفة. ولا أدري كيف تبدو نفوس الناس لهم؟ ولكن الذي أدريه أن نفسي تبدو لي كل يوم بوجه، فأنا أراها تارة تنزع إلى الخير وتارة أخرى تجنح إلى الشر. وتصفو أحيانا حتى ليعجز كل ما في الدنيا والحياة من الأكدار والأحوال أن يعكرها. فكل ما تتلقاه يصفو مثلها من الأخلاط والأقذار. ثم أراها تربد حتى ليسود في عيني نور الضحى، فكل ما أراه من الناس أو أحسه من ناحيتهم لا تأويل له إلا على أسوأ الوجوه! وأحسب أن الناس مثلي؛ فما أنا ببدع في الخلق. أريد أن أقول: إن الحكم على الغير بالقياس إلى النفس لا يؤمن خطؤه ولا يضمن صوابه. وإن العمل الواحد الذي تجعل من نفسك محكا له يمكن أن يبدو لك اليوم سيئا، فإذا تغيرت حالتك النفسية رأيته حسنا لا سوء فيه. فلا سبيل إلى اتخاذ النفس معيارا؛ لأن حالاتها تتعدد وتختلف.
وكل حزب في الدنيا عبارة عن أحزاب شتى، وكل من فيه ينشد البروز والارتقاء إلى القمة، والحرب دائرة أبدا بلا فتور، والسلاح لا يلقى في ليل أو نهار. فهذا يؤخر نفسه ويقدم غيره، ويتخذ من مظهر إنكار الذات وسيلة للكيد لمنافس له. وما يقدم غيره على نفسه إلا ليكون آلة في يده، وتراه لا يكف عن الثناء عليه والشهادة له ليجعله ألين في يده لفرط ما يسره كل ساعة، ويلازمه ولا يفارقه ولا يدعه يغيب عن عينيه لحظة ليأسره بمظهر الإخلاص، وليصبح وجوده إلى جانبه عادة له، وليمنع أن يتمكن من أذنه غيره. ويرى غيره هذا فيسخطون ويتبرمون ويتجه سعيهم إلى التفرقة، وقد يتعمدون أن يكتموا النصيحة والرأي السديد ليبدو خطل الرجل وصاحبه. وتسأل عن الخير العام للجماعة في كل هذا فلا تراه، وإنما ترى منافسات وأحقادا ودسائس وسعايات لا آخر لها. وتسأل عن إرادة الخير ماذا صنع الله بها؟ فلا تكاد تتبينها. ولكنها هناك مع ذلك، وإن كانت تحجبها هذه المنافسات وقد تضيعها في كثير من الأحيان؛ فإن من سوء الحظ - أو من يدري! فقد تكون الخيرة في الواقع - أن الحياة تقوم على التعادي لا التعاون. وإنما يضطر الإنسان إلى التعاون ليكون أقدر على القتال وأقرب إلى الظفر؛ وليس في الدنيا خير محض ولا شر صرف، وكل منهما ينتج الآخر. على أن الخير والشر ما هما؟ إن الأمر فيهما أمر تقدير راجع إلى الأحوال العارضة. وما أكثر ما رأت الجماعة الخير في شيء ما ثم آمنت بعد قليل أو كثير أنه كان شرا. والعكس يحدث أيضا!»
ونهضت وأنا أقول لنفسي: إن هذه الرواية فارغة، وكل ما فيها أنها تدور على شخصية ريشليو ومنه تكتسب قيمتها. وكذلك الأمم تكتسب قيمتها من الفرد البارز، لا من الملايين الكثيرة الذين تؤلف منهم هذه الكتلة البشرية الخاصة. ولكنها - أعني الرواية - تمثل مع ذلك كل عصر. فما ظهر عظيم أو برز رجل إلا هاجت عليه الأحقاد، وراح يحترب حوله وبسببه الأنصار والأضداد. ومتى رأيت رجلا يحبه الناس أو يبغضونه فاعلم أنه كبير، وليس أتفه ممن لا يتناوله الناس إلا بالاستخفاف، ولا يحسون له لا حبا عظيما ولا مقتا شديدا. ***
أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأيا في شيء، لا لأني كففت عن التفكير، فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفا في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي. وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيرا وتغري بالتردد وتدفع إلى الشك . ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضا - لأن العمل يراد منه الغاية، فلا بد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل، بل استحال. ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة؛ لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة، بل بلوغ الغرض. وكثيرا ما أراني أسأل نفسي - لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي: «هل أصبحت غير صالح للعمل؟» ولا يسرني ذلك، فأروح أقول: إن قدرة النفس على التكيف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته. وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به. وأنا مع ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة.
ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطئي ولا أثق بصوابي. وأقدر الضلال في كل ما أنتهي إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزاء - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر: إن الحقيقة «كزهر» النرد، لها أكثر من وجه واحد. فإذا كنت قد رأيت وجها واحدا دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذ كان هذا كل ما بدا لي ... وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟
ولهذه الحيرة عللها المعقولة؛ فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس آراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي. أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار؛ لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله، حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياما أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية.
ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمنا لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يدا عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئا من الكتب، كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره. ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى وجه امرأة. ثم فتر الألم وخفت وطأته كما هي العادة، وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي، فألفيتني أشك في كثير مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه، ولا يخطر لي أن أعترض عليه! وتغير الأمر فبعد أن كنت آخذ الآراء من الكتب أو الناس صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر، فاعتدت الاستقلال في النظر والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئا فشيئا من تأثير الكتب وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل. ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه، وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه وإحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم. ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما صنع.
بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظرا إلى مادة تدرس، لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر. ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضا أو السخط، ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني. ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط، ولا أندفع مع أول الخاطر؛ بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.
ويخيل إلي الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما أجدني أو أجد سواي فيه من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق. ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب. وقلما أهتدي، وكثيرا ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر؛ لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا بعد أن وجدت نفسي وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها، والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناما.
والشك حيرة ولكنه حرية. وسعة الأفق خير من ضيقه على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة. وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم بلا نظر. وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديدا. وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديدا، قديما جدا في الحقيقة، ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة. والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية، فإن الغاية منها ليست الغلبة والتفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها. ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز، وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله.
ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعاينها. وهذا ما أروض عليه نفسي الآن؛ أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها موقف الناظر المتفرج. فكأني اثنان لا واحد؛ أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره، وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله ويقارنها ويقابلها ويفحصها، ويضم المتشابه منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصا ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيمائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع ولا يعنيه ما عانى منه. وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.
ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟ ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟ آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟! ولكني أعود فأقول لنفسي: إن هذا الآخر لا آخر سواه؛ سواء بذل المرء الجهد أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها، وما جدوى أي شيء في الحياة؟ إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل عملها؟ وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟! ويعرف الجدوى من أعطاني، فلندع ذلك له فهو أعرف به. *** «ألا تعرفني ما هذا الجديد؟»
ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون، وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث، وكان الرجل يناهز الستين، ولكنه في نشاط ابن العشرين، وأنا آنس به وأسكن إليه، ويسرني أن أجلس بين يديه وأصغي - أو لعل الأصح أن أقول أنظر - إلى عباب حديثه المتحدر، فقد كان يذكرني بالبحر، ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر.
فقلت له: «يا سيدي، العارف لا يعرف، ولكني أستأذنك في أن أقول لك: إنكما جيلان - أنت وبنوك - ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة، وتستسخف مطالبهم وغاياتهم منها، أنت حر في ذلك، ولكن من حقهم أيضا أن يضجروا منك؛ لأنهم ينزعون غير نزعتك، وأن يطلبوا من الحياة غير ما تطلب؛ لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل!»
فصاح بي: «عدل؟! كيف تقول؟! أعدل أن يخرجوني من بيتي ويحملوني إلى حي أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة، ويقصوني عن أحبابي وأصحابي وعشراء الصبا وأخدان العمر كله؟ ما عيب بيتنا بالله؟! إني لست متعنتا. أنت تعرف بيتنا فهل فيه عيب؟!»
قلت: «كلا، وأشهد أن لا عيب فيه؛ واسع وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. نعم لا عيب فيه، ولكني أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك؛ أي: لخرجت منه.»
فقال: «أنت كنت تفعل ذلك؟ حاشا لله! إنك عاقل.»
قلت: «المسألة ليست مسألة عقل، وإنما هي مسألة حياة تغيرت وجوهها، وزمن اختلفت المطالب فيه.»
قال: «إني أجادلهم كل يوم، الكلام في هذا لا ينتهي بيننا ...»
قلت: «وهذا أحسن، وجدتم على الأقل موضوعا للكلام لا تخشون أن ينضب معينه.»
قال: «اسمع. إني رجل كبير، وقد أديت واجبي، وربيت أبنائي، وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إلي. فرغت من هذا الأمر، وأحب أن أقضي ما بقي من عمري في بيتي ... بيتي أنا؛ البيت الذي ورثته عن أبي وقضيت فيه خير عمري - بل عمري كله - وحولي جيراني؛ أعرفهم ويعرفونني، وأستطيع أن أجدهم عند الحاجة. لقد رفسني حمار في الطريق فأغمي علي، فلما أفقت ألفيتني في بيتي على سريري. هل تعرف من حملني؟ جيراني؛ عرفني أهل الحي فحملوني إلى بيتي، لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن لجاء الإسعاف وحملني إلى المستشفى.»
قلت: «معقول! أنت تفضل أن يحملك جيرانك وأهل حيك إلى بيتك في مثل هذه الحالة، ولكن بنيك يفضلون في مثل هذه الحالة أن يحمل المرء إلى المستشفى، زمنك لم يكن يعرف المستشفيات، فأنت تنكرها وتشفق من أن تحمل إليها، ولعلك تتطير من دخول المستشفى، وعسى أن يكون اسم المستشفى مقرونا في ذهنك بفكرة الموت. ولكن الزمن تغير، والرأي في المستشفيات اختلف، وأبناء هذا الزمن الجديد يؤثرون العلاج في دوره المجعولة له على العلاج في البيوت؛ فالذي تعده أنت مزية يرونه هم نقصا، والذي تراه أنت شرا يعتقدون هم أنه خير، وهذا بعض الفرق بين الزمنين.»
قال: «ولكني كبرت يا سيدي. ماذا يضرهم لو تركوني أقضي الأيام الباقية لي كما أحب؟»
قلت: «إنه لا يضرهم، وثق أنهم لا يأبون عليك ولا يكرهون لك أن تحيا حياتك على هواك، ولكن تيار الزمن حملهم - وحملك معهم - إلى حيث لا تشعر إلا بالقلق وعدم الرضا، والذنب للزمن، لا لهم!»
قال: «إنهم يضحكون مني حين أقول لهم: إن بيتنا قريب من المساجد، فأنا أستطيع بلا عناء أن أزور السيدة نفيسة أو السيدة زينب، وأن أصلي المغرب في سيدنا الحسين، ثم أشرب الشاي المغربي البديع هناك في قهوة من القهوات القديمة، وأنتظر حتى أصلي العشاء، ثم أعود إلى البيت ... يضحكون يا سيدي ويجعلون هذا موضوعا لفكاهاتهم، لا يعجبهم إلا جروبي وشارع عماد الدين والسينما ...»
قلت: «أنت محق وهم غير مخطئين، لقد فرغت من حياتك أو من واجبك فيها، فأنت تريد أن تفرغ لربك، ولكنهم هم في بداية الأمر وأول مراحل الحياة، ولكل حياة بداية ونهاية، ومن العنت أن تفرض عليهم في البداية الحالات النفسية التي لا تكون إلا في النهاية. وأنت لا تشعر بالحاجة إلى السينما مثلا؛ لأنك لم تعتدها، إذ لم يكن لها في زمنك وجود. وقد عشت بغيرها أكثر عمرك، ففي وسعك بسهولة أن تعيش بقية العمر من غير أن يخطر لك أن السينما لازمة أو أنها ملهاة مستحبة، ولكنهم هم نشئوا في ظلها، فصارت من وجوه حياتهم المألوفة، وأحسبهم حين تعلو بهم السن ويفرغون من أمور الدنيا سيظلون يذهبون إلى السينما كما تذهب أنت الآن إلى المساجد للعبادة، ولن يكونوا حينئذ أقل زهدا في الدنيا أو انصرافا عن باطلها أو ابتغاء لرضى الله. ومن يدري ... فقد تكون هناك يومئذ أشياء جديدة غير السينما يرتادها أبناؤهم، فينكر أبناؤك على أحفادك هذا الشغف بالجديد الذي جاء به الزمن، كما تنكر أنت اليوم على بنيك كلفهم بالسينما ... لكل زمن يا سيدي حكمة، ولكل جيل روحه ... ويحسن بالمرء أن يوطن نفسه على ذلك.»
