من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرها
17 (2) الجهل
والجهل اعتقاد جازم غير مطابق، والاعتقاد الجازم قطعية مضادة للعلم ونقيض النظر، وينقصه البرهان، ويكون عدم المطابقة مع الواقع؛ فمقياس العلم مطابقة الاعتقاد للواقع، إن كان مطابقا كان علما، وإن لم يكن مطابقا كان جهلا. ويصاحبه سكون النفس وغياب التردد والريبة؛ وبالتالي غياب الظن والوهم. ويمر التطابق بالشعور، وليس مجرد تطابق آلي صوري مادي بين الفكر والواقع؛ أي تطابق بين المفهوم والماصدق.
وبالرغم من أن القدماء لم يفصلوا في الجهل إلا أنه يغلب أيضا كالظن على حياتنا المعاصرة، لا بمعنى عدم العلم أو بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، أي الأمية، التي نتحدث كثيرا عن محوها ونعقد لها البرامج والندوات، فقد يكون غياب العلم علما، وهو الجهل العالم كما هو الحال لدى الأمي العالم. وقد يكون حضور العلم جهلا، وهو العلم الجاهل كما هو الحال لدى المتعلم الجاهل.
18
فالأمي بصدق فراسته، وبأمثاله العامية، وبإحساسه بالواقع، بنكاته الشعبية، وبوجدانه التاريخي، وبتراكم آلاف السنين؛ قد يكون أعلم من المتكلم حيث الوعي والانتباه، والقدرة على الرؤية المباشرة للواقع بلا تدليس أو إيهام. كما أن المتعلم باغترابه، وانفصاله عن الواقع، وباستخدامه جعبة من الألفاظ للتضليل والتعمية يكون أجهل من الجاهل، وبل ويكون جهله مركبا لأنه لا يعلم أنه جاهل. قد يكون الجهل في حياتنا المعاصرة ماثلا في عدم الوعي بأنفسنا، وبالمرحلة التاريخية التي نمر بها، وفي غياب مشروع قومي تحققه الأمة، وتجند له قواها، وتحشد له إمكانياتها، بعد أن كان لها واحد وانتكس بعد أن فرغ من مضمونه؛ فأصبح مثل كرة الهواء بلا ثقل من التراث وبلا أساس من الجماهير. قد يكون الجهل في تخلف مؤسساتنا القومية عن درجة تقدم الواقع وحركته، وفي عدم تمثيل السلطتين الدينية والسياسية لحركة الواقع العريض ومحاصرتهما لطلائع هذه الحركة ومحاولة عزلها عن الواقع ومن وسط الجماهير. الجهل هو هذا التفاوت الشديد بين ما يدور في الواقع من قوى للتغير والحركة، وبين النظم الاجتماعية والسياسية القائمة التي تحاول إيقاف هذه القوى والقضاء عليها، وهو في الحقيقة جهل بالتاريخ وبمساره. والإنسان مسئول عن هذا الجهل، ولكننا في حياتنا المعاصرة جعلنا الله مسئولا عنه، وبرأنا أنفسنا من تبعة هذا الجهل بدعوى أن علمنا محدود أمام العلم «الإلهي»، وإدراكنا قاصر عن إدراكه، وعقلنا ضعيف لا يقدر على تجاوز الحدود التي رسمها الله له. نتوقف أمام الغيب لأن الإنسان ذو علم محدود والله ذو علم مطلق؛ وبالتالي نكون أكثر تخلفا في تحليلنا لأسباب الجهل وتحديد المسئول عنه، في حين أن الجهل لدينا له أسبابه المباشرة في مضمون ثقافتنا التي هي أقرب إلى الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع أو للفكر أو للتاريخ؛ لذلك سادت حياتنا المعاصرة القطعية، وهدم العقل، وإنكار النظر، وإسقاط الواقع من الحساب، وغياب التاريخ كبعد شعوري وكميدان للعمل والتحقيق. (3) التقليد
لقد أفاض القدماء في التقليد كما غصنا نحن فيه إلى الأذقان؛ فالتقليد اعتقاد جازم مطابق، ولكن دون سبب للمطابقة؛ ومن ثم فهو لا يؤدي إلى العلم، هو قطع وجزم دون نظر، هو اعتقاد أي حكم أو تصديق، وجازم لأنه لا شك فيه ولا تردد. ومطابق لأنه يتماثل مع شيء آخر قد يكون تراثا قديما أو معاصرا حديثا أو شخصا ميتا أو شخصية حية، ولكن دون سبب وبلا برهان قطعي من حس أو عقل أو استدلال. التقليد تبعية للآخرين من غير مطالبتهم بالبرهان، لا يرتقي إلى اليقين، ولا يفيد الظن، ولا يمكن اختيار أحد الاحتمالين عن طريق التقليد بلا سبب للتفضيل.
