قد يصيب وقد يخطئ، وأن «إنستين»
enstein
قد يحق وقد يبطل. كل هذا ممكن، ولكن هناك شيئا لا أحب أن يحتمل أوزار هذا الإمكان وهذا التناقض وهذا التردد، وهو القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية، إنا لنحسن الإحسان كله إذا رفعنا الدين ونصوصه عن اضطراب العلم وتناقضه، فماذا يرى العلماء؟
باريس في 27 أبريل سنة 1923 (5) العلم والثروة
في مصر أغنياء كثيرون، ولكن معظمهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لأنهم لا يفقهون الثروة ولا يقدرونها، ولا يفهمون ما ينبغي أن توجد هذه الثروة من صلة بينهم وبين مواطنيهم وهم أغنياء، وكل حظهم من ثروتهم أن يأكلوا كثيرا، ويستمتعوا بلذات مادية لا تتجاوز الحس إلى القلب، أو إلى العقل. ثروتهم مقصورة على أجسامهم، فإن وصلت إلى نفوسهم فهي لا تمس منها إلا موضع الضعف والغرور، تمس الفخر والتيه، تمس العجب والخيلاء، لكنها لا تمس الذكاء، ولا تمس عاطفة الرحمة بالبائس، ولا تمس عاطفة الإعانة على الخير.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لا ينتفعون بثروتهم أحياء، ولا ينتفع الناس بثروتهم بعد موتهم. هم لا يملكون الثروة، وإنما يحملونها على ظهورهم لينقلوهم من جيل إلى جيل، يحملون الثروة عن آبائهم لينقلوها إلى أبنائهم ليعبروا بها النهر، وكثيرا ما تنوء بهم هذه الثروة فتغرق ويغرقون معها، ولا يظفر أبناؤهم منها إلا بالتعس والبؤس وسوء الحال.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم في الحق معوزون!
وفي أوروبا أغنياء، ولكنهم أبعد الناس عن الفقر، وأدناهم إلى الغنى حقا؛ لأنهم يفهمون الثروة، ويحسنون الانتفاع بها في حياتهم الخاصة، وفي حياة أممهم ومدنهم وقراهم وأسرهم، فهم يتمتعون بالثروة حقا، يجنون منها لذة الجسم، ولذة القلب، ولذة العقل. بل يجنون منها اللذة الصحيحة في الحياة وتخليد الاسم بعد الموت. ينفعون وينتفعون، ليسوا عالة على قومهم، وليس قومهم عليهم عالة. إنما هم يفهمون أن الثروة أداة من أدوات المنفعة العامة المشتركة التي ينبغي أن يستمتع بها الناس جميعا، كل على القدر الذي يتاح له. هم يملكون الثروة ويحسنون التصرف فيها، لا يشترون بها الطعام والشرب واللباس فحسب، وإنما يشترون بها أيضا الحب والعطف والإجلال وحسن الأحدوثة في الحياة وبعد الموت. ليسوا أنعاما ينقلون أثقال الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون. ليسوا عبيدا للمادة، وإنما هم سادتها، يملكونها ويسخرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه.
اقرأ في جريدة «الطان» أن رجلا أهدى إلى جامعة باريس عشرة ملايين، لإقامة حي خاص يسكنه الطلبة الذين يدرسون في هذه الجامعة، بحيث يتاح لهؤلاء الطلبة أن يعيشوا في منازل صحيحة يجدون فيها ما يمكنهم من الدرس النافع بين ضروب الراحة والنعيم، واقرأ في جريدة «الطان» أن امرأة أوصت بثروتها كلها لجامعة باريس، وثروتها تكاد تبلغ الخمسة عشر مليونا، واقرأ في جريدة «الطان» أن هذه المرأة قبل أن تموت أهدت إلى كثير من الجامعات مقادير مختلفة من المال، وأنها أهدت مرة إلى جامعة باريس مقدارا من المال تنفقه في طبع الرسائل التي يقدمها الطلبة الفقراء لنيل الدكتوراه، وأهدت مرة أخرى إلى جامعة باريس ما يمكنها من إنشاء درس لأدب القرن الثامن عشر وتاريخه، وأن امرأة أخرى أهدت إلى جامعة باريس ثروة تغل عليها 35000 فرنك في السنة؛ لترقية البحث عن «الراديوم» في الطب، وأن رجلا ترك لها نصف مليون، وأن أستاذا في مدرسة ثانوية ترك ثروته التي تبلغ 76408 فرنكات لإعانة طلبة التاريخ الحديث، وأن امرأة تركت مليونا لإعانة المؤرخين على بحثهم التاريخي. واقرأ في الصحف المختلفة أن دور التمثيل والموسيقى ومنازل اللهو واللعب قد خصصت جزءا من دخلها في يوم من الأيام لإعانة العلماء على تأسيس المعامل العلمية المختلفة. بل اقرأ ما هو أغرب من هذا؛ اقرأ تعاون الفقراء والمعوزين وافتنانهم في جمع المقادير المختلفة من المال لإعانة العلماء على تأسيس المعامل وتكميلها، واقرأ في الوقت نفسه مقالات طويلة مرة ملؤها السخط والغضب والغيظ؛ لأن العلماء يشكون فقر المعامل ونقصها، ويستعينون الجمهور فلا يعينهم ولا يمنحهم من المال ما ينبغي أن يمنحهم. هذا الجود وهذا البذل اللذان أشرت إليهما في أول هذه الكلمة لا يرضيان ولا يقنعان، ومع ذلك ففقر العلم في فرنسا إضافي جدا؛ لأن الدولة والأفراد والجماعات يخصونه بعناية عظمى، وآية ذلك ما وصلت إليه فرنسا من الرقي العلمي الذي لا يزال مطمح أمم كثيرة في أوروبا بعد.
كتبت في غير هذا المقال منذ أشهر أن العلم مهما اشتد غناه وعظمت ثروته فهو فقير محتاج إلى المعونة؛ لأنه يحيا، وحاجة من عاش لا تنقضي، فسيظل العلماء يشكون وسيظل الناس يبذلون. هذا في فرنسا، أما في مصر فالثروة كثيرة ضخمة تنوء الأغنياء، ولسنا نستطيع أن نذكر فقر العلم أو حاجته إلى المعونة؛ لأننا لا نستطيع أن نذكر العلم في مصر، فليس لمصر علم، وإنما هي في علمها عالة على أوروبا وأمريكا تستعير منهما كل شيء، وهي لا تحسن الاستعارة، ولا تستطيع أن تستعير منهما ما هي في حاجة إليه أو جزءا موفورا مما هي في حاجة إليه؛ لأنها لا تجد من المال ما يمكنها من أن تستعير هذا المقدار العلمي الذي هي محتاجة إليه لتعيش، أما إذا احتاجت إلى السيارات والدراجات والحلي وفاخر اللباس وبديع الأداة والآنية، فما أكثر المال وما أيسر البذل! هنا تظهر ثروة الأغنياء ويظهر سخاؤهم فتكثر في مصر هذه الأدوات المختلفة التي يفيد قليلها ويضر كثيرها.
صفحه نامشخص