ثم هم يجدون فيها التمثيل كأرقى ما يكون التمثيل. يجدون هذا كله في صفحات قليلة جدا تقرأ في نصف ساعة أو فيما دون ذلك؛ لأن الوضوح والدقة وانتظام التفكير هي الخصال التي يمتاز بها هذا الأديب العظيم.
وقد يكون من الغريب أن يذكر بول فاليري ويذكر معه الوضوح، ولكن الوضوح مع ذلك من أخص صفاته بشرط أن يقرأه القادرون على فهمه، والذين يستطيعون أن يرقوا إلى حيث يعيش من عالم الشعر والفلسفة. وأنت تستطيع أن تفهم قصة سميراميس كما تصورها بول فاليري وكما صورها، ولكنك تجد مشقة غير قليلة في فهم ما تنطق به سميراميس من الكلام أحيانا. ولو أن هذه الملكة الخرافية وجدت اليوم وسمعت ما يجريه على لسانها بول فاليري، لما ترددت في أن تعود إلى صورتها الأولى فتأخذ شكل الحمامة المطوقة، وتطير فتبعد في الطيران، فهو لا ينطقها بأقل من هذه الفلسفة العليا التي كان يجريها أفلاطون على لسان أصحابه وهم يحاورون سقراط.
نحن في قصر الملكة بمدينة بابل، وفي فناء هذا القصر في يوم من الأيام المشهودة، قد عادت فيه الملكة منتصرة ظافرة قد أذلت الممالك وأسرت الملوك، والقصر يتهيأ لاستقبالها، وما هي إلا أن يسمع ضجيج وعجيج وأصوات فيها الأمر والنهي، ثم يقبل الجند وهم يدفعون الأسرى أمامهم دفعا، ثم تقبل الملكة على عربة يجرها ثمانية من الملوك الأسرى قد شدوا إليها بسلاسل من ذهب. فإذا بلغت فناء القصر، أقبل الجند فحلوا هؤلاء الملوك، وألقوهم على درج العرش، ثم ألقوا غيرهم من الأسرى على الأرض بين العربة والعرش، بحيث لا تمشي الملكة إلا على أجسام الأسارى. حتى إذا ارتقت إلى العرش أقبل وصائفها فخلعن عنها لمة الحرب وقدمن إليها لباس السلم وزينة الملك، ثم تتجلى لشعبها في جمالها الرائع المهيب، ويدخل الجند وهم يحملون تماثيل الملوك الأسارى فيقدمونها إلى الكاهن الذي يأمر بتحطيمها، حتى إذا عملت فيها الفئوس رفع بعض هؤلاء الملوك رأسه، ونظر إلى ذلك محنقا مغيظا، فتهم الملكة أن تقرعه بالصولجان، ولكنها تلمح في وجهه جمالا فتهبط إليه وتأخذ بشعره وتجذبه جذبا عنيفا حتى تقيمه، فتنظر في وجهه فتطيل النظر ثم تمتحن قامته وجسمه امتحانا دقيقا. ويرى النظارة أنه قد أعجبها، وإذا هي تستبقيه وترسل غيره من الملوك إلى الموت.
ويلقى الستار، ولكنه لا يلقى ليستريح النظارة، وإنما يلقى ليظل النظارة في حال بين النشاط والهدوء كأنهم يرون شيئا وكأنهم لا يرون؛ فهناك أشياء تقع من خلف هذا الستار الرقيق يحسها النظارة، ولكنهم لا يتبينونها. فإذا رفع الستار عن الفصل الثاني فنحن في غرفة من غرفات الملكة قد أقيم فيها سرير رحب نثرت عليه الوسائد نثرا وقد استلقى عليه العاشقان كأنما أجهدا إجهادا، ولكن الملكة مفتونة لا ترضى، فهي لا تريح ولا تستريح، تداعب صاحبها وتلاعبه، فإذا أظهر الفتور ألقت عليه من الأعطار وقدمت إليه من الطعام والشراب ما يرد إليه نشاطه. وإذا هو قد أحس الكبرياء وشعر كأنه يملكها وكأن سلطانه عليها لا حد له. وإذا هو ينظر إليها شزرا، ويرمقها في شيء من الازدراء، ويأخذها بما تؤخذ به الأمة، فلا تكاد الملكة تحس منه ذلك حتى تثوب إلى نفسه، وإلى ملكها، وإلى قوتها، فتنحرف عنه بعض الشيء، ويطمعه ذلك فيها، ولكنها تنفره وتستجمع قوتها، وتنهض كأنها الحية، ثم تلقي عليه نظرة مخيفة، ثم تضرب على أداة قريبة منها فترفع الأستار ويقبل الجند من كل مكان، ويؤخذ الملك الأسير، ويرد إلى ذلته الأولى، وترسل الملكة إليه سهما لا يخطئه. ثم يلقى الستار، ولا يلقى ليستريح النظارة أيضا، ولكن ليروا هذه الملكة وقد خرجت من أنوثتها وعادت إلى بطولتها. استمتعت بالحب حتى رضيت أو حتى رأت أن ليس إلى الرضى من الحب سبيل. ثم دفعت فريستها إلى الموت، ثم هي تصعد إلى أعلى القصر هناك حيث المنجمون ينظرون في السماء ويذكرون الآلهة ويسبحون بحمد الملكة، فإذا أحسوا مقدمها أغرقوا في الثناء عليها، وأسرفوا في حمدها حتى تضيق بهم، فتزجرهم ثم تطردهم؛ لأنهم تركوها تشعر بأنها قد آجرتهم على هذا الثناء. وهي لا تكاد تبلغ أعلى القصر وتقصي عنها المنجمين حتى تحس أنها لم تخرج من أنوثتها وحدها، بل خرجت من ملكها أيضا! ارتقت إلى أعلى ما يستطيع الإنسان أن يبلغ من الارتفاع، فبعدت عن الدنيا وبعدت الدنيا عنها، وصغرت الحياة في نفسها، وطمعت في شيء أكبر من الحياة. وهي تستقبل الفجر متحدثة بما يملأ نفسها من ضيق بما كانت فيه، وأمل فيما لم تبلغ بعد. ثم تشرق الشمس فتغمر الكون بنورها الوضاء، وإذا الملكة قد تبينت ما كانت تريد، فهي لا تريد إلا أن تتصل بالشمس وأن تتصل الشمس بها، إلا أن تمتزج بالآلهة فتصبح منهم وتعيش معهم لأنها أكبر من الناس، ومن حياة الناس. وهي تريد أن تخلص من جسمها، وأن تصبح نفسا خالصة، وهي تتحدث بذلك إلى الشمس وهي تصعد إلى المذبح وتنام كما تنام الضحايا، وإذا جسمها يتبخر قليلا حتى يذوب وينحل عن حمامة مطوقة تطير إلى حيث لا يعرف لها مكان ولا غاية.
