ومضينا فيما كنا من الحديث، نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى، وحادثة إلى حادثة، وقال واحد من السامرين: «رحم الله سيدنا ...» فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول: «سيدنا! ... رحمه الله وغفر له!»
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطرا من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئا ذا بال في كلمة «سيدنا» قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته، فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعا. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقى الشيخ أو تعويذة من تعاويذه.
وكان له «كتاب» يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته.
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأي العين. وذات صباح صحبني والدي إلى كتاب الشيخ عبد الجليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئا في مدرسة أولية بالمدينة، حيث كنت أقيم عند خالي، ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه.
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سنا مما كنت أتصوره في خيالي، وأحسبه كان صغيرا حقا، فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية لم يكن قد جاوز الأربعين بعد، عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف.
وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبدا إلى تحت، ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلا عليه بالتحية حتى مد له يمناه، فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها، حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يدا قط حتى يدي أبيه وأمه.
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذا من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل، على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع، فما هي إلا ساعة أو ساعات في كتاب سيدنا حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه.
كان الشيخ جالسا في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلو فيها جدائل من خوص أخضر، وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها، وأمامه صبي من صبيان الكتاب متربع في مثل جلسة المعبود «بوذا» وهو يهتز بين يديه في حركة راتبة، ويقرأ شيئا من غيب صدره في نغمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكب على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه لحظة بعد لحظة.
وفي الكتاب عشرات من مثل هذا الصبي قد تربعوا أفرادا وأزواجا على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعا، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حينا، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حينا آخر، والشيخ يخيط، أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ ...
وكنت غارقا في تأملاتي، لا أكلم أحدا ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوى صوت سيدنا غاضبا يتوعد، ومال على فخذ الصبي الجالس بين يديه يقرصه بغيظ، والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته خوفا من سيدنا.
صفحه نامشخص