از عقیده تا انقلاب (3): عدالت
من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل
ژانرها
ومع ذلك فقد قيلت عدة تحديدات للكسب لا تفيد شيئا، يرفضها العقل والحس، وتناقضها التجربة والمشاهدة. قيل مثلا في تعريف الكسب. (1) «ما حله مع القدرة عليه». وهو لا يفيد شيئا ولا يعني شيئا. وإن عنى شيئا فإنه لا بد أن يؤدي إما إلى الجبر وإما إلى الحرية. فإن أدى إلى الحرية تثبت الفاعلية والقدرة والتأثير والاختيار.
108 (2) «ما وقع بقدرة محدثه». لأن ما وقع بقدرة محدثه قد يقع إما اختيارا وإما كسبا، ولا يعني وقوعه كسبا بالضرورة. ولما كان الكسب مجهولا فإنه لا بد وأن يقع اختيارا. وهذا التعريف يثبت القدرة ولا ينفيها. فضلا عن أنه يقتضي أن يكون للفاعل قدرة وتأثير. وما دام للإنسان قدرة وتأثير فإنه يكون صاحب فعله. وإن كان الكسب لنا ومتعلقا بغيرنا فكذلك القدرة، وهذا يثبت القدرة ولا ينفيها.
109 (3) «ما وقع باختيار الفاعل». وهذا إثبات للفعل القصدي وللحرية لا نفيا. واقتضى أن فعل الساهي لا يكون كسبا ولا يدل على تدخل أية إرادة داخلية فيه لأنه فعل سقط عنه الاختيار وغاب منه القصد. ويكون الفعل المتولد الناتج عن الفعل الأول فعلا للإنسان؛ لأنه وقع باختياره وليس بتدخل قدرة خارجية سببت وقوعه أو منعت من وقوعه. وهذا تعريف يوهم بأن الاختيار يتعلق بالفاعل في حين أن الكسب لا يتعلق بالفاعل. وكيف يتعلق بالفاعل ولا فاعل في الشاهد يدل على الكسب؟
110 (4) «التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية»، وهذا ليس تعريفا بقدر ما هو وصف واقعة، أي إنه يشير إلى سلوك ولا يعطي معنى عقليا. والسلوك الاختياري واقع، والاضطراري واقع. والسلوك الاضطراري له مسبباته وهي الموانع التي تمنع الفعل من أن يقع اختيارا. والموانع إما بدنية أو نفسية أو اجتماعية. والتفرقة بين الحركتين لا تثبت إلا في الاختيار، ولا تثبت في الكسب، ولا تثبت شيئا في الكسب لأن كليهما بفعل خارجي سواء في الفعل المباشر أو في الفعل المتولد؛ فالتفرقة لا تثبت شيئا في الكسب بل لا تثبت إلا حدوث الأفعال بقدرة الإنسان.
111 (5) «وقوع هذه الحركات المختلفة المتباينة سواء أفعال الجوارح أم أفعال القلوب»، ولا يثبت هذا التعريف أكثر من حدوث الأفعال لا كسبها، وحدوث الأفعال واقع بالقصد والإرادة وتباينها تباين القصد والإرادة، وأجزاء الفعل لا تكتسب، فالفعل تحقيق للقصد، والقصد باعث على الفعل.
112 (2-2) حجج الكسب
ويعتمد الكسب على عدة حجج كلها خاطئة. وكلها تثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، وأن هناك قوة أخرى مسيطرة عليها، فهي حجج تشكك في قدرات الإنسان على الفعل وتجعله مجرد مستقبل لقدرة أخرى تتحكم في أفعال وهي صاحبتها. مهمة هذه الحجج إثبات عجز الإنسان وزحزحته عن مكانه وانتزاع مسئوليته منه؛ فهي حجج لتدمير الإنسان والقضاء على أفعاله مثل: (1)
الفعل اللاإرادي أو اللاقصدي.
113
إن وقوع الأفعال بخلاف القصد ليس دليلا على تدخل إرادة خارجية، وأن الإنسان ليس هو الفاعل، فكثيرا ما قصد الإنسان إلى فعل شيء وحدث فعل آخر مخالف لقصده. وهذه هي طبيعة الفعل الحر وليس فعل الجبر أو الكسب. قد يرجع وقوع الفعل على خلاف القصد إلى عدم المعرفة بالفعل وغايته، فيقصد بالفعل إلى غاية أخرى كمن يجهل أن الكفر قبيح وأن الإيمان حسن ويريد أن يسعد بالكفر وأن يمرض بالإيمان. والفعل غير المروي لا يدل على وقوع الفعل من فاعله، بل على وقوع فعل غير مقصود، سواء كان ذلك في الأفعال الداخلية أم الخارجية. وهل الإنسان لا يفعل إلا وهو في غفلة أو سهو أو عن غير قصد أو جهل وإن كان كل ذلك دليلا على وجود فاعل قاصد عالم قادر مخترع لها، وكأن أفعال الإنسان لا تحدث إلا عن فوضى وعبثية، وأن ذلك يثبت وجود فاعل متقن ومنظم وحكيم لها، وكأن إثبات الله لا يتم إلا بتدمير الإنسان؟ ولما كانت الغاية هي البحث في الفعل الإنساني، فإن هذه الغاية يتم تدميرها منذ البداية باكتشاف عناصر في الفعل الإنساني لتثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، أي إن الغاية الحقيقية هي الغاية العكسية. ليست الغاية إثبات فعل الإنسان له، بل نزع فعل الإنسان منه. ثم تتحول هذه الأفعال الاستثنائية وتصبح هي القاعدة، وتصبح كل أفعال الإنسان أفعالا لا قصدية، وتختفي الأفعال القصدية مع أنها هي الأساس والأفعال اللاقصدية هي الاستثناء؛ فالمتكلم واقف للإنسان بالمرصاد، متربص به كي يعصف بإرادته وقدرته وفعله الحر. وهذا الفاعل الآخر الذي يعزو إليه المتكلم أفعال الإنسان ليس إرادة خارجية إنسانية أخرى أو دوافع خوف أو مصلحة أو رغبة أو عقبة، بل يجعله المتكلم أقدر فاعل وأشمل إرادة وهي قدرة الله وإرادته، فينتقل من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر، ويجعل الله داخلا في كل شيء حتى لو قصد الإنسان أكل خيار فأكل كوز ذرة! أو إذا قصد الإنسان الذهاب إلى العمل فذهب إلى المتجر، وكأن المقاصد لا تتغير ولا تتشابك، وكأن الإنسان ليس مجموعة من المقاصد المتداخلة. وهل تثبت إرادة الله وقدرته من الأفعال اللاقصدية؟ وأيهما أكرم وأشرف، إثبات الله من الطبيعي أم من الشاذ؟ من القاعدة أم من الاستثناء؟ بتأكيد الإنسان أم بتدميره؟ وكيف يثبت الله من الفوضى والعبث والضعف والمرض ولا يثبت من الإحكام والحكمة والقوة والثبات؟ أليس ذلك في نهاية الأمر تبريرا للشر وإثباتا للفوضى وتأكيدا على الضعف والعجز والوهن بدلا من إثبات ذلك كله نقصا وعارضا طارئا؟ أليس ذلك أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل؟ أليس ذلك سوداوية و«ماسوشية» تقوم على تعذيب النفس وكأن إثبات الكمال لا يتم إلا بعد الإقرار بالنقص، وأن إثبات البراءة لا يتم إلا بعد الاتهام بالخطيئة كما هو الحال في عقائد النصرانية؟
صفحه نامشخص