Milad Mujtama
ميلاد مجتمع
ناشر
دار الفكر-الجزائر / دار الفكر دمشق
شماره نسخه
الثالثة
سال انتشار
١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦م
محل انتشار
سورية
ژانرها
مالك بن نبي
ميلاد مجتمع
شبكة العلاقات الاجتماعية
ترجمة عبد الصبور شاهين
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر الجزائر
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
ميلاد مجتمع
الجزء الأول
شبكة العلاقات الاجتماعية
ترجمة عبد الصبور شاهين
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر الجزائر
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 3
الطبعة الثالثة ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادبية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
مقدمة
هذه الدراسة جزء من العمل الذي نقوم بنشره تحت العنوان العام: (ميلاد مجتمع).
ولكن لها بالنسبة إلى هذا العمل صفة خاصة، حبذت لدينا نشرها منفصلة تحت عنوان فرعي هو: (شبكة العلاقات الاجتماعية).
وهي تشمل في الواقع بمقتضى هذا العنوان وبصورة منهجية، المفاهيم النظرية التي ترجع إليها العناصر التاريخية الخاصة بـ (ميلاد مجتمع).
وقد بدا لنا من الضروري أن نفسر أولًا هذه الظاهرة عامة، قبل أن نعرضها بالنسبة للمجتمع الإسلامي خاصة.
وهذا يسمح لنا أن نحدد في هذه الدراسة، شأن ما يحدث في مدخل أية دراسة، المصطلحات المستخدمة، وخاصة مفهوم لفظة (مجتمع) ذاتها. ونعتقد أننا بهذا قد استجبنا لرغبة القارئ العربي والمسلم، في الوقت الذي يحاول فيه أن يدخل إلى مسرح التاريخ، بعد أن تخطى أزمة تاريخه الكبرى، الأزمة التي نعرفها، والتي تتجلى في سباته المتطاول خلال القرون الأخيرة. فهو يحاول أن يؤدي نشاطه المشترك من جديد كما سبق أن فعل يوم كان ممسكًا بمشعل الحضارة.
إننا نريد أن نعطي للقارئ العربي والمسلم فرصة التأمل في هذه المرحلة من تاريخ المجتمع، حين يولد، أو حين ينهض، وذلك بأن نريه أن النهضة الحقة تقع في ظاهرة اجتماعية عبر عنها النبي ﷺ في حديثه المشهور: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
القاهرة في ١١ من نيسان (إبريل) عام ١٩٦٢ م
م. ب. ن
1 / 6
أوليّات
لم تبلغ العلوم الإنسانية بعد درجة تحديد مصطلحاتها عامة، كما حدث للعلوم الطبيعية، فإن في علم الاجتماع بعض المفاهيم التي تبدو أحيانًا غير محددة في ذهن القارئ في البلاد الإسلامية، حيث نجد أن اللغات المحلية لا تتمثل تمامًا المصطلحات الحديثة.
وقد يؤدي تعقد المصطلحات إلى مناقشات أقرب إلى الطابع الأدبي منها إلى منطق العلم، كتلك المناقشة التي ثارت وتثور غالبًا حول مصطلحي حضارة، ومدنية في البلاد العربية. بيد أن هذه المناقشات لا تعين على جلاء الموضوع، بل تجعله أكثر صعوبة.
فمن المفيد إذن أن ننشئ أولًا الإطار النظري لموضوعنا (ميلاد مجتمع) قبل أن نعالجه من زاويته التاريخية. وهكذا نجد من المناسب أن نذكر في مستهل دراستنا تنوع الظواهر الاجتماعية، التي تنطبق عليها لفظة مجتمع، فنذكر أولًا الفرق الجوهري بين (المجتمع الطبيعي) أو البدائي، وهو الذي لم يعدّل، بطريقة مُحَسَّة، المعالم التي تجدد شخصيته منذ كان، وبين المجتمع التاريخي الذي ولد في ظروف أولية معينة؛ ولكنه عدّل من بعد، صفاته الجذرية ابتداء من هذه الحالة الأولية، طبقًا لقانون تطوره.
وـ[النوع الأول]ـ يحقق نموذج المجتمع الساكن ذي المعالم الثابتة، كالمجتمعات الموجودة في مستعمرة النمل أو النحل. والقبيلة الإفريقية في عصر ما قبل الاستعمار، والقبيلة العربية في العصر الجاهلي تمثلان هذا النموذج.
