إذا رفع الستار عن الفصل الأول من القصة، فنحن عند الباب الخارجي لإحدى المحطات الفرنسية في إقليم من أقاليم الألب، وأمامنا طبيب قرية من القرى هو الدكتور برباليه ومعه زوجه، ثم رجل آخر طبيب أيضا هو الدكتور كنوك. وواضح جدا أن الدكتور كنوك قد أقبل من باريس، وأن الدكتور برباليه قد جاء يستقبله. ولا نكاد نسمعهما يتحدثان حتى نفهم أن الطبيب الباريسي قد أقبل يمارس الطب في القرية، وهو قد اشترى من صاحبه مكانه وجاء ليتسلم منه هذا المكان وليتسلم منه المرضى أيضا. والدكتور برباليه وامرأته يلقيان صاحبهما في كثير من الابتهاج والتلطف أو من تكلف الابتهاج والتلطف. يريدان أن يصورا له الصفقة التي اشتراها على أنها صفقة رابحة. وهما لا يكتفيان بذلك، يريدان أن يتما معه صفقة أخرى، يريدان أن يبيعاه سيارتهما. وأنت تنظر إلى هذه السيارة فإذا هي من الطراز العتيق الذي طال عليه الأمد، ولكن الزوجين يمدحانها ويثنيان عليها ويسرفان في ذلك. والطبيب الباريسي يسمع لهما في غير معرفة وفي غير إنكار. وإنما يخلي بينهما وبين الكلام . وهما يدعوانه إلى ركوب السيارة وإلى أن يضع فيها أمتعته، فهي واسعة رحبة لا تضيق بهم ولا تضيق بالمتاع، وهي سريعة وهي خفيفة وهي متينة في الوقت نفسه. وانظر إليهم وقد أخذوا أماكنهم من السيارة والسائق يبذل جهدا عنيفا ليدفع السيارة إلى الحركة، وهي تعصيه وتأبى عليه، والزوجان يلهيان الطبيب عن ذلك بالحديث الكثير وبالإسراف في الثناء، ولكن السيارة قد أخذت تنطلق في كثير من التعثر وفي كثير من الضوضاء. وهم ماضون في أحاديثهم عن السيارة حينا وعن مناظر الطبيعة حينا آخر، وعن الجو مرة ثالثة. ولكن ماذا؟ هذه السيارة قد وقفت وأبت أن تتقدم، ولا بد من أن ينزل السائق ومن أن يعالج أدواتها ألوانا من العلاج، ولا يرى صاحب السيارة وزوجه بأسا بهذا، فمنظر الطبيعة جميل وليس ما يمنعهم من الاستمتاع به لحظة من اللحظات.
وما يزالون في هذه الأحاديث حتى يضطر الطبيب الباريسي إلى أن يظهر فطنته لهذه المداورة وإعراضه عن هذه السيارة وشكه في أنه قد أتم مع زميله صفقة رابحة حقا. فهو يلقي أسئلة متصلة، منها ما يمس القرية، ومنها ما يمس القرى المجاورة، ومنها ما يمس السكان ودينهم ومذهبهم السياسي وحياتهم الاجتماعية وما فيها من العيوب والآفات، ومنها ما يمس الثروة. والطبيب وامرأته دهشان لهذه الأسئلة. أما نحن فنفهم حق الفهم أن صاحبنا يريد أن يتعرف استعداد القرية للحياة الطبية كما يتصورها، وكما يريدها، وقد ظهر له أن القرية بعيدة كل البعد عن هذا الاستعداد، فأهلها أصحاء وقليل بينهم المريض. والمرضى من أهلها لا يحفلون بالمرض ولا يهتمون له ولا يعنون بالعلاج؛ لأنهم بخلاء حراص على المال، وإذن فصفقة صاحبنا خاسرة.
وأكثر من هذا أن أهل هذه القرية إذا جادت أنفسهم بالمال وسمحت لهم باستشارة الطبيب ومعالجة ما يصيبهم من العلل، فهم لا يؤدون إلى الطبيب أجره إلا في آخر سبتمبر من كل عام، ونحن في أول أكتوبر، ومعنى ذلك أن صاحبنا سيعمل عاما كاملا دون أن يصيب أجرا قليلا أو كثيرا. وهو يصارح صاحبه بأنه قد خدعه، ويصارحه أيضا بأنه يريد أن يخدعه ويعبث به حين يزين له شراء هذه السيارة العتيقة. على أنه لا يضيق بهذا الخداع ولا يرفض هذه المعركة، وإنما يقبلها ويقبل سكان القرية كما هم على بخلهم الشديد وامتناعهم على الطب، ويعلن أنه سيغير هذا كله تغييرا. ثم يتحدث في لهجة ظريفة مضحكة حقا عن درسه للطب واتخاذه له صناعة، فينبئنا بأنه لم يدرس الطب إلا مصادفة. نال الشهادة الثانوية في الآداب وعجز عن إتمام الدرس، فعمل بائعا في بعض الثغور. وإنه ليتنزه ذات يوم قريبا من الساحل وإذا هو يقرأ إعلانا من إحدى السفن الراسية في الثغور أنها في حاجة إلى طبيب، وأنها لا تشترط فيه أن يكون قد ظفر بدرجة الدكتوراه. فيتقدم إلى هذه السفينة لا يخدع أصحابها ولا يكذب عليهم، وإنما ينبئهم بأنه ليس طبيبا متخرجا في الطب ولكن له بالطب علما. وهم يقبلونه على ذلك، وهو لم يكذب عليهم؛ فقد تعود منذ طفولته أن يقرأ الإعلانات الطبية فحفظ صيغا واصطلاحات، وألم ببعض الأوليات وعرف كيف يعالج الصداع أو الإمساك.
