من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرها
16
ولم نشأ الاعتماد على منهج النص، وذكر كل النصوص الدينية التي تعتمد عليها هذه الفرقة أو تلك، فبالرغم من أن هذه النصوص أصل للفرقة ولنشأة الاتجاه إلا أنها أصل واحد، وهو الأصل الفكري أو العقائدي، وهناك أصل ثان وهو الدوافع النفسية والمصالح الشخصية والظروف الاجتماعية التي امتلأت النصوص بها ففسرتها وأولتها، النصوص مجرد قوالب يمكن ملؤها حسب مقتضيات كل موقف، فالموقف هو الأصل المحدد لا النص، وهو ما نريد إعادة بنائه لمعرفة الدوافع النفسية والظروف الاجتماعية التي من خلالها نشأت الفرقة وخرج المذهب، الاعتماد على النصوص وحدها هو تفسير للفكر وللواقع من خارجهما، وكأن الأفكار والوقائع توجد فقط بوجود النصوص، وكأن الألفاظ لها الأولوية على المعاني والأشياء. صحيح أن النصوص نفسها أساس جميع المذاهب، ولكن لا يمكن من خلال النصوص وحدها معرفة تنوع هذه المذاهب وتفرقها وتشعبها، بل وتضاربها وصراعاتها حتى الموت، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد نص لا يمكن تأويله، ولا يوجد نص صريح الدلالة إلا وله نص صريح مقابل، النصوص إذن لا تفسر نشأة فرقة على التحديد، بل تفسر جميع الفرق وجميع الاتجاهات مهما بلغ تضاربها وتشتتها، كما أن الاعتماد على النصوص يكسر اتساق تحليل الواقع كما يكسر اتساق الخطاب النظري، إن تحليل الواقع يعتمد على تحليل الوقائع نفسها وعلى وصف الأشياء على ما هي عليه، ولن يلغي النص الواقعة إذا كانت موجودة كما أنه لن يوجد واقعة إن لم تكن موجودة، كما يقضي النص على استقلال الخطاب، ويجعل الفكر قائما على براهين خارجية عنه، وهي ظنية في حين أن الدليل أساسا هو الدليل العقلي؛ أي الدليل اليقيني الداخلي، ولما كانت الأدلة العقلية كل منها يصدر عن الآخر، فإن الموضوع يتحدد ببداهة العقل، والنص لن يغني عن الدليل العقلي إن غاب، ولا ينقض الحجة العقلية إن وجدت.
17
والنصوص نفسها إما عقل أو واقع، هي عقل لأنها قائمة على العقل، فلا يوجد شيء في النص إلا ما اعتمد على العقل أولا، العقل أساس النقل على ما هو معروف في تراث القدماء، والنص هو الواقع على ما هو معروف من «أسباب النزول»، وهي الوقائع الأولى التي جاء النص واصفا ومشرعا لها، وكذلك «الناسخ والمنسوخ» اللذان يدلان على تكيف الوحي طبقا لتغيرات الواقع وقدرات الإنسان وإمكانيات التحقيق.
18
الرجوع إلى العقل والاعتماد على الواقع إذن رجوع إلى مصدر النص والتقاء معه من حيث أصوله من أجل فهمه وحمايته من أي تأويل مغرض، وإن استعمال النصوص كحجة يقتضي إيمانا مسبقا بها، سواء من الباحث أو من القارئ، وذلك يقلل من درجة شمولية البحث وعلميته ودرجة استقبال جماهير القراء له، في حين أن تحليل العقل لا يتطلب أي إيمان مسبق بشيء، ولا يتطلب إلا العقل الصريح أو رؤية الواقع الموصوف، ولا يعني ذلك أننا نلجأ إلى استعمال الحجج العقلية التي تتشعب في عديد من التقسيمات حتى تخرج على مستوى الفهم، فتتحول إلى جدل عقيم؛ أي إلى دلائل أصعب في الإقناع من الموضوع ذاته، وقد حولنا هذه الأدلة قدر الإمكان إلى خبرات شعورية حتى يمكن أن تكون أكثر إقناعا، وأوضح مضمونا، وأيسر فهما، حولنا العلم من علم جدلي إلى علم برهاني، ومن علم صوري إلى علم حي، هذه الحجج العقلية المتشعبة هي في الحقيقة الجوانب المختلفة للواقع معروضة عرضا صوريا خالصا، الاحتمالات الصورية في حقيقة الأمر هي إمكانيات واقعية، وإذا اقتضت الضرورة، وحتى نبين مصدر الفكر ووحدته الأولى في النصوص الدينية قد نذكر بعضا من الحجج النقلية في الهوامش السفلى وإعادة تفسيرها حتى تتفق مع الحجج العقلية ورؤية الواقع. والقدح في التفسير لا يكون قدحا في العقل، ولو عورض التفسير بتفسير آخر فإن حجج العقل تظل باقية لأننا نحتكم إلى مقياس ثالث يشمل العقل والنقل معا وهو الواقع الذي نعيش فيه. اليقين من العقل من حيث الاستدلال، والنقل يأخذ يقينه من العقل، والاختلاف في تفسير المنقول راجع أساسا إلى اختلاف في فهم المعقول، ولكن الواقع هو الذي يعطي مادة اليقين التي يحللها العقل في التجربة المباشرة، وسنشير إلى الحجج النقلية ليس باعتبار تفسير صوري لها بل لتحليل أثرها عند سامعيها، ومدى تعبيرها عن متطلبات الواقع من أجل العثور على البناء النفسي الاجتماعي الذي قد تكشف عنه الحجج النقلية من أجل توجيهها نحوه بالتغيير أو استدعاء حجج نقلية أخرى تعطي هذا البناء دفعا وقوة وشرعية.
