ولكنني مع ذلك يا صديقي لم يغب عني قط أن ذلك عمل لا ينبغي. كانت هذه الحقيقة قارة في أعماقي، على الرغم من هوى النفس وخداع الضمير، ولم أكن يومئذ أعرف. فكيف لو عرفت؟ ... ومضت بنا الأيام على ما قدر لي ولها، لم أحاول أن أسألها شيئا ولم تحاول أن تخفي علي، ومع ذلك فقد ظللت دهرا لا أعرف، على غير إرادة مني ولا إرادة منها، ولم تكن في يقيني إلا فتاة على طبيعتها الطاهرة لم يزل بينها وبين الحياة باب مغلق ... وأغناني يقيني عن سؤالها، وحال بيني وبين التماس أسباب المعرفة أنني لم أكن أريد أن يكون مني عمل إيجابي يشعرها أن لي بأمرها عناية فأمد لها أسباب المنى!
ثم كان يوم وكانت الصلة بيننا قد توثقت حتى لا سر بيني وبينها، وجلست تتحدث إلي، وعرفت ...
يا لله ...! ليتني كنت أدري! وهل كان يدور بخاطري يوما أن هذه الفتاة التي بعيني هي امرأة، هي زوج قد انفتح الباب المغلق بينها وبين الحياة ...!
لم تكن خادعة فيما أعلم حين كتمت عني حديثها طوال هذه الأشهر، ولكنها لم تجد سبيلا إلى أن تقول، فصمتت؛ فلما أمكنتها الفرصة جاء الحديث لوقته فراحت تقص علي ...
وشعرت بالغيرة تلذع قلبي لأول مرة، غيرة رجل يحاول أن يستأثر بما لا يملك دون مالكه! ولكني لم ألبث أن فئت إلى رشادي واستيقظ ضميري، فرحت أوبخ نفسي على ما كان وأشبعها تعنيفا وملامة، ولكني لم أجرؤ أن أقول.
لم يكن لها خيار فيما فعلت. هكذا حكمت حين قصت علي خبرها، فقد ماتت أختها عن بنين وبنات وزوج في سن أبيها له مال وجاه وشفاعة ويد مبسوطة، وكانت هي يومئذ تلميذة في السادسة عشرة، دنياها معلم وكتاب ومسطرة ... وعادت يوما من مدرستها فإذا في غرفة الاستقبال كاتب وشهود، وباتت مسماة على زوج أختها، ثم أصبحت زوجا وأما لبنين وبنات وما حملت ولا ولدت!
لم تفهم شيئا مما مر بها إلا كما تفهم كل فتاة في بيت أبيها حين يقال لها قومي فتقوم، واجلسي فتجلس!
وانتقلت من دار إلى دار، ولكن قلبها لم يزل على نقاوته وطهره؛ في عينيها نظرة الطفل، يرى كل شيء جديدا على عينيه؛ وعلى شفتيها ابتسامتها الصامتة المبينة، وفي رأسها أحلامها؛ ثم التقينا. ... هذا ما قالت لي. وقال لي ضميري: ويحك يا شقي! إنك تحاول إفساد امرأة على رجلها!
وقال لي هواي: وماذا فعلت؟ أيكون الاستماع إلى شقية بائسة تشكو بثها محاولة لإفساد امرأة؟
وزدت من يومئذ آلاما إلى آلامي، وزدت إلى ذلك إيمانا بنفسي؛ وأيقنت من يومئذ أنني شيء، وأيقنت إلى ذلك أنني في عمل لا ينبغي!
صفحه نامشخص