Menhaj Al-Muhaddithin from the First Hijri Century to the Present Era
منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر
ناشر
الهيئة المصرية العامة للكتاب
شماره نسخه
-
ژانرها
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الذي بعثه الله في الأميين رسولًا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. أما بعد،
لقد أمرنا الله تعالى باتباع رسوله دون مراء، وطاعته دون جدال، فقال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وحذرنا من مخالفته بالفتنة أو العذاب الأليم، قال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣]، فلا ينبغي لمؤمن أن يتردد في الاحتكام إلى شرعه، والالتزام بمنهجه وهديه. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦] .
ولا يشك مسلم في أن شرع الله تعالى وهديه يتمثل في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النور: ٥٤]، وقال ﷺ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، فالكتاب والسُّنَّة هما الشرع الحنيف، والدين القيم، من تمسك بهما رشد، ومن حكم بهما عدل، ومن عمل بهما أُجر، ومن التزم بهما هُدي إلى صراط مستقيم، قال ﷺ: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي".
1 / 7
ولقد أدرك السلف قدر السُّنَّة ومكانتها -فضلًا عن القرآن الكريم- فحفظوها في الصدور، ودونوها في السطور، ورَعَوْها حق رعايتها، فكانت مصدر قوتهم، وسر هيبتهم.
ومن الغريب والعجيب أننا في الوقت الذي نرى فيه عناية؛ بل ومفاخرة غير المسلمين بتراثهم الحضاري والثقافي والعلمي -نرى نابتة تزعم الانتساب إلى الإسلام تهاجم موروثها الديني، وتعمل جاهدة للنيل منه والحط من قدره؛ بل وتسعى للخلاص منه.
وهؤلاء وُلدوا في بلادنا، ويتكلمون بلغتنا؛ ولكنهم تغذوا فكر الكفرة والمشركين والملاحدة، فنمت أعوادهم مائلة إليهم، وجندوا أنفسهم الخبيثة وأقلامهم الملوثة للثرثرة في وسائل الإعلام والنشر المختلفة، ومن حين لآخر يختلقون المشاكل ليُسقطوا من بناء الإسلام لَبِنة، ومن مهابته في النفوس جزءًا، وقد اتخذت هذه الفئة الضالة مسالك شتى للوصول إلى أغراضهم، وللالتفات حول الإسلام جميعًا، فمنهم من جنَّد نفسه للنيل من قدسية القرآن الكريم، وسوء تأويله، ومنهم من جند نفسه للنيل من قدسية الحديث الشريف، أو التشكيك في الصحيح منه، وهؤلاء لا يخرجون عن ثلاثة أصناف: صنف جاهل غبي افتتن بحب الظهور، وصنف ملحد يدعو إلى الإلحاد لهوى في نفسه، وصنف مأجور لخدمة غير المسلمين الطامعين.
وقد قيض الله تعالى لهؤلاء وأمثالهم في كل عصر مَن يتصدى لهم، ويفضح أمرهم، ويحذِّر المسلمين منهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
ويوضح هذا البحث مدى عناية السلف والخلف -رجالًا ونساء- بالحديث النبوي الشريف، تدوينًا وتوثيقًا ورواية وغير ذلك، وأنهم بذلوا جهودًا كبيرة جدًّا من أجل خدمة السُّنَّة النبوية، والمحافظة عليها، والذود عنها في حياة النبي ﷺ وبعد مماته.
1 / 8
- وقد جاء هذا البحث في مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب:
المقدمة: فيها التنبيه على أهمية التمسك بالسُّنَّة النبوية باعتبارها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وأنها نالت عناية السلف في الصدر الأول للإسلام، والتنبيه أيضًا على أن هناك مشوشين يسعون للنيل من السُّنَّة المطهرة، وأن علماء المسلمين المتخصصين تعقبوا هذه الفئة الضالة، وفندوا كافة مزاعمهم، وردوهم على أعقابهم خاسرين.
التمهيد: وفيه فصلان:
الفصل الأول: منكرو السُّنَّة والرد عليهم، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مزاعم منكري السُّنَّة قديمًا والرد عليها.
المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم.
الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي.
الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري:
وفيه أحد عشر فصلًا:
الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسُّنَّة.
الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي.
الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي.
الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم.
الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث الشريف في القرن الأول الهجري.
الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف.
الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف.
1 / 9
الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف.
الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف.
الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف.
