من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرها
11
ومن ثم فالوجوب السمعي ليس وجوبا، بل هو مجرد ظن. والوجوب لا يكون إلا يقينا، ولا يقين إلا وأساسه العقل. إثبات معرفة «الله» لا تتم إلا بالنظر، والنظر هو الأصل، ومعرفة «الله» هو الفرع. ومن ثم يحتاج دليل الأشاعرة إلى إثبات الأصل أولا قبل إثبات الفرع. فإذا كانت معرفة «الله» تتوقف على إفادة النظر العلم، وأنه لا يمكن معرفة وجوب النظر سمعيا إلا بالنظر وهو سابق على السمع، فإن النظر يكون أول الواجبات. ولما كانت المعرفة بالدليل تتطلب النظر يكون الدليل تحصيل حاصل؛ لأنه يثبت النظر للناظر أو يكلف غير الناظر بالأمر ولا يثبت له النظر بالدليل. الوجوب إما للذات وهو تحصيل حاصل أو لغيره وهو تكليف لا يتم إلا بالنظر حتى يفهم الفهم أو بالطاعة العمياء دون فهم، وهو أيضا ما يتطلب الفهم من أجل الطاعة. كما أن المعرفة لا تحصل بالنظر ضرورة، بل قد تحصل بوسائل أخرى سواء كانت مؤدية إلى العلم أم مضادة لها مثل التعليم والتصفية. والدليل كله يقوم على افتراض النظر، في حين أن النظر منقوض لاحتمال الشك والظن والوهم والجهل والتقليد كمضادات للعلم. كما أن الدليل يقوم على مسلمة «ما لا يتم إلا به الواجب فهو واجب»، وهي مسلمة لا يقبلها الأصوليون؛ لأن الواجب تكليف وليس استدلالا، وإلا وصلنا بالواجبات إلى ما لا نهاية، ونرزح تحت عبء الواجبات.
12
كما أن هذا الدليل يدخل في مقدمته الأولى معرفة «الله»، وموضوع «الذات» لم يثبت بعد في هذه المرحلة من تأسيس نظرية العلم. يقفز على نظرية العلم ويستبق الموضوع، وبالتالي فهو دليل إيماني لأن المقدمة الأولى ما زالت إيمانية.
13
وقد رفض بعض القدماء هذا الدليل لأسباب، منها أن تكليف الغافل غير واجب، وصعوبة اطراد الإجماع؛ نظرا لتفرق المجتهدين، وعدم سلامة النقل، ووجود إجماع مناقض. كما لا يمنع أن تتم المعرفة بالنظر دون الإلهام أو التعليم أو التصفية. كما أن الدليل منقوض بعدم المعرفة وبالشك، وأن القول بأن «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.» حكم صوري عقلي وليس حكما شرعيا. وهي كلها حجج تخضع لضعف الحجج النقلية من النص أو من الإجماع.
وقد حاول بعض القدماء الجمع بين الوجوب السمعي والوجوب العقلي، ولكن ظلت الأولوية للوجوب السمعي. وتقتصر وظيفة العقل هنا على تبرير السمع، ويكون الموقف كله أقرب إلى الوجوب السمعي من الوجوب العقلي. لا يكون الوسط في المنتصف الحسابي، بل يكون أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر، كما هو الحال في الوسط في الحياة الاجتماعية، وفي المواقف التاريخية عندما يكون أقرب إلى الفعل أو إلى رد الفعل. إن قبول الوجوب العقلي والوجوب السمعي معا دون تفضيل أحدهما على الآخر يقضي على فاعلية كلا الحكمين، ويغفل طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها كل مجتمع وأي الحكمين أصلح له؛ لذلك يتبع هذا الجمع إنكار اعتبار النفع والضرر مقياسا للوجوب.
14
لقد أفاض علم الكلام المتأخر في مرحلة الركود والتوقف في تحليل هذا الموضوع دفاعا منه عن نفسه، وتأكيدا لموقف الأشاعرة القديم. وقولهم بالوجوب الشرعي تثبيتا للأمر الواقع في إنكار النظر حتى تستمر السلطة الدينية والسياسية في ترؤسها، وحتى تظل الجماهير العريضة في طاعتها، مع أنه لم يأخذ كل هذا الاهتمام من القدماء عندما كان الحوار ما زال مفتوحا بين الاتجاهات الفكرية المختلفة بين الوجوب العقلي والوجوب السمعي.
15 (2) الوجوب العقلي
صفحه نامشخص