وعلى هذا النحو من تعاون السواد وحكومة السواد، أو قل على هذا النحو من استغلال السياسة لعواطف السواد سفكت دماء النصارى في الشرق والغرب.
وامض بعد ذلك في تاريخ النصرانية، فسترى أنها صبرت وصابرت وجاهدت حتى كان لها النصر، وأصبحت في القرن الرابع ديانة الدولة الرومانية، فلم تظفر بهذه المكانة السياسية حتى استغلتها فأسرفت في استغلالها، وسفكت دماء الأتينيين، وهدمت معابدهم وصادرت أموالهم كما سفك الوثنيون دماء النصارى وهدموا بيعهم وصادروا أموالهم. ومنذ ذلك الوقت كانت محالفة بين الوثنية والفلسفة، لا لشيء إلا لأن هذه الفلسفة قديمة كالوثنية، مخالفة لطبيعة المسيحية كما أن الوثنية مخالفة لهذه الطبيعة. فأنت ترى أن الفلسفة كانت عدو الوثنية ولقيت منها ألوان الاضطهاد. وأنت ترى أن الفلسفة هي التي أعانت على إعداد الشعوب القديمة للمسيحية وترقية العقل القديم والمباعدة بينه وبين الوثنية، ولكنك ترى أن المسيحية لم تكد تظفر بالسلطان حتى أنكرت العدو والصديق، ونصبت الحرب للوثنية والفلسفة معا. وأنت تعلم أن الأمر انتهى بالفلسفة إلى أن التمست لها دارا لا يتسلط فيها المسيح، فهاجرت إلى الفرس واستظلت بلواء الساسانين. وعندنا أن المسيحية لو لم تظفر بسلطانها السياسي لما خاصمت الفلسفة ولما تورطت فيما تورطت فيه من الجحود وإنكار الجميل. فهي مدينة بكثير للأفلاطونية القديمة، وهي مدينة بكثير للأفلاطونية الجديدة. ويخيل إلينا أن طبيعة المسيحية الخالصة، وطبيعة الأفلاطونية الخالصة، لم يكن بينهما من الخلاف ما ينتهي بهما إلى الخصومة والحرب، لولا أن السياسة قد دخلت بينهما فأفسدت الأمر عليهما جميعا.
5
بل في الأمر ما هو أشد غرابة من هذا كله، فقد وقعت نفس هذه الخصومة بين الديانات السماوية السامية نفسها وعلى النحو الذي وقعت به بين هذه الديانات وبين الديانات الوثنية القديمة. نريد أن الديانات اليهودية اعتبرت المسيح مجددا مبتدعا فأنكرته، ونصبت له الحرب على نفس النحو الذي أنكر الأتينيون به سقراط ونصبوا له الحرب. ونريد أن نقول إن المسيحية بعد انتصارها قد اعتبرت النبي مجددا فأنكرته ونصبت له ولدينه الحرب. وكل ما بين الإسلام والمسيحية من الفرق من هذه الناحية، هو أن المسيحية لبثت حينا طويلا لا تعتز بالسلطان السياسي، فطال اضطهادها ولقيت ما لقيت من بلاء، وأن الإسلام لم يلبث بعيدا عن السلطان السياسي إلا أعواما ريثما تمت الهجرة، فما كاد يظفر بهذا السلطان حتى دافع عن نفسه فناهض الوثنية واليهودية والنصرانية، وكان النصر له آخر الأمر.
فالخصومة في حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين، ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولا هي بين دين ودين، وإنما هي أعم من ذلك وأيسر، هي بين القديم والجديد، هي بين السكون والحركة، هي بين الجمود والتطور. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن يلقى سقراط والمسيح ومحمد - عليهما السلام - اضطهادا من نوع واحد؟ وكيف تستطيع أن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة وأجيال الناس وطبائع جنسياتهم؟ كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعا، إذا لم تردها إلى أصل واحد، وهو الخصومة بين القديم والجديد، أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد؟ وما الذي كان بعد أن تم النصر للإسلام في ناحية من أنحاء الأرض، وانقسم العالم القديم بينه وبين النصرانية، فاستأثر الإسلام بالشرق واستأثرت المسيحية بالغرب.
