كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات.
لقد فارقها «الرجل» فراق الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مثواه، ولكن ذكراه بقيت معها في ولديه ... ... وبكرت إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينها دموع، ثم تحولت عنه إلى ولديه لتجفف في صدرهما دموعها.
وآلت منذ ذلك اليوم أن تكون لهذا الطفل وأخته أما وأبا ... وبرت بما وعدت. كان ذلك منذ أربع عشرة سنة. •••
أما الفتاة فقد شبت واكتملت ونضجت ثمرتها فانتقلت من دار إلى دار ... وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه ... وعرفت دنيا جديدة ... أتراها تذكر اليوم أمها ...؟ ألا إن أمها لقانعة راضية بما بلغت من أمانيها ... لقد تحققت لها أمنية من أمنيتين ...
وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة، فما أهون ما بقي! ... إنه بعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة ...
وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار ما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي.
يا لله! أهذه هي؟ لشد ما غيرتها الأيام! ... ••• ... كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة كلها مرح ونشوة ودلال ... يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟
أترى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار كعهدها يوم كانت ... ولكن أين تلك المرآة ...؟ لقد علاها غبار السنين؛ فما لها عين تنظر ولا لسان يصف.
هاتان عينان قد انطفأ بريقهما؛ فما لهما همس ولا نجوى.
وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أرج ولا شذى.
صفحه نامشخص