كان الشيخ أبو عساف في أول عهده بالنوادر راوية ينقل ما يسمع، ثم وفق إلى الوضع فصار مؤلفا بارعا يصعب على سامعه أن يميز ما ينقله مما تبتدعه مخيلته.
تعود أن يزورني صيفا في وقت قيلولة بقراته، وكنت أجيئه عند الدغيشة بعد فراغه من أشغاله، فنقعد أمام عرزاله على البيدر، فراشنا القش المدروس، ومسندنا تلك الحجارة المنصوبة لصيانة الحصاد، قهوتنا النوادر ونقلنا حكايات الفلاحين والأكارين ومن أشبههم من هذه السلالة المباركة.
كانت علامة ابتداء القص أن أقول: نعم يا عمي بو عساف، فيترك عمله ويقرفص أمامي، ثم يزحف الكلام بخيله ورجله. - هات ما عندك اليوم. - اليوم عندي حكاية تعجبك، إذا رتبتها حسب ذوقك يطلع منها شيء يسر خاطرك. - عجيب، ما تعودت أن تعمل مقدمات، فما جد عندك حتى غيرت خطتك.
فضحك وقال لي: الحكي يحسن البضاعة، ولو كان الشاري فهيما مثلك.
فقلت: هذا من لطفك، شوقتني إلى حكايتك. - إذن سلمت أن الكلام يقدم ويؤخر.
فأجبته: سلمت، وألقيت سلاحي فلا تشوقني أكثر.
فتنحنح وقال : كانوا في هذاك الزمان يمونون الفعلة من حصادين وحراثين وفلاحين، وفي عز الصيف - كما تعرف - يقل الشغل، ولكنهم في أيلول كانوا يقشرون الأرض البور من الشوك وغيره ليزرعوها في أول الري، كانوا يأخذون للقشارين مع الغداء سلة تين أخضر، فيأكلون الجيد الجيد، ويبقون الرديء إلى العصر ليأكلوه متى جاعوا. وفي ذات يوم كان أكثر تين السلة رديئا، فنقوا الجيد وأكلوه، وكبوا الرديء على الأرض، ومرغوه بالتراب، نكاية بصاحب الأرض.
وبعد هرج ومرج قاموا إلى التقشير فصالوا وجالوا في الأرض، وظلوا كذلك حتى دنت استراحة العصر فقعدوا يلفون سيكارة. المساكين جاعوا ولكنهم ما وجدوا قدامهم شيئا غير التينات، فراحوا ينظرون إليهم بعيون جوعانة، وبدءوا يقلبونهم ويقولون: هذا نظيف، هذا ما عليه شي. وظلوا يقولون هذا عليه، وهذا ما عليه حتى أكلوا الكل إلا أربع خمس تينات ...
فقلت: أهم عميان وإلا كيف؟!
قال: لا، ولكن الجوع الكافر، ما له دين.
صفحه نامشخص