الفصل الحادي عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين في الرواية.
الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري:
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر.
الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر، ومنهج العلماء في التصنيف.
الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري.
الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري.
الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين.
الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين.
الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في علوم الحديث.
الباب الثالث: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر:
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري:
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: أهم المشكلات التي واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري.
1 / 10
المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري.
المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري.
المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري، ومناهجهم.
وفيه: الإمام البخاري، والإمام مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل.
الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري.
الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس وحتى سقوط الخلافة العباسية.
الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية حتى عصرنا الحاضر:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: السُّنَّة من عام "٦٥٦هـ" حتى عام "٩١١هـ".
المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "٩١١هـ" وحتى آخر القرن الرابع الهجري.
المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر.
المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر.
والله الموفق والمستعان
دكتور/ علي عبد الباسط مزيد
1 / 11
التمهيد
الفصل الأول: منكرو السنة والرد عليهم
المبحث الأول: مزاعم منكري السنة قديما، والرد عليها
...
التمهيد:
وفيه فصلان:
الفصل الأول: منكرو السُّنَّة والرد عليهم
لأهمية السُّنَّة في بناء التشريع الإسلامي اهتمت بها الأمة اهتمامًا بالغًا، وسخروا لها كافة جهودهم وكل طاقاتهم، ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم، وتمخض عن هذا الاهتمام علوم عظيمة غايتها البحث في معاني الأحاديث النبوية الشريفة، وشكلها، وطريقة روايتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ولم يوجد رجل أو امرأة ممن روى الحديث الشريف إلا وله ترجمة خضعت لبحث دقيق من كل ناحية. ورغم ذلك ظهر في كل عصر من ينكر السُّنَّة، ويطالب بالاكتفاء بالقرآن الكريم، بحجة أن السُّنَّة لم تنقل إلينا كما ينبغي، وهذا افتراء يدحضه عديد من الأدلة، ونوضح ذلك من خلال المبحثين الآتيين:
المبحث الأول: مزاعم منكري السُّنَّة قديمًا، والرد عليها
من يتأمل كلام منكري السُّنَّة قديمًا يجدهم يركزون على عدة مزاعم؛ هي:
الأول: أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي يفهمه مَن عرف العربية، وتفقه فيها، وقد ورد إلينا ورودًا قطعيًّا لا شك فيه، فلا حاجة إلى السُّنَّة كي تبينه.
الثاني: أن الله تعالى قد نص في كتابه العزيز على أنه قد حوى كل شيء، وفيه تبيان كل شيء.
الثالث: أن السُّنَّة قد وردت إلينا ورودًا ظنيًّا؛ لأنها نقلت عن طريق الرواة الذين يخطئون وينسون ويكذبون، فالرواية باطلة، وما تنقله باطل لا يصح الاحتجاج به.
1 / 13
الرابع: كيف نسوي بين القرآن الكريم الذي ورد ورودًا قطعيًّا، والسُّنَّة التي وردت ورودًا ظنيًّا، ونخصص بها عام الكتاب، أو نقيد مطلقه؟ ١
وقد تصدى كثير من الأئمة والعلماء -قديمًا وحديثًا- بالرد على منكري السُّنَّة وتفنيد مزاعمهم.. ونتخير من هذه الردود رد الإمام الشافعي، والعالِم الحجة ابن أبي حاتم الرازي.
أولًا: رد الإمام الشافعي
يعتبر رد الإمام الشافعي من أبلغ الردود وأبين المناقشات قديمًا. ومجمل رده ومناقشته لهم ينحصر فيما يلي٢:
أولًا: أن الله تعالى نص في القرآن الكريم على السُّنَّة، وذلك في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: ٢]، ونحوه قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٥١] فالعطف هنا على مغاير، فالكتاب غير الحكمة، ولا يُسلَّم للمعترضين أن الكتاب والحكمة لفظان يدلان على معنى واحد، وأن الحكمة هي الكتاب.
فهذا الاعتراض مدفوع بما جاء في آيات أخرى، نحو قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: ٣٤]، فالحكمة هي السُّنَّة، وآيات الله هي القرآن الكريم، والمراد بالتلاوة القراءة، ولو صح قولهم لكانت الكلمات الثلاث "آياته، الكتاب، الحكمة" مترادفات، وهي جميعًا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] والقول باشتمال آية واحدة على ثلاثة مترادفات غير معهود في الأسلوب القرآني، ويتنافى مع إيجاز القرآن وبلاغته٣.