19
ويقوم التقليد على بعض الحجج، هي في الحقيقة ضد النظر، فإذا بطل النظر ثبت التقليد اتباعا لبرهان الخلف، نفي الشيء لإثبات نفيضه، وهو برهان سلبي خالص لا يثبت شيئا؛ لأن النظر والتقليد ليسا هما الاحتمالين الوحيدين كطريقين للمعرفة؛ إذ يضع الصوفية الذوق والإلهام. إن مجرد إنكار القياس لا يثبت التقليد، وإنكار الشيء لا يثبت ضده، وبرهان الخلف يدخل ضمن منطق الظن لأنه يقوم على حجة جدلية. ليس التقليد هو البديل الوحيد على فساد القياس؛ فهناك بداهة الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان. وكل الحجج مستقاة من قصة إبليس وصراعه مع آدم. فقد قاس إبليس النار على الطين، «خلقتني من نار وخلقته من طين»، فأخطأ، وهي حجج ضعيفة لعدة أسباب. فالهدف من القصة هو التأثير على النفس وليس إصدار حكم، والحث على العمل أكثر من الوصف والتقرير، والإيحاء إلى النفس وليس مصدرا للأحكام الشرعية؛ فهي صورة شعرية أكثر منها حادثة تاريخية، والقصص والمجاز ليسا مصدرا للأحكام. وحتى على فرض صحة استنباط أحكام من القصص فإن أشخاصا كثيرة تقيس وتصيب، وليس كل من قاس فقد أخطأ. ولا يمكن إصدار حكم كلي على واقعة. وكثير من المؤمنين يقيسون ويصيبون. كما تقيس الأنبياء وتصيب، وكما بين الفقهاء ذلك في كتب «أقيسة الرسول»، بل إن الله ذاته يقيس ويصيب، والوحي مملوء بالأقيسة الصائبة على ما بين الفقهاء. ليس الخطأ من القياس في ذاته، بل من طرق الاستدلال الخاطئة. وتقوم مناهج الأصوليين على القياس، والقياس الشرعي يصيب، وهو مصدر من مصادر التشريع. إن أقصى ما تستطيع هذه القصة أن تقدمه هو أنها تنبه على القياسات القائمة على مقدمات خاطئة، فتقيس الكم على الكيف، وليست تلك التي تقوم على المقدمات الصحيحة. هذه الحجج كلها يمكن في نفس الوقت استعمالها دفاعا عن القياس كأحد أشكال النظر وليس فقط ضد التقليد.
وقد صاغ المعتزلة عدة حجج عقلية ضد التقليد لبيان استحالة النظرية والعملية، وضرورة الاستدلال؛ فالمقلد لا يستطيع تقليد المذاهب كلها؛ لتعارضها ولحاجة السلوك إلى مذهب واحد. ولا يمكن أن يكون الاختيار بينها مصادفة عشوائية أو بالمزاج والهوى، بل بالنظر والاستدلال، كما أن المقلد لا يقلد غير العالم؛ لأنه جاهل، بل يقلد العالم الذي له علم عن طريق غير التقليد، وإلا تسلسلنا إلا ما لا نهاية. وعلم العالم إما من العلم الضروري أو العلم النظري. والعلم الضروري مشاع عند الناس جميعا، يستطيعه المقلد وبالتالي فلا حاجة له إلى التقليد، والعلم النظري هو طريق العلم لأن النظر يفيد العلم. هذا بالإضافة إلى أن التقليد يؤدي إلى الخطأ النظري والخطأ العملي على السواء؛ لأنه خال من اليقين، في حين أن العلم يقيني في النظر، وبالتالي يقيني في العمل.
ولا يمكن تقليد الأكثرين لأن الكثرة حجة كمية والعلم كيف. وقد كان الأنبياء أقلية في قومهم وهم الأغلبية. وكان الدعاة والمصلحون أقلية في أقوامهم.
صفحه نامشخص