فإذا كان الفصل الثالث فنحن في آخر الليل أمام البيت الذي تأوي إليه ماري إيف، وقد فتحت نوافذه، وارتابت الشرطة بذلك، فوقف بعض الحراس ينظر، ويريد أن ينبه البواب ليغلق النوافذ، ولكن هذه سيارة تقف وتخرج منها ماري إيف وفرانسوا، فيكون بينها وبين الشرطي حديث تفزع منه بعض الشيء، وقد انصرف الشرطي ودخلت هي إلى دارها ولكنها خائفة، فهي تأبى على صاحبها أن ينصرف حتى تستوثق من البيت، فإذا استيقنت من خلوه أذنت له في الانصراف، لكنها لا تلبث أن تدعوه؛ لأنها أحست حركة، فيتسور النافذة، ويستوثق من أنه ليس في البيت أحد، ويهم أن ينصرف، ولكنها تأبى عليه؛ لأنها أرقة ولا بأس من أن يتحدث إليها بعض الشيء.
وقد فهمنا من حديثهما أن فيليب تركهما معتذرا، وفهمنا أيضا أنه تعمد ذلك تضحية بنفسه لصديقه؛ لعله إذا خلا إلى هذه المرأة آخر الليل لم يستطع أن يبر بقسمه، ولكن صديقه أشد وفاء من أن يتورط في الحنث، فهو يريد أن ينصرف وقد أخذ التأثر منه أشد مأخذ، والمرأة تريد أن تعلم علمه وعلم صاحبه، وما تزال به سائلة وملحة في السؤال حتى يخبرها بأن فيليب يحبها حبا مضنيا، وإذا هو قد مضى في التضحية إلى أبعد حد، فهو يغريها بفيليب، ويستعطفها عليه، ويلح في الإغراء والاستعطاف، وقد تركته لحظة وأقبلت خائفة، ولكنها على ذلك متكتمة ... فيفهم! فيفهم أن صاحبه قد سبقه إلى البيت، وأنه مختف في بعض أرجائه، وأنها قد رأته، فما أسرع ما ينهض لينصرف، وهي لا تمسكه هذه المرة، وهو يحس ذلك، ويحس أنها تكتم في نفسها شيئا، وأنها تتمنى لو انصرف، وما يزال بهما حوار دقيق ولكنه بديع مؤثر، حتى تكاد تعترف بأنه هنا.
وهذا فرانسوا يودعها، ولكنه وداع مؤلم؛ لأننا نحس كما تحس هي أن فيه شيئا من الغرابة؛ أليس يدعوها باسمها الخاص! وقد تسور النافذة، وأخذ يتحدث إليها حديثا كله يأس، وكله أماني، وهي مشفقة عليه مما قد يلقاه في طريقه، والليل مظلم، والطريق خالية، فتسأله: أمعه سلاح، فإذا عرفت أنه غير مسلح دفعت إليه مسدسها، وهو مسدس جميل رشيق، فيأخذه ضاحكا ويقول: لقد فكرت في كل شيء ... وقد ودعها وانصرف، واستوثقت هي من ذلك، وأغلقت النافذة، ودعت صاحبها الآخر فيقبل، ونفهم من حديثهما أنه كان صادق العزم على التضحية، وأنه إنما سبقها إلى البيت لتودعه لآخر مرة، وبينما يريد أن ينصرف أقبل الشرطي فاستخفى، ثم أقبلت هي ومعها صاحبها فلم يستطع أن يظهر أمامهما، فهو إذن لم يأت ولم يتعمد الاستخفاء، وهي تعرض نفسها عليه في لطف، وهو يردها في عنف، فلا يزيدها الرد إلا إلحاحا، وهي تلقي بنفسها بين ذراعيه، وهي تدني وجهها من وجهه، وفمها في فمه، وهي تتحدث إليه بأعذب اللفظ وأشهاه، وهو يضطرب بين الوفاء والحب، والوفاء أشد في نفسه تأثيرا، فهو يدافع نفسه، ويدافع صاحبته، ولكنه على ذلك يداعب شعر هذه المرأة، ويداعب جيدها، وهي تسترسل في الاستسلام له، وما تزال به، وما يزال هو بنفسه حتى يوشك أن يتغلب، وإذا هو يدني فمه من فمها، ولكنها لا تلبث أن ترتد فجأة، وقد صاحت صيحة قوية نبهت صاحبنا من حبه، فإذا سألها ذكرت أن فرنسوا لم يكن يتحدث إلا عنه، وقد كان مضحيا بنفسه في سبيل صاحبه، وأنها تعلم الآن أنه كان يحبها أيضا، وأنها مشفقة عليه لا تدري إلى أي حال صار ... ثم ذكرت قصة المسدس، وفهمنا أنها لم تعطه المسدس ليتقي به، ولعلها إنما أعطته المسدس لشيء آخر بعد أن فهمت كل شيء. وهذا فيليب ذاهلا واجما، قد أسرع إلى النافذة ففتحها، وإلى النور فأطفأه، ثم ينظر فيصيح باسم صاحبه! أليس قد رآه صريعا، وهي تسرع فيردها قائلا: إن كان في قلبي إلا حب واحد، ولم يكن هذا الحب لك.