1 / 7
أما ـ[النوع الثاني]ـ فإنه يحقق النموذج المتحرك، أعني المجتمع الذي يخضع لقانون التغيير، الذي يعدل معالمه هن جذورها.
ومع ذلك فهذا النوع ليس وحيد الصورة، فهو يتنوع من جهة طريقة نشاته، ومن جهة شكل بنائه.
والواقع أن المجتمع التاريخي يمكن أن ينشأ بطريقتين:
فهو إما أن يتركب ابتداء من مواد جديدة، أي من مواد لم تتعرض لأي تغيير تاريخي سابق، فهو يستنفد هذه المواد، في الحالة التي تكون عليها في الطبيعة، وبهذه الطريقة نشأت المجتمعات التاريخية الأولى، إبان الثورة الزراعية في العمر الحجري الجديد.
ولكن هذا النوع قد يتكون أيضًا من عناصر استخدمت في مجتمع تاريخي سابق، تحولت عناصره المكونة له، بسبب تقادمه أو انبساط رقعته، إلى عناصر مهيأة للاستخدام في مجتمع جديد.
وقد تكون الاستعارة في صورة هجرة تنزع هذه العناصر من المجتمع الأم، كالهجرة التي كونت المجتمع الأمريكي الحالي، وهو المجتمع الذي تكون من عناصر قدمها له مجتمع متحضر في حالة توسعه، هو المجتمع الأوربي في القرن السادس عشر، وكالهجرة التي كونت مجتمع الأسكيمو الذي انتزِعت عناصره المكونة له من المجتمعات المغولية الصينية في الشرق الأقصى.
وقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في جيل بنائه كثيرًا من المجتمعات التي اختفت، مثل المجتمع الغالي بعد معركة (أليزيا Alesia) والمجتمع القرطاجني Carthaginoise بعد معركة (زاما)، والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على (يومي) .. الخ.
1 / 8
بيد أنه مهما تكن طريقة البناء فإن ظهور مجتمع تاريخي ليس حدثًا عرضيًا، بل هو نتيجة عملية تغيير مطرَدة يشترك فيها المجتمع الذي يستعير، والآخر الذي يقدم العارية، هذه العملية تتم طبقًا لتخطيط نظري عام يشتمل بالضرورة على الجوانب الآتية:
أولًا: المصدر التاريخي لعملية التغيير المطردة.
ثانيًا: المواد التي تمر بتأثير هذا التغيير من حالتها قبل الاجتماعية، مرورًا يمكن معه أن تحوزها اليد المغيرة إلى حالتها الاجتماعية الجديدة.
ثالثًا: القواعد العامة أو القوانين التي تتحكم في هذا التغيير.
فمن الزاوية الأولى نجد أن النموذج التاريخي من المجتمعات يتعرض أيضًا للتنوع الناشئ عن الظرف التاريخي الذي يتيح له ميلاده. وهناك من هذه الزاوية نوعان من المجتمع:
أ - المجتمع التاريخي الذي يولد، فيكون ميلاده إجابة عن اختيار مفروض، تفرضه الظروف الطبيعية الخاصة بالوسط الذي يولد فيه، سواء تعرض هذا الوسط لتنوع مفاجئ، أم أن العناصر المكونة له قد واجهت فجأة ظروف وسط طبيعي جديد:
ـ[وهذا هو النموذج الجغرافي]ـ.
ب - المجتمع التاريخي الذي يرى النور تلبية لنداء فكرة:
ـ[وهذا هو النموذج الفكري (الإيديولوجي)]ـ.
وينتمي المجتمع الأمريكي إلى النوع الأول، إذ هو ثمرة هجرة أوربية، اضطرت إلى أن تتكيف مع الظروف الطبيعية في القارة الجديدة. ولقد عرضت على الشاشة قصة الاختبار الذي منح هذا المجتمع ميلاده، في صورة أفلام تناولت
1 / 9
موضوعاتها حياة الناس في أقصى الغرب الأمريكي (Far-West)، وفي شخص البطل (بوفالوبيل). تلك الأفلام التي غذت خيال الجيل السابق في أوربا، وألهمته أن يختار ملابس رعاة البقر، زيًا رسميًا لحركات الكشافة.
أما النموذج الثاني فإليه ينتمي المجتمع الإسلامي، كما ينتمي إليه المجتمع الأوربي الأصلي، وهو الذي يعد بصورة عامة ثمرة للفكرة المسيحية.