قال: «نعم، نعم ... إني لست جامدا ولا متعنتا، بل أنا أدرك ذلك كله.»
قلت: «إن الإدراك وحده لا يكفي، والمعول في مثل هذه الأمور على العادة لا على الإدراك.»
قال: «صحيح ... ولكني مظلوم ... تصور أني لا أشعر برمضان في هذا الحي ... لا نسمع المدفع، ولا يدق الباب علينا أحد ليوقظنا للسحور ... ولا نسمع الطبلة القديمة ... ولا المؤذن ... لا ... لا شيء من ذلك. وقد احتجنا إلى المنبه لنستيقظ على صوته حتى لا يفوتنا السحور ... تصور هذا ... الحق أقول لك: إني كنت لا أشعر أن هذا هو رمضان، ولا أكاد أصدق أن صيامي مقبول! أهذا هو رمضان؟! من يقول هذا؟ أين الأولاد الذين يطوفون بالمصابيح فيها الشموع الموقدة؟ أين صيحات فرحهم وسرورهم بليالي رمضان ... أين السهرات اللذيذة ... سهرات الإخوان في البيوت ... إني أحس في هذه الشقة الضيقة التي نسكنها أني يتيم ... صحيح!»
قلت: «أولست يتيما؟»
قال: «أعني أني أشعر بوحشة ... والباقي من عمري قليل، وكنت أرجو أن يتركوني أقضيه في بيتي، وبعد أن أموت يمكنهم أن يصنعوا ما شاءوا ... وأظن أن هذا عدل.»
قلت: «عدل! من يدري؟ هل من العدل أن تفرض على ثلاثة أو أربعة ضربا من الحياة لا يوافق إلا واحدا هو أنت! ربما كان العدل أن تحتمل أنت ما يوافق الأربعة ... على الأقل هذا أقرب إلى العدل أو أشبه به، من يدري يا سيدي؟!»
قال: «إني أنظر إلى فائدتهم ... نحن الآن نخسر خمسة جنيهات كل شهر أجرا للسكنى، ولو كنا في بيتنا لاستطعنا أن نقتصد هذا المبلغ، أو أن ننفقه فيما هو أولى وألزم. ألست توافقني؟»
قلت: «تسألني الآن، فجوابي نعم! ولو سألتني قبل عشرين سنة لكان جوابي لا ... الشباب يفعل ما يعجبه، لا ما ينفعه. ينفق بلا حساب؛ لأنه يشعر بفيض الحيوية، ولا يشعر بالحاجة إلى التدبير والاقتصاد ... مليونير! كيف يبالي بالقروش والملاليم؟!»
قال: «ولكن ألا ينبغي أن يفكروا في المستقبل ويعدوا العدة للغد؟»
قلت: «إن هذا يكون أحجى، ولكن الشباب رأسه مثل التليفون؛ أعني أنه يستطيع أن يقصي السماعة عن أذنه ويضعها فلا يسمع إذا هم صوت النذير بالكلام الثقيل.»
قال: «يا شيخ لا تقل هذا، إنه جنون.»
قلت: «صدقت، إنه جنون، ولكنه جنون القوة، والشباب ينفض عن نفسه الهموم كما تنفض عن ثيابك التراب بأصبعك، بلا عناء ولا اكتراث؛ في وسعه ذلك لأن عباب القوة زاخر، والعقل يجيء مع الضعف، والحساب له وقته؛ أوانه عندما يحس المرء بأنه بدأ ينفق من رأس ماله، يا سيدي هل تعرف مهندسا استطاع أن يوصد بوابات الخزان في إبان الفيضان؟ إنما يكون الخزن ويتيسر التدبير عندما تفتر قوة الماء الدافق ويؤمن شر اندفاعه على كيان الخزان، كذلك الإنسان؛ هل كنت تنفق بحساب دقيق في شبابك؟»
فأطرق، فقلت: «إنك تنسى أنك كنت كذلك، لو استطاع الكهول أن يذكروا كيف كانوا في شبابهم ، ولم يستغرقهم الإحساس بالحاضر وحده لعذروا.»
قال: «يعني أنك موافق على ظلمي؟»
قلت: «اسمع. لو كان أبي حيا لما صبرت على معاشرته، ولا أطقت الحياة معه في بيت واحد وتحت سقف واحد، فأبناؤك خير مني ألف مرة.»
قال: «إن لك أبناء؟»
قلت: «نعم، ولا أسف ولا سرور، وسأعنى بأن أدعهم يحيون حياتهم وحدهم وعلى هواهم حين يستغنون عن هذه التكأة التي هي أنا.»
قال: «إني لا أضيق على أبنائي؛ أنا معهم كأخيهم.»
قلت: «ليس في وسعك أن تضيق عليهم، وحسبك منهم أنهم أكرم من أن يضيقوا عليك، المثل يقول: إنك لا تستطيع أن تأخذ زمانك وزمان غيرك، ولو استطاع الإنسان ذلك لما كان عدلا.»
قال: «صحيح. بس مشوار من العباسية إلى السيدة!»
قلت: «ألا تعلم أن الله خلق الترام؟»
قال: «ولكني أحب المشي؛ مفيد.»
قلت: «في وسعك بفضل أبنائك أن تستفيد جدا الآن من المشي.»
