از عقیده تا انقلاب (۴): نبوت – معاد
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
ژانرها
26
ومن قوانين التاريخ الاتفاق على مبادئ عامة تحكم سلوك الشعوب، منها حرية الاعتقاد والسلوك طبقا لمبادئ عامة إنسانية تعترف بها كل الشعوب. وبالرغم من توجيه القدماء بعض الاعتراضات على هذا الوجه من الإعجاز، فالتنبؤ بالغيب قد يكون كرامة وليس معجزة، كما أنه يقع من المنجمين والكهنة، وليس فقط من الأنبياء. وهو إقصار للمعجزة على الغيب، وكأن ما ليس بغيب لا يكون معجزا.
27
إلا أن الحركة الإصلاحية الحديثة تجمع بين إعجاز القدماء وقوانين التاريخ، في أسلوب أدبي خطابي، في وصفها انتشار الإسلام بسرعة لم يشهد مثيلها في التاريخ، وكأن هذا الانتشار نفسه معجزة قديمة أو إعجاز جديد، دون صياغة عقلية لقوانين التطور ومسار التاريخ. والحقيقة أن التنبؤ بالمستقبل، كأحد وظائف النبي، لها أنماطها السابقة لدى بني إسرائيل، وكما هو واضح في نبوءات المسيح. ولماذا يكون محمد وهو آخر الأنبياء وخاتم النبوة أقل قدرة من الأنبياء السابقين؟ أما أمور المعاد فليست غيبية؛ لأنها تخضع لقانون الاستحقاق، وتحقيقا لأصل العدل، كما أن أمور الحلال والحرام ليست أمورا غيبية، بل هي أدخل في علوم التشريع. (ج) الإعجاز التشريعي
ويندرج الإعجاز التشريعي من قانون الاستحقاق وتطبيق أصل العدل، وهي الأسس العقلية التي تقوم عليها أمور المعاد، وفي مقدمتها الوعد والوعيد حتى وضع الشريعة وإقامة الدولة. فأمور المعاد ليست أمورا غيبية، بل يمكن معرفة أسسها العقلية، مثل قانون الاستحقاق بالعقل. أما أمور الحلال والحرام فتدل على قواعد السلوك البشري، وما يجب وما لا يجب؛ الأوامر والنواهي في كل ملة ودين. وقد لاحظ القدماء ذلك على مستوى المعنى؛ أي الحكمة الأخلاقية والفضائل العملية. أما علماء أصول الفقه فهم الذين دققوا في الحكمة التشريعية؛ فبالنبوة تثبت معان كبرى قائمة على كمال العقل والتحقق في التاريخ، ولا تتحقق هذه المعاني فقط في شخص الرسول، ولكنها معاني مستقلة يدركها كل عقل، ويتحقق من صدقها كل إنسان، بلا حاجة إلى معجزات بمعنى خوارق العادات، ولا يحتاج الإنسان لتصديقها إلا إلى استقلال العقل وحرية الإرادة.
28
ولكن المعاني الخلقية والحقائق الإنسانية العامة قد تحولت إلى نظم وشرائع، وتحققت عمليا في حياة الأفراد والجماعات، وأسست دولا، وأصبحت حركات في التاريخ. ولو كانت مجرد حقائق علمية واكتشافات رياضية، لكانت في العلوم الهندسية والرياضية والحسابية وفي العلوم الطبيعية أمثلة لها.
29
فالإعجاز التشريعي يخص آخر مراحل الوحي عند اكتماله، ولا يخص المراحل السابقة. كانت مهمة المراحل السابقة المساهمة في تطوير الوعي الإنساني، بالتركيز على جوانب دون جوانب أخرى؛ مرة على القانون في شريعة موسى، ومرة على الحب في شريعة عيسى، ولكن عند اكتمال الوحي أمكن إعلان استقلال الشعور الإنساني، وأنه لا وجه للتركيز على جانب واحد، وإنما الحاجة إلى نظام تشريعي متكامل، وحقيقة كلية شاملة لكل العصور والأمكنة في مبادئها الأولى، وأن التحدي التشريعي قائم إلى يوم الدين، ليس في الماضي فقط كما هو الحال في المعجزات القديمة، ولا في الحاضر فقط كما هو الحال في الإعجاز البلاغي والتحدي في الخلق. فالتحدي بالنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني، أي التحدي بالمذاهب الفكرية، هو القائم والباقي. وإذا كنا نعيش في عصر الأيديولوجيات، فالتحدي الأيديولوجي هو الوريث لكل التحديات القديمة بمعجزاتها وإعجازها. فالعصر عصر أيديولوجية وليس عصر بلاغة ونظم أو إخبار بالغيب، إلا عن طريق حساب الاحتمالات للمجهول، أو التنبؤ بالمستقبل كما هو الحال في العلوم المستقبلية. ويضم الإعجاز التشريعي جانبين: الأصول العامة التي تقوم على الحكمة البشرية ورصيدها في التاريخ، ثم استنباط أحكام الشريعة وتحقيقها في الزمان والمكان، في فنون وصناعات واجتماعيات وسياسات. وكما تساعد قواعد اللغة على إحكام المتشابهات، تقوم قواعد الاستنباط وطرق البحث عن العلة بتكييف المبادئ طبقا للزمان والمكان، وبتحقيقها في الواقع فيحل التعارض النظري. وما ظنه البعض على أنه تناقض على مستوى المبادئ هو في الحقيقة تكيفات طبقا لظروف كل عصر. فالإعجاز التشريعي في علم أصول الفقه؛ أي في الشق الثاني من علم الأصول.
30
صفحه نامشخص