حبان
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول تيفوا»
أما أحدهما فالحب بالحاء الكبيرة لو أن في كتابتنا العربية حاء كبيرة. الحب الذي يكون من نفسين نفسا واحدة، ومن قلبين قلبا واحدا، وينتهي في كثير من الأحيان إلى الزواج، وأما الآخر فهذا الحب الفطري الذي يملأ قلب الأم لابنها، ويشغل من قلب الابن في بعض الأحيان حيزا ليس بالضيق ولا بالضئيل.
والقصة صراع بين هذين الحبيبين، أو قل إن شئت بين مصدر هذين الحبين: هي صراع بين الأم والزوج، أو بين الأمومة والزوجية، والرجل موضوع هذا الصراع، فأنت ترى أن ليس في القصة شيء جديد، فموضوعها مألوف منذ استقر في الحياة الاجتماعية على اختلاف البيئات والأجناس نظام الأسرة، وأي الناس لم يحس أنه موضوع النزاع بين أمه وامرأته، نزاع يقوى ويضعف باختلاف الظروف التي تحيط بالأسرة، والصلات التي تصل بين أعضائها، فليس من الغريب في شيء أن تستقبل هذه القصة استقبالا فاترا؛ لأنها لم تأت بشيء جديد، ولأن الآداب على اختلاف أنواعها وألوانها وعصورها قد قالت في هذا الموضوع كل ما يمكن أن يقال، ثم هو قد اتصل بحياة الناس حتى أصبح شيئا مبتذلا تجري به الألسنة، وتسير به الأمثال، ويألم الناس له في حياتهم الخاصة، ويضحكون منه إذا اجتمع بعضهم إلى بعض.
ليس غريبا أن تستقبل القصة في فتور، ولكن الغريب أن يقدم الكاتب على مثل هذا الموضوع برغم شيوعه وابتذاله، فيجد من نفسه الشجاعة على اختياره، والتقدم به إلى ملعب من ملاعب التمثيل، وأشد من هذا غرابة أن يوفق إلى الإتقان، وإرضاء النظارة، وحمل النقاد على أن يعترفوا له بالإجادة في شيء من التحفظ قليل.
والواقع أن هذه القصة حين مثلت لأول مرة أمام هذه الطائفة الضيقة المختارة التي تحضر التجارب في الملعب لم تثر إعجابا، ولعلها أثارت شيئا آخر يناقض الإعجاب، ولكنها لم تكد تعرض على جمهور النظارة الذين يختلفون إلى الملاعب للهو لا للنقد، حتى أعجبتهم، واستأثرت بقلوبهم، والغريب أنها أعجبت النقاد أنفسهم في هذه المرة ، كأنهم تأثروا بجماعة النظارة حين رأوها راضية تضطرب بين ضروب الانفعالات المختلفة، فاضطربوا هم أيضا، وخرجوا يثنون بعد أن كانوا ساخطين.
ذلك لأن الجدة والابتكار على خطرهما، وأثرهما العظيم في الآيات الفنية ليسا شرطين أساسيين للإجادة دائما، وربما كان في بعض الأوقات عقبة تحول دون الإعجاب والرضا.
صفحه نامشخص