من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرها
1 (1) المنهج الإيماني
والمنهج الأول منهج إيماني خالص يقوم على التسليم بالعقائد الدينية تسليما مسبقا عن طريق الوحي، وفي هذه الحالة تكون وظيفة العقل مجرد إيراد البراهين على صحة المسلمات المسبقة، وهو المنهج المعروف في العصر الوسيط الأوروبي «أومن كي أعقل»،
2
أو «الإيمان باحثا عن العقل»، صحيح أن مضمون الإيمان الإسلامي مختلف عن مضمون الإيمان المسيحي؛ لأنه يحتوي على صدقه من داخله في حين يحتاج الإيمان المسيحي إلى صدق خارجي من ألوهية أو نبوة أو معجزة أو إرادة أو إلهام أو سر، وقد وضح ذلك في المقدمات الإيمانية التقليدية وتعبيرها عن الأحكام المسبقة التي يبدأ منها الأصولي المتكلم، وهي عقائد أهل السنة التي يريد البرهنة على صحتها للآخرين وليس لنفسه؛ وبالتالي تكون نتائجه هي مقدماته، ومكتشفاته هي مسلماته، وكأن البحث ذاته ما هو إلا لملأ الفراغ بين المقدمات والنتائج، يقوم منهج علم الكلام عند القدماء إذن على البحث عن الأدلة اليقينية لإثبات صحة العقائد المسلم بها سلفا بعد الإيمان بها، وهو وقوع في «الدور» بين الإيمان والعقل، أومن كي أعقل ثم أعقل كي يزداد إيماني رسوخا، ولكي أثبت للآخرين صحة إيماني، وهو على عكس المنهج في علوم الحكمة الذي يبحث عن بداية عقلية مطلقة دون افتراض إيمان مسبق وإن خرجت صور العقل تعبيرا عن الطهارة الدينية والتقوى الباطنية، يبدأ المنهج الكلامي إذن بالتسليم ثم يثني بالبحث عن الأدلة وإيجاد البراهين على صدق ما سلمنا به أولا، فهو علم إيماني خالص أكثر منه علما عقليا؛ وبالتالي يفتقد شروط العلم وهو البحث عن نقطة بداية يقينية يصل إليها العقل من داخله، وهذا لا يعني أن الإيمان وظيفة له لأنه يكون أحيانا حدسا مباشرا أو تجربة صادقة أو عاطفة نبيلة أو مبدأ مثاليا، وكلها تدخل ضمن وسائل المعرفة وشروط الإدراك، وأحيانا يقدم الإيمان افتراضا نظريا لفهم الواقع، ثم تكون مهمة العالم التحقق من صحة هذا الفرض بالدليل العقلي أو البرهان الحسي، وأحيانا يقدم نظرة شاملة للكون تكون مهمة العالم تحويلها إلى بناء فردي ونظام اجتماعي وحركة في التاريخ، ذلك يمكن تعميم البراهين والأدلة إلى غيره من المعطيات الدينية، خاصة إذا كان الوحي الإسلامي معطى مثاليا وليس نوعيا كما هو الحال في المراحل السابقة للوحي التي تمسك بها الوعي الأوروبي.
3 (2) المنهج الدفاعي
والمنهج الثاني الذي يستعمله علم الكلام هو منهج الدفاع عن العقيدة، والذب عنها، ضد البدع والشبه التي يروجها الخصوم من المعاندين والمبطلين؛ فهو علم دفاعي ضد هجوم المنتقدين.
4
والحقيقة أن الدفاع ليس منهجا للعلم، بل هو مجرد تقريظ وثناء ومدح للنفس وثلب وهجوم وتجريح للآخر. ليست مهمة العلم الدفاع أو الهجوم، بل تلك مهمة المحاماة، والدفاع والهجوم كلاهما يقومان على التعصب والهوى والمصلحة، ويدلان على نقص في العلم والموضوعية والتجرد والنزاهة والحياد، العلم تحليل عقلي للموضوعات أو وصف علمي للظواهر لإدراك الحقائق الصورية أو المادية أو رؤية للماهيات في التجارب الحية وليس تعصبا أو هوى، دفاعا عنها وهدما لنقيضها، الدفاع شيء والتأسيس النظري شيء آخر، الدفاع همه دحض حجج الخصم واستخدام العقل لذلك صوابا أم خطأ، أما التأسيس فمهمته معرفة البناء النظري للعلم ، الدفاع والهجوم كلاهما معارك في الهواء، وتحويل للنضال الحقيقي من الواقع إلى الفكر، خاصة إذا كانت موضوعات الجدل لا تؤثر في مجريات الأحداث المباشرة مثل خلق القرآن، ووجود الملائكة، وعذاب القبر، والميزان، والصراط، والحوض، الدفاع موقف ينم عن ضعف صاحبه، وهجوم الخصوم يدل على قوة المعارض، وفي النهاية يرجع الفضل إلى الخصم في التحدي والمعارضة وإجبار المتكلم على التفكير والاستدلال، فالخصم ليس شرا، بل هو الباعث والدافع والمحرك والمنشط لذهن الأصولي المتكلم؛ وبالتالي يكون الخصم هو المؤسس للعلم باعتراضاته وليس المدافع عن العلم بأجوبته.
ولا يكون الدفاع عن الدين فحسب، بل عن تفسير معين للدين، ولا عن العقائد الإسلامية، بل عن تصور معين لها، وهو تصور مذهبي لفرقة خاصة هي في الغالب فرقة أهل السنة التي أصبحت، بعد الصراع على السلطة وحسم الصراع لصالحها، الممثلة للعقائد الرسمية للدولة، ضد تراث المعارضة السرية مثل عقائد الشيعة أو المعارضة العلنية من الخارج مثل نظريات الخوارج أو المعارضة العلنية من الداخل مثل أصول المعتزلة؛ فالدفاع عن المذاهب الكلامية وعقائدها أكثر من الدفاع عن الدين نفسه، وكانت الغاية من تأليف كتب العقائد الدفاع عن عقيدة أهل السنة حتى في علم الكلام المتأخر الذي يظهر فيه العلم مستقلا عن عقائد فرقة بعينها، بادئا بنظرية العلم ومثنيا بنظرية الوجود، وتحويل عقائد الفرق إلى مجرد تذييل للإمامة في نهاية العلم.
5
صفحه نامشخص