من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
ژانرها
20
وأحيانا يسمى الدليل التجريبي نظرا لاعتماده على قياس الغائب على الشاهد. ففي الشاهد العالم ذو العلم، والقادر ذو القدرة، والمريد ذو الإرادة. يتم إثبات الصفة إذن بمجرد إثبات الموصوف، وإثبات الفعل بمجرد إثبات الفاعل. والحقيقة أن الحجة ليست بديهية لأنها تعريف الشيء بما هو دونه في الخفاء والجلاء عندما يحيل الموصوف إلى الصفة. كما أن الله عالم لا تعني أن له علما بل تعني أنه محيط، أي تبقى الصفة على مستوى المعنى والدلالة دون تشخيصها، وتثبتها كجوهر. وإذا كانت الحجة تقوم على قياس الغائب على الشاهد، فما المانع من عزو الجوارح وآلات الحس في السمع والبصر وفي غيرها من الصفات، أي الأذن والعين واللسان واليد وجميع الأعضاء الحسية؟
وقد تأخذ الحجة طابعا جدليا، إما بوجود الإثبات أو استحالة النفي. فإثبات ونفي الصفات إما أن يرجعا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأحوال. ويستحيل الرجوع إلى الذات لأنها معقولة دون الاتصاف بالأحوال، فلزم أنها ترجع إلى الصفات.
21
والحقيقة أن ذلك إثبات حقائق مختلفة وخواص متباينة لذات واحدة دون ما مبرر. كما أنه تحصيل حاصل لأنه إثبات الصفات بالصفات. وإثبات الصفات بالذات أقرب إلى العقل. والذات واحدة لا ينتج عنها كثرة الصفات. وقد يقال أيضا إن إنكار إثبات صفات أزلية مثل إثبات موصوف بلا صفات. والحقيقة أن الموصوف فاعل وصفاته أفعال دون أن تتجوهر أو أن تستقل وإلا وقعنا في التعدد، تعدد الجواهر والمعاني المستقلة.
وهناك حجة أخرى صورية تقوم على دليل حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى مرجح لأحد أطراف الإمكان. والمرجح إما أن يكون بذاته ولذاته أو بذاته على صفة وراء الذات، ويستحيل الترجيح بالذات لأن ذلك لا يخصص فيجب أن يكون الترجيح بالصفة وهي التي سماها الشرع الإرادة أو القدرة. فإذا اشتمل الفعل على حكمة وجب كون الصانع عالما، والقدرة والعلم يستوجبان الحياة. فالصفة إذن هي مرجح الوجود على العدم وصلة الله بالعالم، أي أنها مرادفة للفعل. والحقيقة أن الصفة بهذا المعنى افتراض زائد لأن الآية تدل، والظاهرة تشير، دون ما حاجة إلى صفة متوسطة بين الله والعالم، وإلا كان الفكر الديني في الخلق معتمدا على التوسط كما هو الحال في المسيحية أو في غيرها من الديانات القديمة وترك الخلق المباشر وهو أهم ما يميز الدين الجديد.
وقد يستعمل دليل تجريبي صرف ويكون هو نفس الدليل السابق مقلوبا. فالتأمل في الكون ببدائع الصنائع وعجائب الخلق يؤدي إلى إثبات الصانع حكيما قادرا مريدا دون اللجوء إلى قياس الغائب على الشاهد. «فالغائب شاهد، والعقل، والبصر نافذ». ولا حاجة إلى الاستدلال في الضروريات. ويزيد الأشعري تأمل الإنسان في خلقه وأطواره، طورا بعد طور، وفي كمال الخلقة، أي تأصيل التأمل في النفس وفي الكون. والحقيقة أن هذا الدليل البصري الكوني يثبت الموصوف لا الصفة، والفاعل لا كيفية الفعل. وليست القضية إثبات الصفات، ولكن صلة الذات بالصفات، صلة زيادة أو تساوي، غيرية أم هوية. وليست القضية في الإثبات، ولكن في منع الاشتراك بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية. وقد تأخذ هذه الحجة صيغة أخرى وهو القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات لكان متصفا بما يقابلها، والله يتعالى ويتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا. فلو لم يكن الله عالما لكان جاهلا، ولو لم يكن قادرا لكان عاجزا، ولو لم يكن حيا لكان ميتا ... إلخ. والحقيقة أن العلم والجهل، القدرة والعجز، الحياة والموت ليسا من المتقابلين، أي ما لا يجتمعان على شيء واحد من جهة واحدة في اللفظ أو في المعنى تقابل السلب والإيجاب أو تقابل الصدق والكذب بل من المتضايفين مثل الأبوة والبنوة. ومنه تقابل الطرفين الضدين، أي الذين لا يفهم أحدهما بدون الآخر في علاقة نسبة أو إضافة، كما وضح في نظرية الوجود.
22
والأصل في التضايف هو أن يكون الطرفان حسيين، مثل الأب والابن أو الكبير والصغير. أما لو كان أحدهما حسيا والآخر عقليا، فإنه يقوم على قياس الغائب على الشاهد أولا ثم يقلب ثانيا. فلأن الإنسان جاهل يكون الله عالما، ولأن الإنسان عاجز يكون الله قادرا، ولأن الإنسان ميت يكون الله حيا ... إلخ.
23
صفحه نامشخص