وقبلت فتاها في جبينه وقالت وفي عينيها دموع: «لا عليك يا بني، لقد خسرت الرجل ولكني كسبتك، فليذهب أبوك حيث يشاء، ولتبق لي أنت!»
وخرجت تلتمس الرزق، واتخذت طريقها إلى المدرسة، ولكن المدرسة كانت قد أغلقت أبوابها.
وسعت إلى رئيس الديوان تلتمس الشفعاء إليه ليردها إلى عملها، فأغلق دونها بابه، ووقفت في مفترق الطريقين تنظر، ثم سلكت إحداهما ...
وعاد الرئيس من الديوان إلى داره، وانفتح باب السيارة ونزل، وسبقته إلى الباب امرأة. وهم حاجبه أن يمنعها ثم كف.
وهتفت المرأة في ضراعة: «سيدي، عزمت عليك بحق أولادك إلا ما وصلت عيشي بالوظيفة، إنني أم!»
قال: «ولكنك خيرت من قبل بين الوظيفة والأمومة فاخترت أن تكوني أما، فهيهات ...!»
وبرقت المرأة وصرخت في غيظ: «ولكنك أنت أيضا رضيت أن تكون أبا في أسرة، وأن تكون لك مع ذلك وظيفة في الديوان ... فلم لا خيرت أنت ...؟ كن أبا، أو كن رئيسا في الديوان، إن صح ألا يجتمعا ...!»
وسكت رئيس الديوان فلم يجب، وهتف هاتف من وراء حجاب: «ولكن ثمن الأمومة أغلى ...» ... ودخل رئيس الديوان داره وأغلق بابه ليجلس بين زوجه وولده فيقص قصته، ومضت امرأة على وجهها بائسة ذليلة لتدفع وحدها ثمن الأمومة الغالي!
الضيف الآخر
ود توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان؛ فإنه ليجد لذة ويحس أنسا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء؛ لقد أطافت به نوبة من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودق حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال، وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم، وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد؛ فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في النادي ما يسلي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعا إلى المصايف أو إلى بلادهم، وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم ...!
صفحه نامشخص