ثم تركني إلى نافذتي أطل منها على الأجيال المتباينة من الناس، وكل له تفكيره في الحياة. ***
هل صحيح ما يقول الشاعر: إن عين الرضا عن كل عيب كليلة؟! لا أدري، فقد صار كل شيء يحيرني، وما من أمر إلا أراني يبدو لي فيه رأيان أو مذهبان، لطول ما عودت نفسي أن أنظر إلى «الجانب الآخر»، فلو أني كنت قاضيا لظلت أحكامي تدور في نفسي ولا يجري بها لساني أو يخطها قلمي. وليس هذا من التردد، فإن من كان ضيق الصدر متنبه الأعصاب مثلي قلما يتردد، وما أكثر ما يؤثر الحزم والبت وإن كان في شك من الصواب كبير. ولكنما هذا من حب الموازنة والرغبة في إنصاف كل جانب من جوانب الرأي.
وقد قلت لنفسي وأنا قاعد أتدبر قول هذا الشاعر القديم: إن أعظم الرضا رضا المرء عن نفسه. أم ترى هذا ليس من الرضا؟ لا أدري أيضا، وأخشى أن أظل لا أدري فلا أخرج بشيء أبدا، ولو أني أعطيت نفس إنسان غيري لما قبلت، ومع ذلك لا تخفى علي عيوبي ونقائصي؛ من مادية وأدبية ومن بدنية ونفسية أو عقلية، فأنا أعلم أني ... ولكن هل من الضروري أن أفضح نفسي وأهجوها إلى الناس؟ ومن دلائل الرضا عن النفس - على الرغم من الإحاطة بعيوبها، والفطنة إلى مواطن الضعف والنقص فيها - أني أستخف بهذه العيوب، ولا أبالي أن أذكرها، ولا أعبأ شيئا إذا رأيت الناس يعرفونها كما أعرفها. وإني لأدرك بعقلي أنها نقائص ومذام، ولكني أراني أتخذ أحيانا من المعالنة بها مفخرة ومحمدة، ولست أستخف بها في الحقيقة، لكنما أحاول تهوينها على نفسي حتى لا يكربني أمرها، ولأظل محتفظا بحبي لنفسي ورضاي عنها وغروري بها، وحب النفس من حب الحياة.
وتذكرت وأنا أقلب هذا وأديره في رأسي مقالا أو فصلا لأديسون الكاتب الإنجليزي المعروف - أم ترى لا يقرأه أبناء الجيل الجديد؟! - يتصور فيه أن الله - جلت قدرته - أذن للناس أن يخلعوا ويرموا ما لا يرضيهم من أجسامهم، فهذا رمى أنفه، وذاك ألقى بأذنيه، وأخرج الثالث عينيه وقذف بهما، ونزع رابع ساقه وطرحها ... وهكذا، حتى صارت الأعضاء والجوارح المرمية المزهود فيها كوما عاليا. وعاد الله فأذن لهم أن ينتقي كل واحد من هذا الكوم بديلا مما زهد فيه ورماه، فأقبلوا يقلبون ويبحثون، وأخذ كل واحد ما أعجبه ووضعه موضع العضو المنزوع، ثم نظروا بعد ذلك إلى أنفسهم فلم يعجبهم حالهم، ولم يرضوا عن أنفسهم، واستبشعوا ما أخذوا بديلا مما نزلوا عنه، فجأروا بالشكوى إلى الله تعالى، وتوسلوا إليه أن يأذن في أن يسترد كل منهم أعضاءه الأصلية. فتقبل الله دعاءهم رحمة منه بهم، فما أسرع ما خلعوا ما استعاروا، واستعادوا ما كانوا يسخطون عليه ويتبرمون به!
وهذه القصة الخيالية تدل على أن المرء لا يسعه إلا أن يفطن إلى حقيقة نفسه. ولكن إدراكه لعيوبه لا يمنع الحب والإيثار. وأحسب أن من هنا ما يسمونه «مركب النقص» أي: معالجة الإنسان مداراة عيب يثقل على نفسه الشعور به، ومحاولة تعويضه من ناحية أخرى. والمقارنة والامتحان هما باب المعرفة، ولا سبيل إلى هذا الذي يسمى «مركب النقص» إلا بعد المعاناة؛ أي: الامتحان والمقارنة، ولو امتنعت أسباب المعاناة والمقارنة بينه وبين غيره لما شعر المرء بنقص في نفسه أو في بدنه، ولما أحس الحاجة إلى مداواة النقص وستر العيب بالتماس الصحة أو القوة في ناحية أخرى.
وأراني لا تخفى علي عيوب أبنائي، وهم أحب خلق الله إلي بعد نفسي، كما لا أحتاج أن أقول، فما أعدل بنفسي أحدا. وما أكثر ما سمعت أمي رحمها الله تقول إذا رأتني أشكو ألما، إنها تؤثر أن تكون هي المصابة، وأحيانا كنت أسمعها تدعو الله أن يتوفاها قبلي، فأنكر هذا عليها في سري، وأعجب! كيف يمكن أن يتمنى إنسان أن يموت قبل غيره. هذا إحساس لا أستطيع أن أدعيه. ولو أني خيرت أن أموت قبل أولادي أو أن يموت أولادي قبلي لما رآني أحد أتردد أو أتخير. وربما أظهرت التردد نفاقا وسترا للأنانية الصارخة، ولكن هذا لا يكون مني إلا نفاقا وكذبا على الله والناس، لا أكثر ولا أقل. وكثيرا ما سألت نفسي: أترى الرجل غير المرأة؟ وأنا أومن بأن أمي كانت مخلصة صادقة السريرة، وقد كانت الدنيا كلها لا تعدل عندي قلامة ظفر من أصغر أصبع في رجلها، فهل تراها لو أن الأمر كان جدا لا تتردد في إيثاري على نفسها؟ من يدري؟ الرجل غير المرأة على التحقيق، وشعور الأب غير شعور الأم. هي حملته تسعة أشهر على قلبها، فهي تحس أنه قطعة منها بالمعنى الحرفي لا مجازا، ومن أين يتأتى للرجل مثل هذا الشعور، وهو لم يعان شيئا ولا يدري أكثر من أن امرأته جاءته بغلام أو بنت، قد لا يكون له رغبة فيه أو فيها؟ فأنا أستطيع أن أصدق هذا الإيثار من المرأة، ولكني لا أستطيع أن أصدق أن يكون الرجل مثلها إيثارا لابنه على نفسه - على الأقل فيما يمس الحياة - إلا إذا كانت نسبة عناصر الأنوثة في نفسه كبيرة.
