ذلك لأن هذه الخطبة التي تناولت استكشاف الفرات كانت تتناول موضوعا أفهمه، وأستطيع أن أستفيد منه فائدة ما، ولم يكن هذا الموضوع ضئيلا ولا قليل الخطر، وإنما كان عظيم الخطر جدا، وحسبك أن هذه المدينة التي استكشفت وهي مدينة «دورا» كانت من أعمال «تدمر»، وكانت ملتقى لحضارات ثلاث، كلها تعنينا، وكلها نستطيع أن نفهمها ونستطيع أن نبحث عنها، ونخرج من البحث بشيء من الفائدة. كانت ملتقى الحضارة السامية والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية، وقد استكشفت هذه المدينة أثناء الحرب، ولكن استكشافها والبحث عنها لم يتما إلا في ديسمبر الماضي. فإذا الآثار اليونانية والسامية والرومانية متجاورة يفسر بعضها بعضا، ويضيف بعضها إلى بعض، وإذا نقوش سامية ويونانية ولاتينية توجد في المعابد وعلى الجدران، وإذا الفن اليوناني والسامي يمتزجان ويؤثر كلاهما في صاحبه، وإذا الساميون يتعلمون اليونانية، ويصطنعون الفن اليوناني، ويتسمون بالأسماء اليونانية، ويؤدون العبادة لآلهتهم السامية في ضروب ليست بالسامية الخالصة، ولا باليونانية الخالصة، وإنما هي مزيج مما ألف الجنسان، وإذا الساميون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئا من رقة الفن اليوناني، وإذا اليونانيون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئا من غلظة الفن السامي. وكان أجمل ما عرض فأعجب الناس، صورة فوتوغرافية لتمثال الزهرة إلهة الحب؛ فإذا هي صورة سامية، وإذا الإلهة تمثل امرأة شرقية تمتاز بما كان يمتاز به مثال الجمال الشرقي في هذه القرون الأولى للتاريخ المسيحي من الضخامة والفخامة وكثرة الحلي والميل إلى شيء من النعومة والإسراف في الترف، يخالف ما ألف الناس في الفن اليوناني من صور «أفروديت» إلهة الحب والجمال التي كانت - على أنها مصدر الفتنة - لا تخلو من قوة وشهامة توشك أن تكون حربية، وإذا هذه المدينة الصغيرة التي لم يتم درسها بعد تمثل ما كان من الجهاد بين الإمبراطورية الرومانية وبين الإمبراطورية التدمرية، فقد نرى أن الساميين واليونانيين قد وجد بينهم اختلاط شديد، بل امتزاج شديد فكان بينهم الأصهار والتزاوج، وأثر هذا الامتزاج في فنيهم فأخذ من جديد يوجد فن ليس هو بالسامي القديم، ولا باليوناني القديم، ولكن الآثار الرومانية منفصلة، أو تكاد تكون منفصلة، انفصالا تاما عن الآثار اليونانية السامية.
أعجبت بهذه المحاضرة؛ لأني ألم بشيء من التاريخ اليوناني، وبشيء من التاريخ الروماني، وبشيء من الجهاد بين «تدمر» وروما، ولأن اسم تدمر يذكرني الزباء، وما روي عنها في أمثال العرب من هذه الأساطير اللذيذة التي تفيض حكمة، وتملؤها الأمثال السائرة، ولكني لما سمعت خطبة الأستاذ «كابار» الذي رافق ملكة بلجيكا في مصر، لم أجد ما كنت أنتظر أن أجد من اللذة. وبينما كان الناس يعجبون ويصفقون كنت أنا هادئا مطمئنا، ولعلى أعرف سبب هذا الهدوء والاطمئنان؛ فأنا أولا أجهل التاريخ المصري القديم، ولا أعرف منه أو لا أكاد أعرف منه شيئا. فإذا سمعت أخبار توت عنخ آمون أو غيره من فراعنة مصر، لم تحدث هذه الأخبار في نفسي هذه الحركة العلمية التي تحدثها أخبار اليونان والرومان والعرب، فتمكنني من أن أصل شيئا بشيء، وأنتقل من شيء إلى شيء، أو تمكنني من أن أستفيد فائدة علمية ما، ومثل هذا يستطيع أن يقوله الذين يعلمون تاريخ مصر القديم ويجهلون تاريخ الرومان واليونان والعرب، وإن كان هؤلاء الناس لا يكادون يوجدون. فإذا وجد مصري يجهل تاريخ مصر، فقد لا يوجد أجنبي يجهل تاريخ اليونان والرومان. فإذا أضاف إليهما تاريخ مصر استطاع أن يعجب بمحضارة الأستاذ «كيمون» وبمحاضرة الأستاذ «كابار». فإذا سألت عن مصدر هذا النقص الذي يجده المصري في نفسه حين يشعر بحهل تاريخ مصر، وحين يسمع محاضرة في تاريخ مصر فلا يلذ لها كما يلذ لها الإنجليزي والفرنسي، فالجواب يسير، وهو تقصير الحكومة المصرية أو وزارة المعارف المصرية في نشر التاريخ المصري. فلو أن التاريخ المصري القديم يدرس في مصر كما ينبغي، لكان لكل مصري متعلم حظ من الإعجاب بما استكشف اللورد كارنارفون، ولكن ماذا نقول وفي مصر أساتذة في الأدب والحقوق والفلسفة والطب يجهلون تاريخ مصر، ولا يعرفون من أمر توت عنخ آمون إلا ما يقرءون في الصحف، وكثير منهم لا يقرءون ما تنشره الصحف. يجب أن نحمد الله على صدور الدستور، فلن يغفر البرلمان في المستقبل لوزارة المعارف المصرية مثل هذه الجرائم.