نحب أن تفكر في الأمر تفكيرا علميا مجردا من الهوى مبرأ من الغرض، لا يتأثر بالعصبية الجنسية ولا الدينية، فسترى أن الأمر قد سار في الشرق والغرب على أسلوب واحد، فلم يكد الإسلام ينتصر ويستقر في الأرض، ويظفر بالسلطان السياسي ويفرغ من الحرب والفتوح، حتى كره ملوكه الجديد، وأكثروا الحرص على القديم، واستغلوا ميل العامة إلى القديم وحرصهم عليه، واتخذوا هذا الاستغلال وسيلة إلى الحكم والتسلط، فأنكروا كل جديد وحاربوه. وعلى هذه النحو سارت المسيحية في أوروبا. وكان لأصحاب الدينين صرعى في الشرق والغرب، وكان العلم موضع الاضطهاد في هذين القطرين من الأرض. ولكن هنا وقفة يجب أن نقفها لنكون منصفين، فالحق أن ليس في طبيعة الإسلام ولا في طبيعة المسيحية ما يدعو إلى الاضطهاد ولا إلى محاربة الجديد ولا إلى مناهضة حرية الرأي. ولك أن تقرأ القرآن والأناجيل وتمعن في القراءة، ولك أن تبحث وتمعن في البحث، فلن تجد نصا أو شبه نص ينكر التجديد ويدعو إلى مناهضته، أو يأخذ العقول بالجمود أو يحظر عليها حرية الرأي قليلا أو كثيرا، ليس في الإسلام ولا في المسيحية إذن ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي، لم يكن في الوثنية اليونانية أو الرومانية ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي أيضا. ومع ذلك فقد أثم الوثنيون وأثم اليهود والنصارى والمسلمون، واعتدوا جميعا على حرية الرأي اعتداء يختلف قوة وضعفا.
أليس مصدر هذا في حقيقة الأمر إنما هو استغلال السياسة لعواطف السواد؟ بلى، ولولا أن السياسة تريد أن تتخذ ما تستطيع من الطرق والوسائل لتتسلط على نفوس الناس وتتملق عواطف السواد، لما قتل الأتينيون سقراط، ولما حاول اليهود صلب المسيح، وما سفك الرومان دماء اليهود والنصارى، ولما أخرجت قريش محمدا وأصحابه من ديارهم، ولما عذب ابن رشد و«جليلي»، ولما حرق من حرق وشرد من شرد من العلماء والمفكرين.
وشيء آخر لا بد من إثباته لنكون منصفين، وهو أن تبعات المسيحيين أثقل من تبعات المسلمين في مناهضة العلم ومحاربة حرية الرأي، فأنت تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في البلاد الإسلامية، وأنت تستطيع أن تلاحظ أنهم قليلون جدا، وأن تلاحظ أيضا أنهم لم يلقوا من الأذى إلا قليلا. ولكن تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في ظل المسيحية، فستراهم كثيرين جدا، وسترى أنهم لقوا من الأذى ألوانا منكرة أخفها السجن، وأقساها الموت والعذاب بين هذين اللونين. ومصدر هذا أن الإسلام حر طلق ليس له ما للمسيحية من «الإكليروس» والكنيسة المنظمة، وأن الإسلام حر طلق أيضا لا يأخذ العقل الإنساني بما لا يطيق، ولا يكرهه على الإيمان بما لا يفهم، ولا يضع أمامه الأسرار التي يجب أن يقبلها دون رؤية أو تفكير. ومصدر ذلك أيضا أن الإسلام حر طلق لم يجعل للحكومة على الناس سبيلا فيما يفكرون ويرون، وإنما اتخذ هذه القاعدة السمحة أساسا لسياسته بإزاء حرية الرأي:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
وهو إذن لم يمنح السلطة السياسية على الناس حق الموت والحياة، وإنما بين حدود الله تبيينا وعرف الأفراد حقوقهم وواجباتهم، ورسم للحكومة في هذا الوجه طريقا لا تعدوه حتى تأثم. فليس للحكومة المسلمة أن تعذب مسلما أو تؤذيه وهو يعلن إيمانه بالله ورسوله، وإنما موقف الحكومة المسلمة موقف الإسلام نفسه لا تتحرك إلا حين يتعرض الإسلام للخطر. هو موقف دفاع لا موقف هجوم؛ ومصدر ذلك أيضا أن الإسلام من أشد الديانات نصرا للتجديد ونعيا على الذين يسرفون في نصر القديم، وكثيرة جدا في القرآن هذه الآيات التي تسخر من المشركين الذين عاصروا النبي أو لم يعاصروه؛ لأنهم أبوا الإجابة إلى دين الله حرصا على القديم وكراهة أن يعبدوا ما لم يكن يعبد آباؤهم.
صفحه نامشخص