_________
١ المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص ١٨٩".
٢ راجع ذلك مفصلًا في: توثيق السُّنَّة في القرن الثاني الهجري "ص٧٧-١٠٢".
٣ راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص١٩٢".
1 / 14
وإذا كان القرآن الكريم اشتمل على السُّنَّة، فيجب علينا أن نأخذ بها، وألا نكون كمن آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٨٥] .
ثانيًا١: قد فرض الله تعالى علينا اتباع النبي ﷺ فقال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦]، وقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] .
فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هناك أحكامًا وأوامر للرسول ﷺ ليست في القرآن، ويجب علينا اتباعها تنفيذًا لأوامر الله تعالى في كتابه العزيز، ولا يمكن اتباعها إلا بأخذها من الرواة الذين نقلوها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب -كما يقول الأصوليون.
وليس المراد من حكم الرسول ﷺ وطاعته في الآيات هو الحكم بما أنزل الله في كتابه، وطاعته فيما يبلغهم من كتاب الله ﷿ كما يزعم لمعترضون، ولو سلمنا ذلك جدلًا، فإنا لا نجد السبيل إلى تطبيق أحكام الله ﷿ على الوجه الأكمل إلا إذا اقتدينا بالرسول ﷺ القدوة الحسنة والوقوف على سنته والأخذ بها، وطريقنا إليها هو الرواية عن رسول الله ﷺ.
ثالثًا: هناك بعض الأحكام التي نُسخت في القرآن الكريم وجاءت مكانها أحكام أخرى، ولم يبين هذا النسخ إلا السُّنَّة؛ مما يجعلنا في حاجة إلى الأخذ بها.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
1 / 15
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، فالآية تفرض وتقرر على المؤمنين أن يوصوا لوالديهم وأقربائهم إذا أحسوا بدنوِّ الأجل، وجاءت السُّنَّة بنسخ الوصية للوالدين والأقربن، فقال النبي ﷺ: "لا وصية لوارث" ١، ولا دليل على هذا النسخ إلا بالسُّنَّة، فتطبيق حكم الله على الوجه الأكمل لا يكون إلا بالأخذ بالسُّنَّة، وذلك حتى لا يُعمل بآية قد نسخ الشرع حكمها.
رابعًا: وصرحوا بما هو حق؛ ولكنهم سرعان ما حوَّروه إلى باطل، فقالوا: إن السُّنَّة تخصص العام في القرآن الكريم، والقرآن قطعي الورود، والسُّنَّة ظنية الثبوت؛ فلهذا تُرد السُّنَّة؛ لأن القرآن قطعي وهي ظنية.
وهؤلاء يعارضون أنفسهم بأنفسهم؛ لأنهم يتفقون -مع غيرهم- على أن حرمة الدم والمال مقطوع بهما، ومتفقون على أنه إذا شهد اثنان على إنسان بأنه قتل آخر عمدًا، فإنه يباح دمه ويُقتل قَصاصًا، وإذا شهد اثنان على إنسان بأنه انتهب مالًا عوقب ويؤخذ من ماله بقدر ما أخذ، وقد حكمنا بذلك بناء على ظننا أن الشاهدين صادقان، فهذا تخصيص قطعي بظني: القطعي هو حرمة الدم والمال، والظني هو شهادة الشهود، ومنكرو السُّنَّة يعترفون بذلك ويقبلونه، فلِمَ يرفضون السُّنَّة بحجة أنها ظنية والقرآن قطعي؟!
_________
١ هذا الحديث جزء من حديث طويل في خطبة الوداع بدايته: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" الحديث، رواه أبو داود في "١٧" كتاب البيوع والإجارات: باب في تضمين العارية - حديث رقم "٣٥٦٥"، والترمذي في "٣١" كتاب الوصايا "٥" باب ما جاء لا وصية لوارث - حديث رقم "٢١٢٠" من حديث أبي أمامة، وقال الترمذي: وفي الباب عن عمرو بن خارجة، وأنس، وهو حديث حسن صحيح ... ثم رواه الترمذي من حديث عمرو بن خارجة بنحو حديث أبي أمامة مطولًا "٢١٢١" وقال: هذا حديث صحيح.