وها هو ذا طبيب في السفينة يسمى الدكتور وليس بدكتور، ولكنه اشترط ذلك على أصحاب السفينة فقبلوه. وهذه السفينة قد أبحرت في طريقها إلى الهند، وهو يعالج أصحابها وركابها وينفذ فيهم رأيه، وهو أن كل إنسان مريض بطبعه، وأن الصحة وهم من الأوهام. وقد أصبحوا جميعا مرضى كما أصبحوا جميعا أصحاء، فهم يتناوبون العمل وهم يتناوبون العلاج. وينفق صاحبنا في هذه الصناعة أعواما حتى إذا قضى منها وطرا وجمع منها مالا لا بأس به، ترك السفينة وعمل في التجارة، وأي تجارة، تجارة الفول السوداني. ولكنه لا ينسى الطب ولا يستطيع أن يسلوه، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يكون طبيبا في وطنه إلا إذا ظفر بالدكتوراه. فهو يفرغ لها وهو يظفر بها منذ أشهر قصار، وهو يبحث عن مكان هادئ يبدأ فيه عمله الطبي الجديد حريصا قبل كل شيء على أن يجرب نظريته، وهي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى، وأن الصحة ليست شيئا موهوبا أو لم تبق شيئا موهوبا، وإنما هي شيء يلتمس التماسا ويلتمس عند الأطباء. وهو يتحدث بهذا كله إلى صاحبيه حديثا تظهر فيه السخرية ويظهر فيه شيء يشبه الازدراء للناس ولما اتفقوا عليه من القواعد والأصول. وصاحباه دهشان أشد الدهش لما يسمعان منكران له أشد الإنكار، ولكن سائق السيارة قد استيأس من سيارته وهو يرى أن لا سبيل إلى انطلاقها إلا إذا دفعت دفعا، فيتم الاتفاق على أن يقوم صاحب السيارة مقام السائق، وعلى أن يتكلف السائق دفع السيارة من وراء، وينتهي الفصل على هذا المنظر المضحك: صاحب السيارة يجلس في مجلس السائق، وامرأته والدكتور كنوك قد أخذا مكانهما منها، والسائق يدفعها إلى أمام دفعا.
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في القرية وقد سافر الطبيب القديم، وهم الطبيب الجديد أن يبدأ عمله، وهو يبدأ عمله أحسن بدء ممكن، فهو يدعو إليه منادي القرية ويتفق معه في حوار بديع على أن ينادي في الناس أن الدكتور كنوك يستقبل المرضى بغير أجر صباح الاثنين من كل أسبوع. وهو لا يكاد يفرغ من حوار المنادي حتى يقنعه بأنه مريض وبأنه في حاجة إلى علاج طويل دقيق. وقد هم المنادي أن يسرع إلى بيته لينام، ولكن الطبيب يطمئنه فلا يطمئن، فيقنعه بأن من شكا مثل علته لا ينبغي له أن يبدأ النوم بين مشرق الشمس ومغربها، وإنما ينبغي أن يظل قائما نهاره حتى إذا أقبل الليل أوى إلى مضجعه فلم يقم إلا بإذن الطبيب. ثم تتتابع المناظر سراعا في هذا الفصل، وكل واحد منها رائع ممتع حقا. فلا يخرج المنادي حتى يأتي المعلم وكان الطبيب قد دعاه، وإذا الحديث بينهما غريب حقا، ظاهره النصح الذي لا شك فيه، وباطنه المكر الذي لا مزيد عليه، ونتيجته الإقناع الذي ليس بعده إقناع.