وهناك سبب آخر حال بيني وبين الإعجاب بخطبة الأستاذ «كابار»، وهو أن الأستاذ لم يقل شيئا جديدا أكثر مما نشرته «التيمس» و«السياسة»، فكان من المعقول وقد قرأت هذا وذاك ألا يشتد إعجابي به حين يعاد، وهل أستطيع أن أضيف سببا ثالثا أعترف بأنه لا يليق بعضو في مؤتمر علمي، وهو أن الأستاذ «كابار» كان شديد الميل في محاضرته إلى الإنجليز، وكان يسرف في الثناء عليهم وعلى ما بذلوا من جهود، وما أدوا إلى مصر وإلى العلم من خدمة، وكنت أحب أن تذكر مصر بشيء من الخير، وإن لم تكن أهلا له في هذا الموضوع؛ لأنها لم تعمل شيئا في استكشاف مقبرة توت عنخ آمون، ومهما يكن من شيء فقد خرجت عن طور العلماء، وضاق صدري بهذا الثناء الكثير يهدى إلى الإنجليز. كنت متأثرا بالسياسة أكثر مما كنت متأثرا بالعلم.
كان إعجاب الناس شديدا جدا بهذه الصور الفوتوغرافية التي عرضها الأستاذ «كابار» ولا سيما السيدات، فقد كانت هذه الصور، وصور الجواهر بنوع خاص، تفتنهن فتنة شديدة فيصفقن ويتهامسن ويجتهدن في أن يملأن أعينهن بهذه الصور التي لن تلبث أن تلهم الصاغة وأصحاب الفن، فتعرض جواهر على مثالها في الأسواق والمحال التجارية، ولعل كثيرا من هؤلاء السيدات كن يتحدثن إلى أنفسهن باليوم الذي يستطعن فيه أن يتخذن من الحلي والآنية ما يشبه الحلي والآنية التي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون.
كانت هذه الجلسة جلسة مصر، أعجب فيها الناس إعجابا شديدا بمصر القديمة، وذكروا فيها مصر الحديثة، وكانت هذه الجلسة آخر الجلسات العلمية للمؤتمر. فنستطيع أن نقول إن هذا المؤتمر ابتدئ بذكر مصر في تحية الملكة، وختم بذكر مصر في خطبة الأستاذ «كابار».
ذهبنا بعد ذلك إلى قصر البلدية فتناولنا هناك الشاي، وكنت أحب أن أصف لك ما في هذا القصر من آيات الفن، ولكني مع الأسف قاصر عن هذا كل القصور. ثم كان يوم السبت فانقسم قسمين: أما الصباح، فخصص لزيارة دار المحفوظات «الدفترخانة»، وأما المساء، فخصص للتفرق في أنحاء بلجيكا القريبة من بروكسل، والتي تمثل فائدة تاريخية ما. أريد أن أذكر دار المحفوظات هذه، وأريد أن أقارن بينها وبين دار المحفوظات في مصر، ولكن أصول المقارنة تنقصني؛ لأني أجهل نظام الدفترخانة المصرية، ولا أعلم من أمرها إلا أن زيارتها مستحيلة على العلماء والباحثين إلا بعد عناء ومشقة وإذن من وزير المالية قلما يظفر به من يطمع فيه، فالدفترخانة المصرية ديوان من دواوين الحكومة تنتفع به الحكومة وحدها في أعمالها الرسمية، ولا ينتفع به العلماء والمؤرخون. بل لست أدري علام تشتمل الدفترخانة المصرية؟ وهل فيها حقا ما يفيد المؤرخ إذا أراد أن يبحث عما قبل العصر الحديث الذي نعيش فيه؟ وإلى أي عصر من عصور مصر التاريخية يرجع أقدم ما في الدفترخانة المصرية من المحفوظات؟ لا أعلم من هذا شيئا، كما أني لا أعلم شيئا من النظام الذي يصطنع في الدفترخانة المصرية، ولا مما يتخذ فيها من وسائل الاحتياط لوقاية الأوراق والمحفوظات القديمة، ولا شيئا من النظام الذي يتخذ لتسجيل هذه المحفوظات، واتخاذ فهارس وأثبات تسهل البحث على من يريد أن ينتفع بها. أجهل إذن مقدار المحفوظات المصرية وقيمتها ونظم حمايتها والانتفاع بها.
