يا لله! وفي القرية كثير من مثل هذا المسكين؟ عظم معروق في ثوب خلق يوشك أن يحطمه عصف الريح، يقود ماشية تكاد تنشق شبعا وريا، إنه يؤثر ماشيته على نفسه لتعيش فيعيش بها!
ثم تتابعت أفواج الفلاحين سارحين إلى حقولهم يتبعهم ولدانهم، قد أوقرت ظهورهم بما يحملون، ومضى النساء إلى عملهن ...
ووجدت راجية ما يشغلها، فنسيت شيئا بشيء.
ومر يومها الأول وهي ترى وتوازن وتحكم. ولما جلست في المساء على حافة القناة بين لدات من بنات القرية يسامرنها ويحتفين بها، أحست في نفسها عاطفة جديدة تنمو شيئا فشيئا، ورأت في حديث هؤلاء القرويات روحا ومعنى غير ما كانت تجد من حديث صواحبها في المدينة ...
وأشرق القمر عليها وعليهن وذاب في ماء القناة شعاعه، ونظرت إلى صواحبها ونظرن إليها فكأنما سكب القمر على قلبها من شعاعه الطهور فغسله مما فيه، وأحست فيضا من الحنان والحب يغمرها فيدنيها إلى رفيقاتها قلبا إلى قلب وروحا إلى روح، وذكرت كلمة أبيها: «نعم يا بنيتي ... ولكن واجبك هناك ... إن إخوتك وأخواتك في القرية أحوج إلى التمريض والإسعاف من جرحى الحرب!»
بلى، وإنها لتشعر الساعة بثقل هذا الواجب على عاتقها أشد ما شعرت بشيء في حياتها منذ كانت. إن عليها لهؤلاء المساكين حق الإرشاد والمعونة بكل ما تملك يدها من مال وما يملك قلبها من الحب.
وتبدلت راجية منذ طرقها هذا الشعور الجديد، فعادت فتاة غير من كانت!
وأحبت القرية أكثر مما كانت تبغضها، حتى لو أن أحدا راودها أن تعود إلى المدينة لتأبت ! وتزينت لها القرية زينة عروس، فكل ما فيها جميل فاتن!
ومضت أيام، وبعث «صلاح» إلى أبيه: «أبي! ... وكل شيء هادئ، فليس ثمة خطر مما توقعت أن يكون ...
وإني لأخشى أن تكون حياة القرية بحيث لا تطيب لكم فيها الإقامة، فإن رأيت ...»
صفحه نامشخص