ورواه النسائي في المجتبى "٣٠" كتاب الوصايا "٥" باب إبطال الوصية للوارث - من حديث عمرو بن خارجة بالطرف المذكور فقط "٣٤٦١، ٣٤٦٢، ٣٤٦٣"، ورواه ابن ماجه في "٢٢" كتاب الوصايا "٦" باب لا وصية لوارث - من حديث عمرو بن خارجة بنحو حديث الترمذي "٢٧١٢"، ومن حديث أبي أمامة بالطرف المذكور "٢٧١٣"، ومن حديث أنس بن مالك مختصر أيضًا "٢٧١٤"، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة "٢/ ٣٦٨": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
1 / 16
ولا شك أن في الأخبار أو الأحاديث احتمال الخطأ والوهم والكذب؛ ولكن العلماء وضعوا ضوابط ومقاييس كثيرة للتثبت والتأكد من عدالة الرواة وضبطهم؛ بحيث يصبح نقل الحديث على وجه الصحة أكثر تأكيدًا من أداء الشهادة على الوجه الصحيح، ومنكرو السُّنَّة لا يختلفون في صحة الشهادة، فكيف يختلفون في صحة رواية السُّنَّة ونسبة الظن فيها أقل من نسبة الظن في الشهادة؟!
فالقرآن الكريم نص على اتباع الرسول ﷺ ويكون ذلك باتباع ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ونحن لا نعرف ذلك إلا بالرواية التي نالت عناية فائقة من الأئمة العلماء الذين وضعوا كافة الأسس والضوابط والمقاييس التي تبين حال كل واحد من رواة الحديث الشريف من حيث العدالة والضبط والإتقان ... إلخ.
ثانيًا: مناقشة الإمام ابن أبي حاتم الرازي للمنكرين للسُّنَّة
عاش ابن أبي حاتم في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين، وهو من أبرز الحريصين على نقل الرواية الصحيحة، وله مناقشات هامة في إثبات مشروعية الرواية في مقدمة كتابه "الجرح والتعديل" "١/ ١/ ١-١٣" ويمكننا توضيحها فيما يلي:
أولًا: قد جعل الله تعالى المسلمين عدولًا يُعتمد على شهادتهم وروايتهم، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] ومعنى الوسط: العدل، وهم كذلك بتمسكهم بمبادئ دينهم، فهم يشهدون يوم القيامة على الأنبياء بأنهم بلغوا عن ربهم رسالاته إلى الناس بناء على إخبار الله ورسوله لهم بذلك، وإذا كان الله تعالى جعلهم عدولًا وقَبِلَ روايتهم وأخبارهم التي رَوَوْها عن رسول الله ﷺ فإنه أحرى بنا أن نقبل روايتهم؛ لأنها نوع من الشهادة.
1 / 17
وروى ابن أبي حاتم في تفسير الآية السابقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي أنه قال ﷺ: "يُدعى نوح ﵇ يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح ﵇: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد ﷺ وأمته، فذلك قوله ﷿: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ " قال: "الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم يشهد عليكم بعد".
قال ابن أبي حاتم: لما أخبر الله ﷿ أنه جعل هذه الأمة عدلًا في شهادتهم بتبليغ رسلهم رسالات ربهم بَانَ أن السُّنَّة تصح بالأخبار المروية؛ إذ كانت هذه الأمة إنما علمت بتبليغ الأنبياء رسالات ربهم بإخبار نبيهم ﷺ.
وقد أشار الله تعالى إلى أن الأخبار لا تؤخذ إلا من العُدول؛ لأن هذا يجعلنا نطمئن إلى سلامة ما نُقل إلينا من التغيير والتحريف والتبديل١.
ثانيًا: قد حث الله تعالى المؤمنين بأن يَنْقُل من فَقُه أو تعلَّم من الرسول ﷺ إلى الآخرين الذين لم يتمكنوا من ذلك، وعملية النقل هذه هي الرواية، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] .
روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس ٠رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير هذه الآية: "لتنفر طائفة ولتمكث طائفة مع رسول الله ﷺ فالماكثون مع رسول الله ﷺ هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم من الغزو لعلهم يحذرون ما أنزل من بعدهم من قضاء الله ﷿ وكتابه وحدوده".
قال ابن أبي حاتم: "قد أمر الله ﷿ المتخلفين مع نبيه ﷺ عمن خرج غازيًا أن يخبروا إخوانهم الغازين إذا رجعوا إليهم بما سمعوا من رسول الله ﷺ من سنته، فدل ذلك على أن السنن تصح بالإخبار".
_________
١ راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص١٩٧".
