أرأيت كيف ابتدأت القصة؟ أرأيت كيف انتهت؟ فكرة اجتماعية أراد الكاتب درسها وتحليلها، فأحسن الدرس والتحليل، وأثبت ما أراد أن يثبت من أن تشريع الرجال ظالم للنساء، ولكن عقل الإنسان مهما ينقد، ومهما يحلل فهو عاجز عن تدبير الحياة.
وإنما لهذه الحياة مدبر آخر فوق العقل، وفوق الإرادة، وفوق العاطفة والشعور، وإن كان قد يصدر عن العاطفة والشعور، للحياة مدبر آخر هو القضاء!
اعرف نفسك
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
ومن ذا الذي يعرف نفسه حقا؟ ومن ذا الذي يثق بما تطويه نفسه من دخيلة، وبما يستره ضميره من خصلة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوجه أهواءه وميوله وعواطفه وشهواته كما ينبغي؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوفق بين نفسه وبين واجبه حقا؟ أليس الإقدام الصحيح على شيء من الأشياء ينبغي أن يكون نتيجة للعلم الصحيح بهذا الشيء؟ ألست إذا أقدمت على الشيء وأنت تعلمه حقا استطعت أن تتجنب الخطأ وتتنكب الضلال؟ بلى! ولكن العلم الصحيح بالأشياء ليس ميسورا وليس متاحا لك في كل وقت. ألا ترى إلى آراء الناس كيف تتغير بالقياس إلى الأشياء العادية، فهم يرونها خيرا ثم يرونها شرا، ثم يعودون فيترددون، ثم ينالهم شيء من الإهمال وعدم الاكتراث، هو الاعتراف بالعجز عن فهم الأشياء وتعرف حقائقها؟
ليس العلم الصحيح بالأشياء ميسورا، ومن هذا تورط الناس في الأغلاط وتخبطوا في الظلمات. والأمر ليس واقفا عند جهل الناس بحقائق الأشياء، وإنما هو يتعداه إلى ما هو شر منه، فأنت لا تعرف صاحبك كما ينبغي أن تعرفه، وأنت لا تتبين دخيلة خليطك وعشيرك كما ينبغي أن تتبينها، ومن هنا تقع بينك وبينه الخصومات ويسوء بينك وبينه الظن، ومن هنا تناله بالمكروه حين تريد به الخير، وينالك بالسوء حين يريد إليك الإحسان؛ لأن كلا منكما يجهل صاحبه، ولو قد عرف أحدكما الآخر لما كانت بينكما خصومة ولما ساء بينكما الظن، ولما وقع بينكما خلاف. بل لا يقف الأمر عند هذا الحد، فأنت تجهل الأشياء والناس، تجهل نفسك، تجهلها جهلا قويا مظلما، يدفعك إلى أمور لو عرفت نفسك لما اندفعت إليها، تقدم ولو عرفت نفسك لأحجمت، ترضى ولو عرفت نفسك لأبيت، وهل تستطيع أن تفسر الندم إلا بأنه شعورك بأنك أقدمت على الشيء وأنت تجهل هذا الشيء وتجهل ما يمكن أن يكون بينه وبين نفسك من صلة؟ أفتظن أن ذلك الحكيم الذي كتب على معبد «دلف» هذا المثل اليوناني القديم: «اعرف نفسك بنفسك.» قد أخطأ أو قال غير الصواب؟ أفتظن أن سقراط حين اتخذ هذا المثل أساسا لفلسفته، وجعله أساسا لكل فلسفة خلقية بعده قد أخطأ أو أقدم على غير الحق؟ كلا! نحن نجهل الأشياء؛ ولذلك نتعلم. ولذلك أنشأنا العلم.
ونحن نجهل الناس ونجهل أنفسنا؛ ولذلك نبحث عن الناس ونبحث عن أنفسنا، ونحاول أن نضع الشرائع والقوانين، وأن نؤسس الفلسفة الإنسانية وأن نؤسس علم الأخلاق، وأن نبحث عن الطريق التي تنظم الصلات بيننا وبين أمثالنا.
ليس هذا كله إلا اعترافا بأننا نجهل، أو محاولة للتخلص من هذا الجهل، ولكننا مغرورون! ننكر هذا الجهل ولا نشعر به، فيخيل إلينا أنا نعلم كل شيء، ويخيل إلينا أن علمنا بأنفسنا هو أشد أنواع العلوم صحة وأقربها إلى الصواب، فيقول أحدنا: إني أعرف هذا الشيء كما أعرف نفسي، ولو أنه فكر قليلا لاستيقن أن هذه المعرفة لا تغني شيئا، ولا تدل إلا على الجهل، فهو يجهل نفسه ويجهلها الجهل كله، فإذا كان حظه من العلم بالأشياء كحظه من العلم بنفسه فويل له من هذا العلم.
إلى هذه النظرية قصد الكاتب في هذه القصة، فأثبتها في وضوح وجلاء، ولكنه أثبت إلى جانبها نظرية أخرى ليست أقل منها شأنا ولا أدنى منها خطرا. أنت تجهل نفسك ولكن ما السبيل إلى أن تعلم هذه النفس؟ أتظن أنك تستطيع أن تصل إلى هذا العلم بالنقد والبحث وبالتحليل والإمعان في التحليل؟
لقد نقد من قبلك سقراط وأتباع سقراط، وأمعن الفلاسفة وعلماء الأخلاق في النقد وفي التحليل، وتأسس علم النفس وانتهى بأصحابه إلى النتائج الباهرة. ولكن النفس الإنسانية ما زالت غامضة، وما زال كل واحد منا يجهل نفسه حقا، ومهما تقرأ من فلسفة سقراط وأتباعه ومن فلسفة القدماء والمحدثين على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم فلن تعلم من أمر نفسك شيئا.
صفحه نامشخص