ويمكن أن نعد المجتمع السوفييتي اليوم والمجتمع الصيني من هذا النوع.
وفضلًا عن هذا التنوع ذي الطابع التارخي المتصل بمنشأ المجتمع، فإن من الواجب أن نلاحظ أيضًا وجود تنوع ذي طابع تشكيلي يتصل ببناء المجتمع. وينبغي من هذه الوجهة أن نميز المجتمات التي يقوم بناؤها على طوابق كثيرة، عن المجتمعات ذات الحجر الواحد أو الطابق الواحد.
والمجتمع الإسلامي الذي يعد خاصة موضوع دراستنا، هو من النموذج ذي الحجر الواحد، أعني أن بناءه قد اتخذ صورة واحده تتفق كثيرًا أو قليلًا مع الحديث المشهور:
«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
وهو الحديث الذي يعطي الصورة الدقيقة التي كان عليها المجتمع الإسلامي في عهد النبي ﷺ.
وهذا التحديد الذي نضعه للمجتمع الإسلامي، لا علاقة له بالحركة المذهبية التي قسمته خلال التاريخ إلى مدارس أو طوائف. فهو تحديد مجتمع ديمقراطي يحتفظ في اتجاهاته، إن لم يكن في مؤسساته، بجوهر الديمقراطية، أعني أنه كان مجتعًا بلا طبقًات.
والتجربة الراهنة في الجمهورية العربية المتحدة هي في الواقع محاولة لإعادة التعبير عن هذا الجوهر في صورة حديثة.
1 / 10
أما المجتمع البرهمي، فهو على العكس من ذلك، نموذج للمجتمع المبني على طوابق، المجتمع المنقسم إلى طوائف متراكبة، حتى في داخل البناء الاجتماعي في الهند الحديثة، على الرغم من جهود غاندي.
والمجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر، يقدم لنا مثالًا آخر للتراكب الاجتماعي بين الطبقًات المختلفة التي كان يتألف منها.
فهذه إذن طائفة من الأمثلة على التنوع التاريخي أو التشكيلي في المجتمع الذي ندرسه. بيد أن في هذه الأمثلة جميعًا عددًا من الخصائص المشتركة. فالمجتمع - أيا كان نموذجه التاريخي أو التشكيلي- ليس مجرد جمع لعناصر، أو أشخاص، تدعوهم غريزة الجماعة إلى أن يتكتلوا في إطار اجتماعي معين.
هذه الغريزة وسيلة لإنشاء المجتمع، وليست سببًا في إنشائه، إذ يضم المجتمع ما هو أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد الذين يؤلفون صورته، يضم عددًا من الثوابت التي يدين لها بدوامه، وبتحديد شخصيته في صورة مستقلة تقريبًا عن أفراده.
ويمكن أن نفصل الأمر بطريقتين:
أ - فقد يحدث في بعض الظروف التاريخية أن يفقد مجتمع ما شخصيته ويمحى من التاريخ، ومع ذلك فإن عدد أفراده قد لا يتغير في هذه الحالة، بل يحتفظ كل فرد بغريزة العيش في جماعة، وهي الغريزة التي تحدد معالم الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا، وإنما أصبح الأفراد مجرد أنقاض لمجتمع بائد، أنقاض مهيأة لأن تدخل في بناء جسد اجتماعي جديد.
ففي أعقاب معركة (أليزيا Alésia) اختفى المجتمع الغالي، ولكن الغال أفرادا لم يختفوا، بل تحولوا إلى مواد مهيأة للدخول في بناء جسد اجتماعي آخر، هو المجتمع الروماني.
1 / 11
ب - فإذا حدث أن اختفى الأفراد الذين يكونون مجتمعًا ما في نهاية جيل معين، فإن المجتمع يبقى، ويحتفظ بشخصية لا يمسها شيء، كما يحتفظ بدوره في التاريخ.
بل إنه يفرض على القادمين الجدد أنفسهم- حتى ولو كانوا أجانب- عبقريته وتقاليده وعاداته، وقد رأينا ذلك عندما ابتلع المجتمع الصيني قبائل المانشو والمغول، حين غزوا مملكة الصين.
فالمجتمع يحمل إذن في داخله الصفات الذاتية التي تضمن اسمراره، وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ.
وهذا العنصر الثابت هو المضمون الجوهري للكيان الاجتماعي، إذ هو الذي يحدد عمر المجتمع، واستقراره عبر الزمن، ويتيح له أن يواجه ظروف تاريخه جميعًا.