وأنت تخطئ إن ظننت أن الشاعر قد حكى لك هذا كله حكاية أو صوره لك في حوار، إنما هي خواطر منثورة وصور يتبع بعضها بعضا. وأنت تخطئ إن ظننت أني لخصت لك القصة، فأنا لم ألخصها، وإنما مسختها مسخا، ولم أعرض عليك منها إلا ما يمكن عرضه، فأكبر ما في القصة يحس ولكنه لا ينقل. هو رقص وموسيقى وغناء وحركات موقعة.
وأنت تعلم أن سميراميس قد ألهمت الكتاب منذ العصور القديمة فصولا رائعة، وألهمت الكتاب المحدثين منذ القرن السابع عشر قصصا تمثيلية كثيرة وقصصا موسيقية أيضا. ولعل أجمل هذه القصص كلها وأروعها قصة فولتير التي مثلت نحو منتصف القرن الثامن عشر في أواخر سنة 1748 بالضبط. فأعجب بها الناس ولا نزال نقرؤها فنعجب بها، ولكن الموازنة بين قصة فولتير وقصة بول فاليري تنتهي إلى تقديم الشاعر الحديث المعاصر من غير شك. ففولتير لم يخرج في قصته عن تقليد اليونان على شدة جحوده لفضل اليونان فيما كتب لهذه القصة من مقدمة، فهو يصور لنا سميراميس وقد قتلت زوجها وهمت بقتل ابنها واستسلمت لرجل طاغية، ثم أدركها الندم فاستعانت ببطل من أبطال الجند تريد أن تخلص به من شريكها في الإثم، وهي تريد أن تتخذ هذا البطل زوجا لها، وهي تجمع أشراف الدولة لتشهد على هذا الزواج، ولكن ظل زوجها القتيل يخرج من قبره فيحول بينها وبين هذا الإثم، فليس البطل الذي تريد أن تتزوجه إلا ابنها قد رد إليها.
وتنتهي قصة فولتير بأن يقتل الابن أمه ويسترد ملك أبيه ويقتل الطاغية، وهذا التلخيص الموجز يكفي ليبين لك أن فولتير ما كان ليكتب قصته هذه لو لم يقرأ تمثيل اليونان. فنحن نرى فيها أثر سوفوكل. أليس أوديب قد تزوج أمه؟ ونحن نرى فيها أثر إيسكولوس، أليس أورست قد قتل أمه؟ ثم نحن نرى فيها أثر أيسكولوس أيضا حين يظهر ظل الملك القتيل فيتحدث إلى الأحياء. أليس ظل دارا الملك قد ظهر فتحدث إلى الأحياء في قصة الفرس؟ ففولتير مقلد ليس غير، قد وضع الأسماء الكلدانية مكان الأسماء اليونانية. أما بول فاليري فمبتكر في كل شيء، لم يسبق إلى فكرته هذه، ولا إلى هذه الصورة التي صور فيها سميراميس. هو مبتكر في القصة، وهو مبتكر فيما خلق حولها من الجو، ثم هو مبتكر بعد هذا وذاك فيما أجرى على لسانها من هذه الفلسفة الأفلاطونية العليا.
ما أجدر أدباءنا أن يعنوا بمثل هذه الآثار العليا، وأن يسلكوا في إنتاجهم الأدبي مثل هذه الطرق التي يسلكها الكتاب المجيدون!
سجين
ليس هذا العنوان مطابقا ولا مقاربا للعنوان الفرنسي الذي وضع لهذه القصة، فلو أني أردت الترجمة الحرفية لجعلت عنوانها: «كان هناك سجين»، ولكني آثرت هذا العنوان اليسير؛ لأن العنوان الفرنسي يدل على معنى خاص يأتي من وضع الفعل بغير فاعله، وليس إلى ترجمة هذا المعنى الخاص من سبيل.
صفحه نامشخص