ويحضرني الآن بيت قلته من قصيدة نسيتها، وأظنه كان ختام القصيدة، وهو:
ألا ليتني في الأرض آخر أهلها
فأشهد هذا النحب يقضيه عالم
وعيب البيت في نظري أن فيه مغالطة واضحة - على الأقل لي - ذلك أني لا أتمنى أن أكون آخر من يبقى في الدنيا لأرى كيف يفنى العالم؛ بل لأني لا أريد أن أترك الدنيا! فإذا كان لا بد من تركها والخروج منها فلتخرب قبلي، أو فليكن موتي هو الإيذان بخرابها وامحاء هذا العالم كله. ولم أستطع وأنا أنظم البيت أن أختزن كل هذا في شطر واحد، فجاء البيت غير دقيق في التعبير عن حقيقة ما في نفسي.
وقد أحببت مرات كثيرة - لا عداد لها في الحقيقة - فإني أبدا كما قال في الأستاذ العقاد:
أنت في مصر دائم التجديد
بين حب عفا وحب جديد
والسبب في ذلك أن عمر الحب عندي لا يطول إلا ساعة أو ساعتين أو ليلة أو ليلتين - إلى أن أمل والسلام - وما من واحدة أحببتها إلا تمنيت على الله أن يهبني القدرة لأصلح بعض ما لا أرضى عنه، فأملأ هذه الساق وأديرها، وأعالج الترهل الذي يبدو لي في الثديين مثلا أو الردفين، وأصلح الأنف، وأخفف النتوء الذي في أرنبته، وأرسم الحاجبين رسما جديدا يكون أقرب إلى ذوقي، وأرابي في التناسب، وأعالج نفسها أيضا علاجي لبدنها ... وهكذا إلى آخره، فما بي حاجة إلى الإطالة، وليس هذا من الاعتراض على خلق الله سبحانه وتعالى، حاشا وكلا، وإنما هو من اشتهاء الكمال كما أتصوره، ولا كمال في الدنيا مع الأسف!
وقد صدق الشاعر في الشطر الثاني من بيته كما لم يصدق في شطره الأول، فما من شك في أن عين السخط تبدي المساوئ. وثم عيون أخرى كثيرة تبدي المساوئ غير عين السخط، وفي وسعنا أن نتسامح مع الشاعر المسكين، وأن نقول: إنه يعني بعين السخط كل عين تبدي المساوئ، وإنه لم يرد القصر ولا التخصيص.
وأسأل نفسي وأنا أكتب هذا الفصل: «ماذا أخطر ببالك هذا البيت؟» والحقيقة أني لا أدري سوى أني أردت أن أكتب كلاما فحضرني هذا البيت، فما أكثر الكلام الفارغ، وما أسرعه إلى اللسان! ***
في كل يوم يصبحني ولداي بالسؤال عن «الخروف»: أين؟ ومتى يجيء؟ والجواب سهل، وفيه لمن شاء الاقتناع مقنع، فإني أوثر أن يجيء في اللحظة الأخيرة، فلا يقضي في ضيافتي إلا بضع ساعات، ثم يصبح وقد أراحتنا منه السكاكين المسنونة والسواطير الحامية. ولكن الطفل طفل، وليس من المعقول أن تطالبه بأن يشب عن الطوق قبل الأوان. ولو فعلت لآذيت طفولته النضيرة، وقمعت صباه الغض، وأفسدت عليه حياته كلها بعد ذلك. وكل ما يعني الطفل من خروف العيد أنه يلعب به ويتسلى بأن يسمعه يقول: «ماء»، وأن يراه يهم بأن ينطح، وأن له ذيلا يشده منه، وأذنا مسترخية يضع فيها قشة فيهز الخروف رأسه هزا عنيفا. وكثيرا ما يخطر لي وأنا أتدبر حال الأطفال، وما يصدر عنهم، أن الطبيعة البشرية ليس فيها رحمة، وأن كل صفات الخير في الإنسان تكلف. أعط الطفل عصفورا ولا تقل له شيئا، ولا تنبهه إلى واجب الرفق، وانظر ماذا يصنع.
وقد كنا جميعا أطفالا، فنحن نعرف ما يصنعون، ولا نجهل أنهم يربطون رجل العصفور بخيط ويلعبون به، ولا يدركون أنهم يعذبونه، ولا يكادون يصدقون ذلك حين تنبههم إليه وتناشدهم أن يرحموا ضعفه. وليس من القدح في الإنسان أن نقول: إن كل صفة من صفات الخير فيه تكتسب بالرياضة والتدريب والتلقين. والحقيقة أن الإنسان في الأصل ليس أكثر من حيوان، وهو لا يعرف خيرا ولا شرا، وإنما يعرف أنه يطلب الشيء أو ينفر منه مدفوعا إلى ذلك بغرائزه. ولو ترك وشأنه بلا تهذيب أو تثقيف أو صقل لما صنع إلا ما تغريه به هذه الغرائز، ولا ترك إلا ما تغريه بتركه هذه الغرائز أيضا، كالحيوان الأعجم سواء بسواء. ولا عسر في تصور هذا ولا مشقة، فإن الحيوان أمامنا، وعليه نستطيع أن نقيس بلا خوف من الغلط. ومن كان يقول غير هذا فهو لا يتكلم بعقله، بل بهواه، وبشعور الاستنكاف الشخصي من أن يكون هو حيوانا كالقط والخروف والثور والحصان والحمار والذئب والثعلب ... إلخ ... إلخ. ولا محل للاستنكاف والأنفة، فما نتكلم إلا عن الأصل ... لا على ما أصارنا إليه التهذيب والصقل. ومع ذلك ما على من شاء أن يعرف قيمة الصقل والتهذيب إلا أن يتدبر ما يصدر عن الإنسان حين تجمح به عواطفه وشهواته، ادخل على أرق الناس وألطفهم وأسلسهم طباعا وألينهم عريكة وهو في مجلسه بين إخوانه الذين يوقرونه، والطمه على وجهه لطمة قوية تدير الرأس وتطير العقل، وانظر ما يكون من هذا الإنسان المهذب الرقيق، وتأمل ما يبقى من صقله ودماثته. وقس على هذا سائر ما تحدثه الإحساسات والعواطف العنيفة.