وهو الذي يتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة به.
فتكوُّن هذه الشبكة، ولو في مرحلة ابتدائية، هو الذي يعبر عن حدث (ميلاد مجتمع) في التاريخ.
***
1 / 12
النوع والمجتمع
حاولنا فيما سبق أن نحدد معنى المصطلح (مجتمع)، على الأقل من الوجهة التاريخية، التي تشمل أصول الكيان الاجتماعي ومن الوجهة التشكيلية التي تتصل ببنائه.
ونريد هنا أن نحدد الأمر من الوجهة الوظيفية، ولعل من نافلة القول أن نذكر أن مصطلح (مجتمع) في معناه البسيط- المعنى الأدبي الذي يعطيه القاموس- يعني: تجمع أفراد ذوي عادات متحدة، يعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة.
وهذا تحديد خارجي وصفي، لا يعطى أدنى تفسير (للوظيفة) التاريخية التي تناط بتجمع من هذا القبيل، كما أنه لا يفسر تنظيمه الداخلي، الذي قد يكون كفئًا لأداء مثل هذه الوظيفة.
فمن الضروري إذن أن نزيد في تحديد نطاق موضوعنا.
ولذا ينبغي أن نستبدل بالتحديد الوصفي المقدم في الفصل السابق تحديدًا جدليًا، وبعبارة أخرى: ينبغي أن نحدد (المجتمع) في نطاق (الزمن).
فتجمعات الأفراد الذين لا يعدل الزمن من علاقاتهم الداخلية، ولا تتغير أشكال نشاطهم خلال المدة، لا تعد من التجمعات الخاصة التي نقصدها بمصطلح (مجتمع).
والجماعات الإنسانية المقصودة منذ (ليفي بريل)، بعبارة (المجتمعات
1 / 13
البدائية) التي لا تتغير صورة حياتها، كما لا تتغير مستعمرات النمل خلال آلاف السنين، هذه الجماعات خارجة عن نطاق التحديد.
فحياة هذه الجماعات الإنسانية تصور لنا حتى الآن مرحلة، مرت بها الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ.
وفي هذه المرحلة تتحجر الصفات الاجتماعية، ويندر تنوعها من عصر لآخر: ولو أخذنا قطاعين من حياتها الاجتماعية يفصل بينهما آلاف السنين لوجدناهما متطابقين، على ما لاحظه المختصون في (علم الأجناس)، الذين يدرسون اليوم الحياة الإنسانية في بعض أقطار إفريقية الاستوائية.
وبما أن كل تغيير يطرؤ على الخصائص التشكيلية، أو يحدث في التوجيه الثقافي لجماعة إنسانية معينة، هو نتيجة مباشرة لوظيفتها التاريخية فإن كل جماعة لا تتطور، ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرح بذلك من التحديد الجدلي لكلمة (مجتمع).
وفضلًا عن ذلك فإن الجماعات التي ما زالت في هذه المرحلة الأولى من التطور، تتجه بدورها إلى الاندماج في (المجتمع العالمي)، الذي يتكون في هذه الأيام بفعل العوامل الفنية، تلك التي تدخل في ثقافة القرن العشرين مفهوم (العالمية).
وأيًا كان الأمر (فالمجتمع) هو الجماعة الإنسانية، التي تتطور ابتداء من نقطة يمكن أن نطلق عليها مصطلح (ميلاد).
ولكن حين نتحدث عن (ميلاد) معين، فإنا نعرفه ضمنًا بوصفه (حدثًا) يسجل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة، كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير التي تتعرض لها الحياة.
ويظهر هذا الشكل في صورة نظام جديد للعلامات بين أفراد جماعة معينة.
1 / 14
ومع ذلك فإن هذه الصورة الجديدة للحياة المشتركة قد تبدأ بفرد واحد، يمثل في هذه الحالة نواة المجتمع الوليد، وذلك بلا شك هو المعنى المقصود من كلمة (أمة)، عندما يطلقها القرآن الكريم على إبراهيم ﵇ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النمل: ١٦/ ١٢٠] ففي هذه الحالة نجد أن المجتمع (الأمة) يتلخص في (إنسان واحد)، أي أنه يتلخص في مجرد احتمال حدوث تغيير في المستقبل، ما زال في حيز القوة، تحمله فكرة يمثلها هذا (الإنسان).