فالطبيب مقتنع بوجوب التعاون بينه وبين المعلم، وهو يظهر الثقة بأن هذا التعاون قد كان قائما خصبا بين المعلم والطبيب السابق. فإذا عرف من المعلم أن هذا التعاون لم يكن موجودا وأنه لم يخطر له على بال، أنكر ذلك ودهش له، ثم جد في إقناع المعلم بوجوب هذا التعاون، وأخذ يبينه وينظمه له تنظيما. فالناس يجهلون المرض ويطمئنون إلى الصحة ويغفلون عن هذه العلل المخبوءة لهم في أجسامهم ومن حولهم، ولا بد من تنبيههم إليها ودلالتهم عليها بمحاضرات تلقى فيهم من حين إلى حين تبين لهم المكروب وأنواعه وآثاره ومكره وأخطاره. تبين لهم التيفود كيف تستخفي الدهر الطويل، وهي في أثناء ذلك تبيض وتفرخ وتملأ الجسم وتنتشر من حوله فتمس الأجسام الأخرى. وتبين لهم أن الصحة كلمة لا تدل على شيء، ويجب أن تلغى من المعاجم إلغاء، وأن من لم يكن عليلا فهو حامل لجراثيم العلة. وما يزال بالمعلم حتى يقنعه ويروعه معا، فيخرج المعلم مؤمنا بنظرية الطبيب وجلا أشد الوجل لأنه حامل لجراثيم علة من العلل ما في ذلك شك.
ولا يكاد يخرج المعلم حتى يدخل الصيدلي على موعد من الطبيب أيضا. ولن يكون حديثه مع الصيدلي أقل روعة ولا أضعف إقناعا من حديثه مع المعلم. فهو واثق بأن الصيدلي يربح خمسة وعشرين ألفا من الفرنكات في العام. فإذا أنبأه الصيدلي بأنه لا يبلغ عشرة آلاف دهش أشد الدهش، وأنكر أشد الإنكار، وبين أن هذا ناشئ من التقصير في حماية الناس من المرض وصيانتهم من الأدواء. وما يزال بالصيدلي حتى يقنعه بأن العام لن يمضي حتى يكون ربحه موفورا ملائما لما ينبغي له ولما يجب عليه من العمل، ولما ينبغي للناس من اتقاء المرض، ولما يجب على الطبيب والصيدلي من مقاومة العدو المشترك وهو الداء. ولا يخرج الصيدلي حتى يكون نداء المنادي قد أحدث آثاره، فبدأ الناس يقبلون على هذه العيادة المجانية، وكان أسرعهم إليها أكثرهم ثروة.
فهذه امرأة من أهل الريف قد أقبلت، ولا يكاد الطبيب يتحدث إليها حتى يعرف ثروتها، وإذا هي ثروة لا بأس بها. ولولا أن العيادة مجانية لما أقبلت المرأة تستشير الطبيب فيما تجد من فتور. وهو لا يشير عليها إلا بعد أن يقنعها أشد الإقناع، معتمدا في ذلك على الرسم والمشاهدة بأنها مريضة حقا، وبأنها قد سقطت أثناء طفولتها عن أعلى سلم فانحرف بعض أعضائها عن مكانه. وهذا مرض خطير يحتاج إلى علاج طويل دقيق، وهو يتكلف مالا كثيرا، وهو بعد ذلك يخيرها بين الصحة الغالية وبين الموت الذي لا يكلف إلا الإهمال وادخار المال. وقد كانت المرأة تتردد أول الأمر، ولكن الطبيب قد صور لها الموت تصويرا، والموت بشع، فلا بد من اتقائه مهما يكلفها ذلك من المال. وقد جاءت ماشية من دارها، ولكنها ستعود في عربة؛ لأن المشي يؤذيها أشد الإيذاء، ولا بد لها إذا وصلت إلى دارها من أن تنام وتعرض عن الطعام وتنتظر عيادة الطبيب في كل يوم.
ولا تكاد تخرج هذه حتى تأتي امرأة أخرى من أرستقراطية الريف، لم تجئ مستشيرة وإنما جاءت مهنئة للطبيب بحبه للفقراء وعطفه عليهم، وجاءت لتضرب المثل للفقراء ولتسهل عليهم زيارة الطبيب، ولا سيما حين لا تكلفهم هذه الزيارة مالا. ومع ذلك فلا تكاد تهم بالخروج حتى تسأل الطبيب عن شيء يحميها من الأرق، فلا يكاد الطبيب يتحدث إليها حتى يتبين لها أنها مصابة بمرض خطير في المخ، وأن هذا المرض يحتاج إلى علاج طويل دقيق متصل غال. فأما المال فهي لا تحفل به، ولكن أين الطبيب الذي يواظب على عيادتها في كل يوم؟ وصاحبنا يتمنع ويتأبى ثم يتعطف ويرضى، وتخرج السيدة على أن تذهب إلى قصرها لتنام وتعرض عن الطعام وتنتظر عيادة الطبيب.
وهؤلاء الفقراء من الفلاحين قد أقبلوا وأقبل بينهم شابان عابثان يهزآن بالطب والأطباء، وقد دخلا على الطبيب ليضحكا منه ومن علمه، ولكنهما لا يخرجان إلا وقد ملئت قلوبهما فرقا ورعبا. فأما أحدهما فيائس من الحياة، وأما الآخر فخائف أن يمتحنه الطبيب فيضطره إلى اليأس.
صفحه نامشخص