1 / 18
وفي رواية لابن عباس ﵄ قال في تفسير الآية الكريمة: "كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي ﷺ فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله ﷺ: ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبِرنا ما نقول لعشائرنا ... فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة، وكانوا إذا أتَوا قومهم نادَوا: أن من أسلم فهو منا، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه، وكان رسول الله ﷺ يخبرهم، وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة".
ثالثًا: قد كان النبي ﷺ يعتمد على رواية أخبار العدول، وينفذ بمقتضاها بعض الأحكام، وإذا كان رسول الله ﷺ يفعل ذلك فنحن نتأسى به، ونقبل السُّنَّة التي تأتينا عن طريق الرواة العدول، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦] .
روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قوله: "كان رسول الله ﷺ بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وأنه لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا ليتلقوا رسول الله ﷺ وأنه لما حُدِّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله! إنا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون رده كتاب جاءه منك بغضب علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله".
ورُوي عن مجاهد وقتادة والضحاك نحو ذلك.
قال ابن أبي حاتم: "لما أخبر الوليد بن أبي معيط النبي ﷺ بامتناع من بعث إليهم مصدقًا فقبل خبره لصدق الوليد وستره عنده، وتغيظ عليهم بذلك
1 / 19
وهمَّ بغزوهم حتى نزل عليه القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ فكف عند ذلك عنهم، دل على أن السنن تصح عن رسول الله ﷺ بنقل الرواة الصادقين لها".
وقد تدل الآية على أن الفسقة لا تُؤخذ منهم الرواية، وبذلك تصان السُّنَّة من التحريف والتبديل١.
رابعًا: وقد ورد في أقوال الرسول ﷺ وجوب أخذ السنن بنقل الرواة العدول لها، ومن ذلك: الأمر بنقل الأخبار عنه ﷺ وذلك في قوله: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" ٢، وقوله: "حدثوا عني ولا حرج" ٣، وقوله في أكثر من حديث: "فليبلغ الشاهد الغائب" ٤.
وقد حذر النبي ﷺ من الكذب عليه وبيَّن عقاب من يفعل ذلك، فلا يحل التحديث عنه إلا إذا تأكدنا من صحة نسبة الحديث إليه، ولا نقبل رواية الكاذبين، وبذلك نصل إلى الحق من سنته.
_________
١ راجع المدخل إلى توثيق السنة "ص٢٠٠".
٢ رواه البخاري والترمذي وغيرهما من طريق حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو ﵄.
صحيح البخاري "٦٠" كتاب أحاديث الأنبياء "٥٠" باب ما ذكر عن بني إسرائيل - حديث رقم "٣٤٦١".
سنن الترمذي "٤٢" كتاب العلم "١٣" باب ما جاء في الحديث عن نبي إسرائيل - حديث رقم "٢٦٦٩"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
٣ رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
صحيح مسلم "٤/ ٢٢٩٨، ٢٢٩٩" "٥٣" كتاب الزهد "١٦" باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم - حديث رقم "٧٢/ ٣٠٠٤".
ورواه الإمام أحمد في مسنده "٣/ ٤٦" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: $"حدثوا عني، ولا تكذبوا عليَّ، ومن كذب عليَّ متعمدًا فقد تبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
٤ جاء ذلك عند البخاري في كتاب جزاء الصيد "١٨٣٢"، والعلم "٦٧، ١٠٥"، والأضاحي "٥٥٥٠"، والحج "١٧٣٩" "١٧٤١"، والفتن "٧٠٧٨"، والمغازي "٤٢٥٩"، والتوحيد "٧٤٤٧"، ومسلم في القسامة حديث رقم "٣٠، ٢٩/ ١٦٧٩".
1 / 20
ففي الحديث الشريف الحض على نقل السُّنة، والترغيب في طلبها، والسعى إلى تحصيلها وتبليغها، وتوصية المرتحلين فيها، قال ابن أبي حاتم: "ولما أوصى النبي ﷺ بطالبي الآثار، والمرتحلين فيها، ونبه عن فضيلتهم؛ عُلم أن في ذلك ثبوت الآثار، بنقل الطالبين الناقلين لها، ولو لم تثبت بنقل الرواة لها لما كان في ترغيب النبي ﷺ فيها معنى".