بل الإنسان قد بز كل حيوان في الهمجية والحيوانية؛ لأن ما يفعله الحيوان في مواسم معينة ليس إلا، يفعله الإنسان في كل يوم بإرادته، لا طوعا للغريزة بمجردها. والسباع الضارية مثلا لا تقاتل جماعات منها جماعات أخرى؛ أريد أن أقول: إن جماعات من الذئاب لا تقاتل جماعات أخرى من الذئاب، ولا الكلاب تفعل ذلك، ولا الأسود، ولا الهررة ... إلى آخر هذه الأنواع، ولكن الإنسان وحده من بين الحيوانات جميعا يفعل ذلك الذي نسميه الحرب.
وما الفرق - بالله - بين افتراس الأسد بقرة مسكينة أو غيرها، وبين ذبحنا للأبقار والخراف والعجول؟ كل ما هنالك من الفرق أن الحيوان يفعل ذلك بأسنانه وأظافره ونحن نفعله بالسكين؛ وهو يأكل ما يفترس نيئا ونحن نأكله نيئا أو مطبوخا. فرق في الشكل لا في الطبيعة والجوهر. ونحن بعد أعرف من الحيوان بأساليب الافتراس، وأقدر منه على تذوق لذاته ...!
وأقول للصبي الذي يلح علي بطلب الخروف قبل العيد بأسبوع على الأقل: «إنه للذبح، أليس كذلك؟ ولن نذبحه قبل ذلك، فما حاجتنا به الآن.»
فيعترف ويقول: «ولكن يا بابا» ولا يسعفه وجه - لا - للاعتراض، فيتمتم، ثم يمضي فيقول: «كل الناس اشتروا الخرفان.»
فيخطر لي أن هذا المنطق ليس وقفا على الأطفال، وأننا نحن الكبار أيضا مثلهم، يسوء الواحد منا أن يحرم ما يرى غيره حاصلا عليه. ومن أمثالنا: «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس» والرجال يقلد بعضهم بعضا وكذلك النساء. والتقليد في النساء أكثر، وهن عليه أجرأ وبه أشد عناية، وتأمل كيف تنظر المرأة وتقيسها وتدير عينها صراحة في ثيابها وتفصيلها، وفيما على وجهها من أصباغ، وفي طريقة تصفيف شعرها وترجيله ...
وقلت لغلامي: «ولكن أين نضع الخروف المحترم؟ في الشرفة؟»
فقال بلا تردد: «ولم لا؟! ما المانع؟»
آه، ما المانع عنده من وضع الخروف في الشرفة أو على سرير النوم أو في خزانة الثياب؟ إن اللائق وغير اللائق مسألة يكتسب الإنسان الشعور بها والإدراك لها من مبلغ التأثر بتقاليد الجماعة واعتياد الخضوع لها. والجهل بالتقاليد والعادات يعفي الإنسان من الشعور بالحاجة إلى مراعاتها، فالريفي الذي لا يعرف عادات المدن لا يبالي أن يفعل ما يفعله في قريته الصغيرة، ولا يخطر له أنه يأتي شيئا يضحك منه الناس أو يدفعهم إلى الاستنكار والسخط. والطفل الجديد في الدنيا كالريفي الذي يجيء إلى القاهرة أو يذهب إلى باريس أو لندن وهو جاهل بتقاليد الحضارة فيها، فهو لا يستغرب أن يربط الخروف في الشرفة، أو يروح ويجيء في حجرة الاستقبال، أو ينام على السرير، أو يأكل برسيمه في المكتبة. بل الطفل يجد في هذا متعة نادرة، ويضحكه جدا أن يرى الخروف يأكل البرسيم الذي يضعه له على المكتب، وحسبه باعثا على الضحك ومدعاة للتسلية أن هذا خلاف المألوف.
وقلت: «ولكن يا أخي أين ينام خروفك الفاضل؟»
فضحك وقال: «معي، بجانبي.»
فصفق أخوه موافقا.
وفي العام الماضي والذي قبله أذكر أن هذين اللعينين كانا يستيقظان في البكرة المطلولة ويوقظاني أو يزعجاني على الأصح، ويطلبان أن أنهض لأحضر ذبح الخروف؛ وكنت أحتال حتى أقصيهما عني وأقنعهما بتركي لأنام، وكفى بهما شهودا للمذبحة ...
وأحد هذين الغلامين يسقم ويمرض إذا وقعت عينه على قطرة دم، ولكنه يشهد ذبح الخروف وسلخه ويرى دمه يسيل فلا يضطرب ولا يتألم ولا يصيبه سوء، بل يعود من هذه «الفرجة» منشرح الصدر قرير العين، ويظل أياما يتحدث بها ويصف ما كان فيها.
قطرة دم واحدة من سن سقطت في فمه تدير رأسه وتغثي نفسه، وتصده عن الطعام واللعب يوما كاملا على الأقل ، وملء طشت من دم الخروف يفرحه ويسره! وهو غلام يحزنه أن يسمع أحدا يتوجع، ولكنه لا يبالي ألم الخروف وقشعريرته «وماءاته» حين يقيده الجزار ويضع على رقبته السكين؛ وهو في العادة يأبى أن يأكل لحم حيوان أو طير إذا رآه يقطع في المطبخ، ولكنه يرى سلخ الخروف فلا تتحرك شعرة في رأسه؛ ويرى الساطور يهوي على جسمه ويقطعه فلا يشعر بدوار ولا يصده هذا عن الأكل.
كلا، لم أخطئ حين قلت: إن من يلاحظ الأطفال لا يسعه إلا أن يقول: إن الإنسان لا أكثر ولا أقل من حيوان، وإنه في الحقيقة لا يعرف شرا أو خيرا، وإنما يعرف غرائز يطيعها؛ وما الخير والشر إلا وسيلة لتنظيم جماعة الإنسان لجعل حياتها محتملة بعد أن ارتقى عقل الإنسان عن عقل الحيوان. ***
قلت لصديقي ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: «يا أخي، أحسب أن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلا آخر لكان عيشنا خليقا أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لن تستقر فيه الأمور على حد مريح.»