فلكي نعطي لموضوعنا تعريفًا منطقيًا، ينبغي ان نربطه بمعامل الزمن، ربطًا نحدد معه لهذا العامل دلالته النفسية والاجتماعية. ومن هذا الوجه يصبح المجتمع هو: الجماعة التي تغير دائمًا خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدق الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير.
ومن الحقائق المقررة في علم الكيمياء منذ درس العلماء المركبات المتشابهة الجوهر Isomères، أن الأجسام قد تتماثل في التركيب الكيميائي دون أن تتشابه خصائصها. واستنبط العلماء من هذا أن مجموعة الذرات ليست مجرد كلية من المادة، بل هي تنظيم هذه المادة طبقًا لنظام معين؛ فاختلاف الخصائص في الكيمياء إنما يرجع في الحقيقة إلى اختلاف التنظيم الداخلي، أو بتعبير أوضح اختلاف الهندسة الداخلية.
والأمر كذلك بالنسبة للمجتمع، فهو ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني يتم طبقًا لنظام معين.
وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة:
" ١ " حركة يتسم بها المجموع الإنساني.
" ٢ " وإنتاح لأسباب هذه الحركة.
" ٣ " وتحديد لاتجاهها.
1 / 15
فهذه هي العوامل الثلاثة التي يدين لها مجموع إنساني معين، بخصائصه الاجتماعية التي تحيله (مجمتعًا) بالمعنى المنطقي للكلمة.
والواقع أن فكرة الحركة، تلك التي تتطابق مع مفهوم التغير والتطور، تعد عنصرًا جوهريًا في التعريف في علم الاجتماع.
وهذه الفكرة نفسها قد ساعدتنا في دراسة أخرى، على التفرقة بين فكرة (رأس المال) وفكرة (الثروة)، إذ كان المصطلح الأول يعني المال المتحرك، وكان الثاني يعني المال الساكن.
وفكرة الحركة ستساعدنا هنا على التفرقة بين (المجتمع)، وبين سائر أشكال الجماعات الإنسانية، التي لا تتصف بما سبق أن أشرنا إليه من خصائص اجتماعية.
ومع ذلك فإن الحركة في علم الاجتماع تستتبع فكرة ذات قيمتين: فإن تطور الجماعة يؤدي بها إما إلى شكل راق من أشكال الحياة الاجتماعية، وإما أن يسوقها عل عكس ذلك إلى وضع متخلف.
وعلى أية حال فإن أمام كل مجتمع غاية، فهو يندفع في تقدمه إما إلى الحضارة، وإما إلى الانهيار.
وفي مقابل ذلك نجد أنه حينما تنعدم الحركة، فإن الجماعة الإنسانية تفقد تاريخها: إذ تصبح .. ولا غاية لها.
فهذا هو في نهاية الأمر المقياس الأساسي الذي يساعدنا على أن نواجه مشكلة ميلاد مجتمع معين: تكسب الجماعة الإنسانية صفة (المجتمع) عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها. وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة.
أما الجماعات الساكنة فإن لها حياة اجتماعية دون غاية، فهي تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة.
1 / 16
وخلاصة القول: إن الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، هو ما نطلق عليه اسم الحضارة.
***
1 / 17
الآراء المختلفة في تفسير
الحركة التاريخية
هذه الاعتبارات التي أشرنا إليها في الفصل السابق تربط فكرة (المجتمع) بوضع متحرك ذي عناصر ثلاثة:
(أ) حركة مستمرة.
(ب) إنتاج دائم لأسبابها.
(جـ) غايتها.
لكن هذا التخطيط يحبسنا داخل الحلقة المفرغة، حلقة البيضة والدجاجة عندما نريد أن نلهو بتحديد أي منهما كان سببًا في وجود الآخر.
فإذا ما ذهبنا إلى أن «الحركة هي التي تؤدي إلى أسبابها»، وجدنا انفسنا أمام تعارض ظاهر، فإن تخطيطنا الحركي يعطينا صورة عن المجتمع في حركته، ولكنه لا يفسر الشروط الأولية لهذه الحركه.
وأي وسط (إنساني) ينطوي في الحقيقة على نصيب من الخمود، شأنه في ذلك شأن أي وسط من المادة، ونحن ندل على هذا الخمود في جانب الأفراد بصيغ مختلفة: فنتحدث أحيانًا عن الكسل وعن نقص الطاقة، وعن نقص الإرادة .. الخ .. كما أننا ندل عليه في الجانب الجماعي حين نتحدث عن الركود أو الكساد والتخلف .. الخ.
