از عقیده تا انقلاب (5): ایمان و عمل - امامت
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
ژانرها
66
فلما انقلبت الأشعرية عليهم استحوذت على اسم أهل السنة، وتحولت الفرقة الأولى التي كانت تقوم بدور أهل السنة إلى فرق المعارضة. كانت المعارضة الأولى، معارضة الفرق قبل انشقاق الأشعرية عليها، عقائدية فعلية، في حين كانت المعارضة الثانية بعد انشقاق الأشعري تهمة سياسية. وقد توضع الفرقة الناجية في النهاية كأوصاف، وكأنها جماعة أو حزب أو قوة وليس فقط كعقائد، وتكون بشخصها سلوكا يحتذى به. وكما بدأت الأمة بوحدة الوحي الأولى ثم تشعبت إلى أهل الأهواء وإلى الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وهي ليست منه، فإنها ترجع كلها إلى الفرقة الناجية؛ فهي المفسرة الصحيحة للوحي الأولى، والمتحدث الرسمي باسمه.
67
بل إن تصنيف الفرق والفصل بين أهل الأهواء الذين ينتسبون إلى الإسلام، وبين فرق تنتسب إلى الإسلام وهي ليست منه، حكم قيمة على فرق تاريخية من الصعب إصداره، بل ولا يحق للمتكلم إصداره لأنه يحتاج إلى مقياس للحكم، ومقياس حكمه آراؤه ومذاهبه حتى ولو كانت اعتقادات الفرقة الناجية، خاصة وأن ما يطلق عليه اسم الفرق الخارجة على الإسلام هي نفسها الفرق التي أطلق عليها أهل الأهواء، ولكن أكثر غلوا وتطرفا.
68
وهل يجوز إصدار حكم شرعي مثل الخروج على الأمة من منظور عقائدي؟ أليست الأمة وحدة عمل قبل أن تكون وحدة نظر؟ إن الحكم على باقي الفرق بالانحراف عن النمط حكم صوري خالص يغفل الوظيفة الاجتماعية التي أدتها هذه الفرق كرد فعل على الأوضاع الاجتماعية، كما هو الحال في رد الفعل الاعتزالي لإثبات التنزيه ضد التأليه والتجسيم، وفي إثبات خلق الأفعال ضد الجبرية، وكرد فعل الخوارج ضد التوسط بين الحق والباطل، والفصل بين الإيمان والعمل، بل إن رد الفعل هذا هو الذي حفظ لوحدة الفكر مسارها وشواهدها، وإن كانت معلنة من فرق مختلفة، وهو الذي حفظ التوازن بين تعدد المذاهب. هو شاهد تاريخي على استحالة ضياع الوحدة الفكرية للأمة وتوازنها، وعدم إسقاطها على جانب دون جانب حتى لا تكون أمة عوراء.
69
إن توجيه الوقائع بأفكار مسبقة مناف للبحث التاريخي الموضوعي، خاصة لو كانت أفكارا خاطئة وليست أوليات بديهية أو أفكارا صحيحة، وهي في هذه الحالة حالة في الشعور يتجه بها الشعور نحو موضوعه دون توجيه زائد فكري أو عملي. وحتى لو كان التوجيه الأيديولوجي ممكنا فإنه يحتاج إلى منطق لضبطه واستعماله، والاطمئنان أولا إلى أن الأيديولوجية علمية مطابقة للواقع وليست منافية له. والوحي الصحيح تاريخيا أيديولوجية علمية توجه الشعور طبقا لطبيعته؛ فالحياة موقف، والتاريخ رؤية ولو لا شعورية؛ وبالتالي يحمي الوحي الشعور من مخاطر ثلاث؛ الحياد الأقرب إلى التعايش والتكسب بالعلم والكتب المقررة، وهو ما يفيد تراث السلطة ما دام الفكر قد تحول إلى كسب، والعمل إلى مصلحة. الحياد الذي يخفي هوى صاحبه، والذي يكون إما مع تراث السلطة أو تراث المعارضة، الانتصار إما لتراث السلطة أو لتراث المعارضة، وهو ما حدث في تدوين تاريخ الفرق. لا بد إذن من إثبات أن عقائد الفرقة الناجية أولا هي معيار الفكر ومثاله، وأنها تمثل لوحدة الفكر، وأن فكرها مطابق للواقع، وأنها أكثر صدقا من أفكار الفرق. وما العمل لو ادعت كل فرقة أنها الفرقة الناجية، وتنتهي الأمة إلى التشتت وإلى التكفير المتبادل، ويقضى على وحدة الأمة ووحدة فكرها إلى الأبد؟ وقد حدث ذلك بالفعل في تاريخ الفرق، وترسب في وعينا القومي، وكانت له آثار سلبية على وحدة الأمة. وما الضامن لصحة الفكرة الموجهة تاريخيا؟ ماذا يحدث لو كانت الفكرة الموجهة غير صحيحة تاريخيا؟ عندئذ يتحول التاريخ كله إلى خطأ؛ لأن البحث يقوم على افتراض خاطئ؛ فالتاريخ الموجه قائم أساسا على افتراض نظري مصدره الخبر؛ أي التاريخ. فالتاريخ يحكم نفسه، ويؤرخ ذاته. وماذا يحدث لو اختارت كل فرقة مذهبها كموجه للتاريخ، وأصبح لدينا عديد من التواريخ الموجهة، فيضيع النمط الفكري المعياري ويحل الهوى؟
والأخطر من ذلك كله في التاريخ الموجه هو إدانة التاريخ والتطور والزمان كميدان خلق وإبداع، واتهام الفكر وزعزعة الثقة بالعقل، واعتبار قوى الشر في العالم أكثر حسما من قوى الخير؛ ومن ثم لا يقاومها إلا الإيمان بالله والإذعان للسلطان، نظرة تشاؤمية تؤدي في النهاية إلى التخدير التام. يقوم التاريخ الموجه على أن هذا المسار من الوحدة إلى الكثرة مسار مرضي، وليس مسارا طبيعيا؛ وبالتالي لا بد من تصحيحه في أية حركة إصلاحية. فبعد أن وجدت الجماعة الأولى ممثلة لوحدة الفكر ووحدة الفهم، تنشأ ظروف جديدة ومواقف إنسانية متعددة تحدث منها تفسيرات جديدة تعبر إما عن حق وعلم، أو هوى وظن، حتى يبعد العهد بالوحدة الأولى، ثم تتفتت هذه الوحدة إلى اتجاهات تنتهي إما إلى العلمانية الخالصة ممثلة هذا التعدد الجديد، أو إلى السلفية الخالصة ممثلة هذه الوحدة الأولى؛ ثم تنشأ دعوتان؛ الأولى تريد الابتعاد عن الوحدة الأولى، وتتكيف حسب تطور الزمان والتاريخ؛ وأخرى سلفية تود العودة إلى الوحدة الأولى متفادية الكثرة ولاغية للتشعب؛ ثم تصبح الجماعة حيرى بين هاتين الحركتين، ماضيها ومستقبلها، روحها وبدنها، تاريخها وحاضرها. وكلاهما مستحيل عملا وواقعا؛ لأن الوحدة الأولى في صورتها القديمة أصبحت أقل اتساعا من تشعب الواقع، وأضعف من قواه المتضاربة. ومع ذلك تستطيع أن تحوي تشعب الواقع لو استطاعت أن تتجدد، وأن تحتوي على هذا التشعب في باطنها. وإذا تم ذلك باسم التشعب وباسم الجديد على حساب الوحدة الأولى، فإنه سرعان ما يتم حصاره بأخطبوط هذه الوحدة حتى يتم ابتلاعه كلية داخلها. هذا العصر الأول الذي كانت فيه الوحدة قبل التشتت هو العصر الذهبي، وما تلاه انحراف وسقوط، سقوط تاريخي وليس سقوطا شخصيا. وليس هذا في الحقيقة وصفا لتعدد الفكر، بل هو حكم على التاريخ وإدانة له باسم العصر الذهبي؛ مما يؤدي إلى الخروج على الواقع بعد الحكم عليه بالمروق. وهو يدل على يأس من التقدم إحساسا بأن الأمة لا يمكنها الوصول إلى ما كانت عليه أولا.
70
صفحه نامشخص