ومع ذلك فقد اعتمدنا على كثير من المادة الكلامية ووضعناها أحيانا بين قوسين، ولا يعني ذلك أننا نستشهد بها، بل نعطي عينة من مادة نحللها، قد نسقط عبارة أو عبارتين من الوسط لا تخل بالفكرة أو تحدث اضطرابا في السياق، ووضعنا كل ذلك في هوامش الصفحات حتى لا ينكسر الاتساق الداخلي للفكر وبالتالي يكون الجديد في صلب الصفحة والقديم أسفلها، ووجود النصوص في الهوامش أسفل الصفحات، بالرغم من ثقلها وإرهاقها للقراء، ضروري؛ فهذا هو «التراث»، وتحليلنا لها في أعلى الصفحة هو «التجديد»؛ وبذلك يستطيع القراء أن يحكموا ويقارنوا بأنفسهم بعد أن يقرءوا «التراث والتجديد» سواء في جزئه الأول «من العقيدة إلى الثورة» أو في أجزائه التالية، فغالبا ما لا تتاح لهم فرصة الحصول على نصوص دالة من القديم، إما لصعوبة المحل أو لضياع وسط النصوص غير الدالة، النصوص من التراث تسمح للقراء، العامة منهم أو الخاصة، بالاحتكاك بالتراث وأخذ انطباعات منه بالموافقة أو المخالفة، بالقبول أو بالرفض، بالارتياح أم بالغضب، وهي المادة الشعورية التي يقوم «التجديد» بتحليلها؛ وبذلك أكون قد خففت عن القراء عناء البحث والتمحيص عن القديم، وأكون قد قدمت لهم، ما لم تتح لهم الفرص للتعرف عليه، وأكون قد أبرزت التراث وقدمته، ووضعته في شعور القراء المعاصرين بدل انزوائه وانزوائهم؛ أي أنني أكون قد قمت بمهمة تقديم الطرفين بعضهما للبعض الآخر بعد تباعد وتجاهل ونسيان؛ والنصوص المذكورة ثلاثة أنواع: الأولى نصوص مخالفة تبعث على الغضب حتى يغضب القراء معي على القديم ويشاركونني في الهم، ويعطونني الحق، ويعذرونني، ويفهمون موقفي.
19
والثانية نصوص موافقة، يمكن أن يثق بها القراء، تساعدهم على النقد والرد والتطور، وحتى يعلم القراء أن مواقفي لم تأت من فراغ، وليست مجرد هوى، بل لها ما يدعمها أيضا عند القدماء، ولكنها انزوت واختفت باختفاء المعارضة واستتباب النظام، والثالثة نصوص محايدة يمكن إعادة بنائها، وتكون نموذجا لعينات من التحليل، يعاد صياغتها من جديد أو ينسج على منوالها بتحليلات جديدة في المناهج أو في الموضوعات، ولكن الغالب هو النصوص المخالفة، فالغضب أهم من الرضا، والحزن أجدى من الفرح، على الأقل في لحظة الهزائم الحالية، والثورة على القديم أوجب من الإيمان به. ربما استكثرنا من النصوص، وربما تكررت لدرجة أنها قد تصبح نصف الدراسة أو على الأقل ربعها حتى تتضخم الدراسة وتصبح صعبة على القراء في عصر لا يود إلا السرعة ولا يتحمل إلا العرض السريع المقتضب.
20
صفحه نامشخص