قال الأستاذ الدكتور/ رفعت فوزي مُعقبًا على ما سبق: "ويرى ابن أبي حاتم أنه أتى في ذلك بما يراه كافيًا لدحض حجة هؤلاء وإبطال دعواهم، ولا أظن أنه يُقنع مثل هؤلاء القوم بطريقته هذه؛ لأنه يستشهد بما يرفضونه أساسًا، وهو الآثار، وحتى تلك الآيات التي ساقها؛ لأنه يبين مواطن الاستشهاد فيها اعتمادًا على ما ساقه من آثار وردت في آثارها، وهو كمحدث أُشربت نفسه حب الحديث، لا يريد أن يخرج عن دائرة التحديث حتى في المواطن التي ينبغي فيها الخروج عنها؛ ليكون عمله مجديًا ويؤدي الغاية المرجوَّة منه.
ومهما يكن من شيء، فقد أفاد عمله هذا من ناحية أخرى؛ من حيث بيان مشروعية الرواية وأهميتها في نقل السنن، وفي ذلك تأصيل لها، وبيان لقيمتها، كما أفاد عمله هذا كذلك طمأنة لقلوب المؤمنين"١.
_________
١ المدخل إلى توثيق السُّنة "ص٢٠١".
1 / 21
المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم
سبق أن ذكرنا أن منكري السُّنَّة بزغوا في كل عصر، وقد رد عليهم الإمام الشافعي قديمًا وكذلك ابن أبي حاتم وغيرهما.
وحديثًا أنكر بعض الناس أن تكون السُّنَّة مصدرًا للتشريع الإسلامي مُتذرعين بالعديد من الحجج، وأهمها ما يلي١:
أولًا: القرآن الكريم حوى كل أمور الدين ووضحها؛ بحيث يغني عما عداه، قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، والأخذ بالسُّنَّة يناقض ذلك.
ثانيًا: الله تعالى ضَمِنَ حفظ كتابه لأنه مصدر التشريع ولم يضمن حفظ السُّنَّة، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] ولو كانت السُّنَّة دليلًا من أدلة التشريع وحجة كالقرآن لتكفل الله بحفظها، ولا يستطيع أحد أن يدَّعي أن السُّنَّة وصلت إلينا بنصها.
ثالثًا: لو كانت السُّنَّة حجة ومصدرًا من مصادر التشريع لتكفل النبي ﷺ بكتابتها، ولعمل الصحابة والتابعون على جمعها وتدوينها صيانة لها من العبث والتبديل والتحريف والنسيان؛ لكن الثابت -هكذا يزعمون- أن النبي ﷺ نهى عن كتابتها وأمر بمحو ما كُتب منها، وكذلك فعل الصحابة والتابعون.
رابعًا: ورد عن النبي ﷺ ما يدل على عدم حجية السُّنَّة، ومن ذلك قوله: "إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني"٢، وقوله: "إذا حُدِّثتم عني حديثًا تنكرونه -قلته أو
_________
١ راجع: السُّنَّة ومكانتها في التشريع "ص١٣٨-١٤٠"، المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص٢٠١-٢٠٣".
٢ رواه الإمام الشافعي في الأم رقم "٢٩٩٨".
1 / 23
لم أقله- فلا تصدقوا به؛ فإني لا أقول ما يُنكر ولا يُعرف"١، وقوله: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه"٢، وفي رواية: "لا يمسكن الناس على شيء، فإني لا أحل ما أحل الله، ولا أحرم إلا ما حرم الله" ٣.
فهذه الأحاديث تفيد وجوب عرض السُّنَّة على القرآن، وأن نأخذ منها ما وافق القرآن، وما خالفه لا نقيله، فلا أهمية للسُّنَّة، ودورها هو التوكيد والتكرار لما في القرآن الكريم.
خامسًا: أكثر بعض الصحابة من التحديث عن الرسول كثرة لا تتناسب مع صحبته للرسول، مما يدل على أنه كان يتقوَّل عليه لأهواء سياسية وشخصية، فكيف نثق فيما رووه إذن؟
سادسًا: لم يهتم علماء الحديث بنقد المتن، فصححوا أحاديث كثيرة موضوعة ولو عُرضت على مقاييس أخرى "غير السند" لتبين عدم صحتها.
- مناقشة مزاعم منكري السُّنَّة حديثًا ٤:
فيما يلي تفنيد لحجج المنكرين للسُّنة حديثًا:
الأول: المراد بالكتاب في الآية الكريمة: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ اللوح المحفوظ، وليس القرآن كما يزعمون، وكذلك في قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] .
