وانتهت السهرة، ولكن صاحبنا ظل جامدا في مكانه، لم يهم بالقيام حتى دعوه؛ فنهض كسلان متراخيا يكاد يسقط من إعياء. وشيعوه إلى دار أخته وهو سار بينهم يتعثر في أوهامه ...
ووجد أهل البيت نياما فلم يبق ساهرا في انتظار عودته إلا مصباح ضئيل موقد في الردهة، يرقص لهبه على عزيف الهواء. وكان يعلم أنهم أعدوا له غرفة في الطبقة الثانية، فصعد في السلم بطيئا متثاقلا يتلفت بين الخطا، والمصباح في يمينه. ودفع باب الغرفة بيسراه فسمع صوتا يشبه أنين المستصرخ، فأدار ظهره في فزع ليرى من هناك، ولكنه لم يجد شيئا؛ وعاد يدفع الباب، فسمع حشرجة خشنة، ثم ضحكة بشرية ناعمة ...!
ووقف في وسط الغرفة يقلب بصره بين زواياها في رعب وفزع، وكانت به رغبة في التدخين، ولكنه لم يجرؤ أن يذهب إلى الغرفة الثانية - حيث أودع حقيبته - ليستحضر بعض التبغ. وخلع نعليه وهو جالس على حافة السرير ويداه ترتعشان، وأصوات غريبة تتجاوب في أذنه فتفزعه وتسلبه الطمأنينة. ودفن نفسه في الفراش، واستلقى على ظهره وقلبه يدق دقات عنيفة، وكأن يدا غليظة تقبض على عنقه، وأشباحا خفية تطيف به.
وكان يعلم أنه ليس فوق السطح غير أكداس من الحطب والوقود، ولكنه أحس دبيب أقدام، وسمع أصواتا غريبة هامسة ليست من صوت البشر! أتراه أغضب الشياطين فأرسلوا إليه عفريتا ينتقم منه ...؟
وضاقت أنفاسه، واضطرب فكره، واشتد ضغط الوهم على صدره، وهم أن يصرخ ويستنصر، ولكن صوته احتبس ولم يتحرك لسانه. وشبه له أنه يرى شبحا من الضباب في شكل غير إنساني - وإن كان يمشي على رجلين - ينسل من النافذة مع ضوء القمر، ويشير إليه بالصمت في إنذار وتهديد ...!
وسحب الغطاء يخفي عينيه في حركة آلية، لكنه أحس شيئا باردا يلمس أطراف قدميه، فاستوى جالسا وأفلتت منه صرخة مخنوقة، وتوارت الأشباح فلم يبصر شيئا، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيبا وهمسا، وأصواتا غريبة، كانت تصك أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلا أسود مطبوعا عليه، يحرك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدث إلى شخص بعيد؛ وود توفيق أن ينظر وراءه ليرى ما هنالك، ولكنه خاف. واستمر الهمس والدبيب يرنان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينم ليلته. وفي الصباح - مع أول خيط من ضوء النهار - كان جالسا في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم. ودخلت أخته تحييه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، فقالت له: «توفيق، ماذا بك؟» - «لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدي لي ركوبة إلى المحطة!» - «مسافر؟ ولكنك عرفتني أمس أنك قد تمكث لدينا شهرا، فلماذا غيرت رأيك؟» - «لا شيء، لا شيء، قلت لك لا شيء! إن حقيبتي في الغرفة الثانية.»
وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفذ ما أمر به، ثم عادت تسأله: «حدثني يا توفيق، هل تألمت من شيء هنا؟» - «لا، ولكني لم أخبر أمي أمس بأني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يؤلمها؛ لذلك سأعود.» - «ليتك لم تحضر يا توفيق!» وانصرفت لبعض شأنها.
وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس، أفلتت منها ورقة، فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.
ولما جلس في القطار، وضع يده في جيبه ليخرج شيئا، فعثر بالورقة ونشرها بين أصابعه يقرؤها ... وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولودا، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جديا فلا يفزعه دبيبهما، ريثما ترد الجدي إلى صاحبه في الصباح!
لقد خاف توفيق وفزع ليلته؛ لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت ...
صفحه نامشخص