فوافق، واستطردنا إلى حديث آخر، ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت. ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حدا تنتهي إليه، ولا تكون قط على حال لا يتغير أو يتبدل، وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة؛ فلا وقوف ولا رجوع لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من أننا في عصر انتقال، وأننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيودا كثيرة تثقل علينا، ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها، ولتوهمنا أن الناس حينئذ سيكونون أسعد وأرغد عيشا وأكثر حرية وأقل شعورا بالتقلقل والاضطراب، والحيرة بين القديم المشنوء الذي يتزلزل، والجديد المأمول الذي بدت بشائره.
وحضرني وأنا أفكر في هذا مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في إدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله كان يبدو لنا بعيدا. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور، ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسنان وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به، ونتطلع إليه، ونتخيل أن الحياة ستكون أهنأ وأطيب، لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان، بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول: إنه ينحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وأرحب، ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعرف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة، فهي غير موجودة فيما يعلم، وإن كانت في الواقع هناك.
لا ... لم نخسر بأن خلقنا في هذا الزمان؛ وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر، بل العلة أن العمر إلى انتهاء، وأن الحياة إلى نفاد، كائنا ما كان الزمن الذي نحن فيه؛ ولا خير في تقطيع النفس حسرات على ما عسى أن يكون الغيب منطويا عليه، وأحجى بالإنسان أن يقصر همه على حاضره، فإنه هو الحقيقة التي يضيع كل شيء إذا هو ضيعها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فإن حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والأسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى.
ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا؟ ألسنا نصنع ما نحب كما نحب وحينما نحب؟ ولا شك أن هناك قيودا وأغلالا غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تكسب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أحاول أن أعزي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به، بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أصف.
وتصور أن الماء المتحدر من الجبال أو غيرها لم تعترض طريقه الأسداد، ولم يمنعه شيء أن يظل يتدفق وينتشر على وجه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من الممكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلا؟ وقد لا تكون ثم حاجة إلى البحيرة، وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى محوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية، ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الأسداد التي يلقاها الماء وهو يجري.
والطيارة التي تحلق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب، وتقصر المسافات، وتطوي الأبعاد، والتي نعدها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن تفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟ بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة؟! ولست أعرف شيئا في هذه المسائل العلمانية، فإني من أجهل خلقه - سبحانه وتعالى وتنزه عن العبث - ولكني التفت إلى هذا الأمر يوما وكنت في طيارة، وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق. وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدما - على ما قيل لي فيما بعد - وكانت هنيهة قصيرة جدا، ولكنها على قصرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسست أن قلبي صار في حلقي من فعل السقوط المفاجئ لا من الخوف، فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها، وكرت إلى مثل الارتفاع الأول، فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة؛ فلما نزلنا كدت أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكني تذكرت بعد أن مشيت خطوات، فارتددت إلى الطيار فقلت له: يا أخي، لقد سقطنا في الهواء، فما سبب ذلك؟ قال: هل أحسست شيئا؟ قلت: كيف لا أحس وقد كادت أنفاسي تتقطع؟ قال: لقد صادفنا فراغا. قلت: كيف؟! واستغربت، فبين لي أن بعض طبقات الجو تخلو - لأسباب شتى نسيتها - من الهواء، فتصبح فارغة، فإذا دخلت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها؛ لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها، وذكر لي أن المنطقة التي صادفناها كانت من أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة.
وقد علق بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذ، فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاومة، بل ضرورتها، فإني عاجز عن تصور حياة لا يلقى فيها الحي مقاومة. وكيف تكون يا ترى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو؟ لا أدري، ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيلها ... ماذا يدفع فيها إلى العمل ويغري بالسعي، ويبعث على الطموح؟ الحب الذي هو الوسيلة إلى حفظ النوع في الدنيا، كيف يكون حينئذ ولا مقاومة هناك ولا عائق ولا صعاب، ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك؟ أتراه يصبح لهوا وعبثا ومسلاة؟ وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهو لا يمكن أن يوجد أصلا؟ أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية؟ وكيف تنشأ الرغبة؟ وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع؟!
ودع الحب وانظر في غيره واسأل نفسك، ماذا عساك أن تطلب حينئذ ولا عسر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان؟ لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاومة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس، أو غير ذلك مما تكون به المقاومة.
ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر. وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا، لم أخسر بأن خلقت في هذا الزمن، ولا خسر أحد شيئا بأن خلق في زمنه؛ وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى البون عظيما والبعد كبيرا والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا؛ لأن في الزمن عيبا وفي أحواله فسادا، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقا أن يكون أمله أقرب منالا وسعيه أعظم توفيقا. وهذا وهم كما قلت، فإن رغائب الإنسان في أي زمن أكثر مما يبلغ وينال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لتصور أمر الحياة على هذا النحو المقلوب، تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت. ***
وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أحب كما تريد المرأة من الرجل. ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملا غير ذلك، فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة، وأحب الكتب والصديق الموافق الذي لا ينغص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ. وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أحصيها، ولكني أحب نفسي، وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء إذا أردت الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحيانا، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكف عنه. وهل يعقل أن تفيض بحبك على الناس والأشياء ولا تخص نفسك ببعض هذا «الفيضان»؟ غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها، والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسود عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر.
على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموهه ويستره بما يحجبه؛ ولا أظن أن في هذا عسرا، فإنه يفعل هذا كل ساعة، ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلا يأكل لا لأنه يشتهي الطعام؛ بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قويا قادرا على خدمة النوع الإنساني؛ وقس على هذا. غير أن هناك ما لا سبيل إلى ستره وكتمانه أو تمويهه، إذ من الواضح مثلا أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى، ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولست مسئولا عنك.
قالت لي مرة إحداهن وأنا معها - وقد رأت عيني تدور: «بص هنا»، وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب: «ولماذا لا أبص هناك؟» قالت : «كده!» بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئا، فقلت: «كده يعني ماذا؟» قالت: «كده!» ولم تزد، فضاق صدري، فقد عجزت أن أفهم سر هذا الأمر المتعب أو حكمته، وقلت: «يا ستي، إن الله قد خلق عيني متحركة غير ثابتة، فكيف ألزمها الثبات؛ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟»
فقالت: «عيب».