ومعنى هذا أن كل وسط إنساني مندمج في حركته، منتج لأسباب هذه الحركة، ينطوي على عامل أساسي يقهر الخمود الفطري- طبقًا لمبدأ الميكانيكا الكلاسيكي- حين يحيل عناصر الخمود في وسط معين إلى قيم حركية.
1 / 18
لقد فسر كثيرون هذه الظاهرة بصور مختلفة.
فـ (هيجل) يرجع الأسباب التي تحكم كل حركة تاريخية، أعني كل تغيير اجتماعي إلى مبدأ التعارض الذي يتكون من قضية ونقيضها.
فحينما تنشأ الحركة طبقًا لهذه الأسباب المتعارضة، فإن غايتها تتمثل أمامه في صورة اندماج وتركيب محتوم!
فهذه هي الأحوال الثلاث التي تسيطر على كل حركة تاريخية في رأي هيجل، وبالتالي يتلخص فيها كل تغيير اجتماعي.
فالحالة التي توجد فيها جماعة إنسانية في لحظة معينة من تاريخها هي- في رأيه- قضية.
ولكن قد تظهر خلال هذه الحركات أسباب، ذات طابع اقتصادي أو أخلاقي أو مناخي تهدف إلى تعديل اتجاهها. فبتأثير الأفعال وردود الأفعال المتبادلة يصبح الوسط مجالًا لنزعات السكون المتصلة بخموده الفطري، ونزعات الحركة التي تنشئ حالة مناقضة في طريقها إلى الظهور يتكون عنها نقيض القضية.
وفكرة التعارض هذه هي التي تكون في نظر هيجل القوة المحركة التي تخلق الحركة التاريخية، التي من شأنها أن تخلق أسبابها.
والاندماج أو التركيب هو الغاية المنشودة من هذا الكيان كله، ذلك الكيان الذي يجدد دورته تعارض جديد يزلزل التعادل القائم المستقر.
ويعد تفسير فكرة التعارض هذه هو الميدان الذي اختلفت فيه المذاهب الفكرية الحديثة.
فالفكرة الماركسية ترى أن الأسباب المتعارضة التي تؤدي إلى حدوث
1 / 19
التغييرات الاجتماعية ذات طابع اقتصادي: فميلاد المجتمع وشكل الحضارة الذي يتخذه ناشئان عن التعارض الاقتصادي.
ومع ذلك فلو أننا طبقنا على هذه الفكرة مقياسها الاقتصادي الخاص، فستبرز أمام أعيننا حدود امتدادها على الخريطة الاقتصادية للعالم. فإن تأملنا امتداد الفكرة الماركسية باعتبارها ظاهرة اقتصادية، يدلنا على أنها ترسم منطقة اقتصادية، يقع متوسط دخل الفرد السنوي فيها تقريبًا بين مئتي دولار وسبع مئة دولار، وهو المستوى الذي وصلت إليه اليابان من ناحية، وإنجلترا من ناحية أخرى.
وبذلك نستطيع أن نقرر- إلى أن يثبت العكس- أن انتشار الفكرة الشيوعية، محدود داخل هذه الحدود الاقتصادية المطابقة لحدود جغرافية معينة، وأن التفكير الماركسي لم يجد وراء هذه الحدود المزدوجة ظروف تأقلمه، فهو بهذه الصورة لا يستطيع أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا للمجالات التي لم ينتشر فيها على الخريطة.
بيد أن هذه الملاحظة ذاتها تؤدي بنا ضمنا إلى نظرية (جون ارنولد توينبي)، تلك التي تحدد بدقة مشكلة الحدود التي يمكن أن يتم فيها تغيير اجتماعي معين، وهي بذلك تفسر لنا: لماذا كان مجال انتشار الفكرة الماركسية على خريطة العالم الاقتصادية واقعًا داخل حدود معينة؟
لقد اتبع المؤرخ الإنجليزي الكبير منهجًا، ينطبق في جانب منه على تخطيط هيجل، وذلك حين شبه فكرة التعارض بعقبة ذات طابع اقتصادي أو فني عبر عنها بكلمة (التحدي).
وفي رأيه أن التحدي يتوجه إلى ضمير الفرد أو الجماعة، وتكون مواجهته له
1 / 20