ولكني أعلم أن قسما واحدا من أقسام الدفترخانة البلجيكية يشتمل على أكثر من 50000 دفتر من دفاتر الحساب والقرارات التي كانت تتخذها الحكومات المختلفة منذ القرن الثالث عشر إلى الآن.
وأعلم أن هذه الدفترخانة البلجيكية كغيرها من دور المحفوظات في أوروبا مباحة للعلماء والباحثين، قد اتخذت فيها كل الوسائل التي تمكن العلماء من البحث، وتسهل عليهم أسبابه، فاتخذت فيها الأثبات المتقنة والفهارس البديعة، واختص بكل قسم من أقسامها نفر لا أقول من الموظفين، وإنما أقول من العلماء النابغين يقومون على حفظه وتنظيمه والاستفادة منه، وتسهيل الاستفادة على من أرادها سواء أكان بلجيكيا أم أجنبيا، ولكن في دار المحفوظات البلجيكية شيئا أعجبت به حقا، وأتمنى على الحكومة المصرية أن توجد لنا مثله في مصر؛ لأنه يفيد فائدة لا تقدر سواء في ذلك الدفترخانة ودور الكتب المختلفة، وجدت في دار المحفوظات البلجيكية معملا واسعا فيه كثير من العمال يشتغلون في أشياء مختلفة غريبة، يشتغلون مثلا في تنظيف الأوراق القديمة التي بعد بها العهد وأفسدها الزمان فطمست الأحرف التي فيها، ويشتغلون بتقوية الأوراق التي بعد بها العهد وأفسدها الزمان فوهت ورثت حتى أصبحت لا تحتمل لمس الأيدي، ويشتغلون بما يشبه هذا مما يمكن الاستفادة بكل ورقة قديمة مخطوطة مهما تكن أعراض البلى التي أصابتها، ولقد رأينا العمال يشتغلون في ذلك، رأيناهم قد أخذوا أوراقا قذرة لا تكاد تقرأ، بل لا تقرأ، فما زالوا بها في غسل وتنظيف حتى زال عنها الدنس، وبدت أحرفها جلية واضحة للقارئ، ورأيناهم يتخذون أوراقا بالية لا تكاد تمس فما يزالون بها يسلطون عليها بعض مواد الكيمياء حتى تقوى وتثبت، وتستطيع أن تتناولها وتقلبها كما تقلب ورقة صنعت أمس.
أليس مثل هذا المعمل مفيدا في مصر؟ أليس الأستاذ لطفي بك السيد محتاجا إلى مثله في دار الكتب المصرية؟
شيء آخر أعجبني؛ هو استفادة دار المحفوظات البلجيكية استفادة تجارية بما يوجد فيها من المحفوظات. ففيها نماذج لا تكاد تحصى لأختام الملوك والأمراء والقواد والإمبراطرة والرؤساء على اختلافهم منذ القرون الوسطى. فهي تنتفع بهذه النماذج فتتخذها على المعدن أو على الجبس أو على غير ذلك وتعرضها للبيع، وأؤكد لك أن تهافت الناس عليها شديد، ولا سيما العلماء وأصحاب الفن والآثار الذين يريدون أن يدرسوا هذه النماذج كل من وجهته الخاصة. فهم لا يطلبون الدفاتر والأوراق، وهم إن استطاعوا أن ينظروا إلى هذه الدفاتر والأوراق لا يستطيعون أن ينقلوها، ولا أن يستعيروها، ولا أن يخرجوها من دارها فضلا عن بلجيكا، بينما هذه النماذج المصنوعة مباحة لهم يصنعون بها ما يشاءون، وهذه النماذج ليست سهلة ولا يسيرة، فلا بد من أن تتخذ بطريقة علمية.
صفحه نامشخص