فصحت: «عيب؟ يا خبر أسود!»
فقالت: «لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق.»
ففهمت، ولكني لم أقتنع وقلت: «إن لي على هذا ردا طويلا، فهل تسمحين بأن تسمعيه؟»
قالت بتهكم: «نعم يا سيدي ...»
فتجاوزت عن لهجة السخرية، إذ حسبي موضوع واحد للخلاف، وقلت: «أولا، لماذا تظهر الفتيات لنا معاشر الرجال في الطريق إذا كن لا يردن أن ينظر إليهن أحد؟ ثانيا - وهذا أهم - لماذا يظهرن في حفل من الزينة إذا كان لا يرضيهن أن يدير الرجال فيهن عيونهن؟ ثالثا - وهذا هو الأهم - بأي وجه ألقى الله يوم القيامة إذا كنت أغمض عيني وأتكلف العمى ولا أنظر إلى مخلوقاته التي أبدعها؟ وقد خلق لي عينين فلا عذر لي، ورزقني غير ذلك وسائل القدرة على إدراك معاني الجمال في خلقه سبحانه! أليس من الواضح أن مما يخجلني يوم القيامة أنه تعالى خلقني بصيرا فآثرت العمى، ومحسا مدركا ففضلت الجهل والبلادة؟ ... وأخيرا - لا آخرا - ما الضرر على كل حال من النظر إلى الناس؟ ماذا خسرت الفتاة التي نظرت إليها؟ هل أنا أكلتها بعيني؟ هل نقصت شيئا؟ إني أراها على العكس قد زادت، نعم زادت، لماذا تنظرين إلي هكذا؟ هل نطقت كفرا؟ أقول لك: زادت لأنها استفادت إحساسا جديدا مؤيدا لإحساسها بجمالها، ولو كنت لم أنظر إليها لكانت خليقة أن يساورها الشك فيما تحس من نفسها أو تعتقد، فأنا قد أفدتها راحة البال واطمئنان الخاطر، وإني لجدير بالشكر على هذا، لا اللوم.»
فصاحت بي بعد طول الصمت: «طيب، اسكت بقى.»
فقلت - وأنا ضجر: «هكذا أنتن يا نساء؛ إذا أعوزتكن الحجة قلتن: طيب، اسكت بقى! ولكني لا أنوي أن أسكت «بقى»، فقد مرن لساني على الدوران، وأنا أحس اليوم أني أوشك أن أقول كلاما بديعا ...»
فصاحت بي: «أنا معك، فكيف تنظر إلى غيري؟»
فقلت - وقد فهمت: «آه! هذه هي المسألة، قولي هذا من الصبح يا ستي، نعم أنت معي ... وإنك لحسبي من عالم الجمال والفتنة، ولو وسعني غير هذا لما كنت حسبي، ولكني قانع غير متذمر؛ غير أنك - مع الأسف - لست كل النساء، وأنت تغنين عن جنسك أحيانا، ولكنك لا تستطيعين أن تغني عن هذا الجنس في كل حين، وليس ذنبي أنك قاصرة.»
فقاطعتني صائحة: «قاصرة؟ ... أشكرك.»
قلت: «نعم، قاصرة عن اختزال جنسك في شخصك الواحد.»
فأبت أن تسمع مني بعد ذلك، فقلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله! الأمر لله ... سكتنا يا ستي، فلعلك مسرورة.»
ولكنها لم تكن مسرورة ولم تغفرها لي قط، وأنا أقول: تغفرها بغير تعيين أو تبيين، لأني والله لا أدري إلى هذه الساعة أي شيء أغضبها وأثار نقمتها علي.
وحدث مرة أن كلفتني أن أشتري لها فاكهة، وكنت أعرفها تحب الجوافة حبا جما، فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق، واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام، وذهبت بحملي إليها ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: «قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العيون، لقد حضر سيدك ونن عينك اليمنى - واليسرى أيضا في الحقيقة - ومعه حمل بعير من الجوافة، بل من أبدع أنواعها.»
فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة، فأطلت تلك من باب غرفتها - بوجهها فقط - وصاحت وهي فرحة: «صحيح؟ جوافة. حلوة؟!»
ففتحت الكيس وأخرجت واحدة ورفعتها بين أصابعي، وأدرتها أمام عينها، فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: «حالا، حالا، دقيقة واحدة»، ودخلت.
وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ، فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب، ومسحت الحذاء أيضا، مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه وأنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك، وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئا آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير، واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت أن لا توقظني حين تدخل. ولكني لم أنم؛ لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه مفتوحا فتسور إلى أنفي أريجها، وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع، ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام وقلت: «اللهم اخزك يا شيطان» غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة، فجعل يقول لي: «وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟» فقلت: «والله لقد صدق اللعين! فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة، ثم إن هذا عدل؛ أحملها وأحرمها! وأكون كالعيس التي يقولون: إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب، أو كالحمار الذي يحمل أسفارا؟»
ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه، وطابت الجوافة في فمي، فأقبلت عليها آكل وآكل - ولكن بغير احتفال والله - وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلة مرحبة باسطة يدها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جدا علي فلم أستغرب، فقد كان فمي محشوا وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار. وتنبهت إلى واجبي حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق - أعني البلع - وانحنيت على الكيس لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به - أعني بالجوافة التي فيه - وإذا به ينطبق بين يدي لأنه فارغ!
والحق أقول إني بهت فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة؛ ولو أن إنسانا راهنني أن أفعل لفزعت، وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقا، وقد سرني هذا في الحقيقة؛ لأنه كان من بواعث الاطمئنان على صحتي، وكان جديرا بها أن تهنئني وتفرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه شيء تافه لا يستحق الذكر، ولكنها وجمت يا أخي، لا أدري لماذا، ووقفت لا تتحرك، كأنما سمرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء - لا قدر الله - وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها، فلما أفاقت أشارت بيدها - دون أن تتكلم - أن: اذهب، اذهب ولا ترني وجهك. فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبدا ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامها.
الحق إني لا أفهم النساء، وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة بين رجل وامرأة من أجل أقة من الجوافة ثمنها بضعة قروش! إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.
صفحه نامشخص