من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرها
12
رابعا: موضوعه
(1) ذات الله
يظن القدماء خطأ أن موضوع العلم هو «ذات الله»، مع أن «الذات الإلهية» لا يمكن أن تكون «موضوعا» للعلم، فالذات لا تكون موضوعا، حينئذ يكون السؤال عن الذات: هل يمكن تصوره؟ هل يمكن إدراكه؟ هل يمكن الإشارة إليه من أجل التصديق والتحقق من صدقه؟ هل يمكن الحديث أو التعبير عنه؟ هل يمكن أن يتحقق في الحياة العملية؟ «الله» كما يعرفه المتكلمون القدماء ذات، وذات مطلقة، والذات لا يمكن أن تكون موضوعا، الذات تند عن الموضوع وتتجاوزه، وإلا لما كانت ذاتا، سواء الذات الإلهية أم الذات الإنسانية، وفي كل مرة تتحول فيها الذات إلى موضوع يخطئ العلم، ويعم الخلط، فالحديث عن الله إذن خطأ في تصور موضوع العلم، وجعل الذات موضوعا في حين أن الموضوع ذات.
وتحتوي العبارة «موضوعه ذات الله» على تناقض داخلي؛ لأن الله هو المطلق، والعلم بطبيعة موضوعه ومنهجه وغايته تحويل للمطلق إلى نسبي؛ لأنه يخضع الظاهرة العامة إلى ظاهرة خاصة في الزمان والمكان، ويميز بينها وبين غيرها من الظواهر، العلم تحديد للظاهرة في واقعة معينة يمكن السيطرة عليها علميا وتجريبيا والتمييز بينها وبين غيرها من الوقائع، ولا يعمم بعد ذلك إلا بناء على مسلمات سابقة حول الاطراد، وهو ما يحتاج إلى برهان، والله، موضوع العلم، لا يبدو في وقائع، ولا يتمايز عن غيره في وقائع، فكيف يمكن للكلي أن يصير جزءا؟ وكيف يمكن لعقل الإنسان النسبي، بحياته، وإدراكه، ومصالحه وأهوائه، ورغباته وميوله، والموقف الإنساني كله أن يحيط بالذات المطلقة التي لا يعتريها الموت، ولا يحدها عقل أو إدراك، ولا تمسها الرغبات والميول، ولا تنتابها الدوافع والأهواء، ولا يسري عليها أي موقف إنساني؟ صحيح أن العقل يتميز بصفات الإدراك، وأن الحدس قادر على إدراك البديهيات، وأن أوليات العقل عامة، مطلقة وشاملة، ولكن العقل أيضا موجود في بيئة معينة، وصاحبه ذو مزاج معين، مرتبط بالأهواء والانفعالات، وتسيره المصالح الخاصة والعامة. إن صفة الإطلاق هذه كثيرا ما تخفي تحتها كثيرا من المواقف الإنسانية النسبية، ولكن الغرور الإنساني أو الرغبة في التميز على الآخرين، وإيثار السلطة وحب التسلط يدفع الإنسان إلى خارج موقفه وبيئته ادعاء وغرورا، حتى إذا استطاع الفيلسوف بقدرته على النظر، والرياضي بقدرته على التجريد، والمنطقي بقدرته على الصورية، فإن الله لا يمكن أن يدرك كفكرة أو كمفهوم أو كتصور؛ لأنه «إله حي» يسمع ويبصر ويتكلم ويريد، إله المؤمنين المحتاجين، وليس إله الفلاسفة والنظار، أما إدراكه بالوجدان وبالذوق، فذاك طريق الصوفية وليس طريق المتكلمين، مكانه في علوم التصوف وليس في علم أصول الدين، ولا يعني ذلك أن الله سر، كما هو الحال في المسيحية، لا يمكن معرفته إلا عن طريق الإيمان، فالله بالنسبة لنا هو كلامه، والكلام موجود في القرآن، والقرآن كتاب صح نقله، ويمكن فهمه وتفسيره بل وتأويله طبقا لشروط التأويل، وهو موجود أيضا كمبدأ في المعرفة كفكرة محددة، وفي الأخلاق كمثل أعلى أو مطلب يمكن إدراكه بالحدس والاستدلال من خلال عناصر الثبات في التجارب البشرية، وبتحليل الواقع الاجتماعي والتاريخي،
1
وهو أيضا المعنى الشائع للقول المشهور بأن العقول قاصرة عن إدراك ذات الله أو أنها محدودة أو عاجزة، فيكون العيب في نقص العقل وليس في طبيعة الموضوع، واتهام الذات بالجهل وليس بأن الموضوع مستحيل أو مجرد وهم، بادعاء معرفته.
2
لذلك احتاط القدماء مرتين؛ الأولى في عدم بحثهم ذات الله مباشرة، بل عن طريق غيرها مثل الجواهر والأعراض؛ أي الأمور العقلية العامة المستقلة عن ذات الله، يدركها العقل كعلم سابق على علم ذات الله، وهي التي أصبحت فيما بعد «المقدمات الضرورية» للعلم، خاصة مبحث الجوهر والعرض الذي بلغ أكثر من نصف العلم، وثلاثة أرباع المقدمات النظرية كلها بنظريتيها، العلم والوجود، في القرنين السابع والثامن،
3
صفحه نامشخص