_________
١ تاريخ بغداد "١١/ ٣٩١"، والكامل لابن عدي "١/ ٢٦" الباب السابع اتقاء حديث رسول الله ﷺ إلا ما يعلمه ويعرفه ويتقنه، والميزان "٣/ ٣٥٢" في ترجمة الفضل بن سهل رقم "٢٧٢٨" كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده الفضل بن سهل، وقد عد الحافظ الذهبي هذا الحديث من مناكيره.
٢ ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "١/ ١٧١، ١٧٢" وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن يحيى بن سعيد إلا علي بن عاصم، تفرد به صالح بن الحسن بن محمد الزعفراني، قلت: ولم أرَ من ترجمهما".
٣ رواه الشافعي في مسنده "٣٣٢".
٤ راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص٢٠٤-٢٢٠".
1 / 24
الثاني: والمراد بالذكر في الآية الكريمة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الشرع والدين الذي بعث به رسوله، فهو يشمل القرآن والسُّنَّة ولا يخص أحدهما، والدليل قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] .
وقد قيض الله تعالى من يحفظ كتابه، وسنة رسوله ﷺ وتنقيتها من الدخيل والموضوع، وحفظها من التغيير والتبديل والتحريف.
وهذا ما فهمه عبد الله بن المبارك حين قيل له: "هذه الأحاديث الموضوعية؟ " فقال: تعيش لها الجهابذة، وتلا قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ١.
وقال ابن حزم في معرض رده على الزاعمين أن الذكر هو القرآن: "هذه دعوى كاذبة مجردة عن البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه ﷺ من قرآن أو سنة"٢.
الثالث: كون الرسول ﷺ أمر بعدم كتابة السُّنَّة فليس ذلك دليلًا على عدم حجيتها؛ وإنما كان ذلك لأسباب تقتضيها المصلحة، ومن هذه الأسباب: أن النهي كان أولًا وذلك للتفرغ لحفظ القرآن الكريم والاطمئنان إلى عدم اختلاطه بغيره.
ومنها: أن النهي كان في حق أشخاص بعينهم حتى لا يتكلوا على الكتابة أو لضعفهم في كتابة العربية.
وقد ثبت أن النبي ﷺ أَذِنَ بكتابة السُّنَّة لبعض الصحابة في أول الإسلام، ثم كان الإذن لمن شاء أن يكتب بعد ذلك.
الرابع: الأحاديث التي احتجوا بها على عدم حجية السُّنَّة لا تنهض دليلًا على رأيهم؛ لأنها غير صحيحة:
_________
١ تدريب الراوي "٢/ ٣٥٨" مؤسسة الرسالة - بيروت.
٢ الإحكام "١/ ١٢١".
1 / 25
الحديث الأول:
"إن الحديث سيفشو عني ... "، قال البيهقي: "رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله ﷺ وخالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع"، وقال مرة أخرى: "والحديث الذي رُوي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان" يعني بذلك: أن يتعارض مع ما يدعو إليه القرآن من طاعة الرسول ﷺ والاحتكام إلى الله ورسوله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ [النساء: ٥٩] .
وقد قال الشافعي فيما نقله عنه البيهقي في هذا الحديث: "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر".
وقال: "وهذه أيضًا رواية منقطعة، عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء".
ثم رواه البيهقي بسنده عن الشافعي قال: قال أبو يوسف: حدثني خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله ﷺ أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى ﵇ فصَعِدَ النبي ﷺ المنبر، فخطب الناس فقال: "إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني".
قال البيهقي: هذه الرواية منقطعة، كما قال الشافعي في كتاب الرسالة، وكأنه أراد بالمجهول خالد بن أبي كريمة، فلم يعرف من حاله ما يثبت به خبره١.
وقد روى الطبراني عن ابن عمر نحو ما جاء عند الشافعي، قال السخاوي: قد سُئل شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال، وقال الصنعاني: هو موضوع٢.
_________
١ معرفة السُّنَّة والآثار عن الإمام الشافعي "١/ ٦٩".
٢ انظر: كشف الخفاء للعجلوني "١/ ٨٦".
1 / 26
وقال ابن حزم في الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني أحد رواة الحديث من بعض طرقه: "الحسين بن عبد الله متهم بالزندقة"١.
ومن جهة أخرى، فإنه على اعتبار التسليم بقبول هذا الحديث، فإن "العلماء بهذا الحديث قديمًا على أن السُّنَّة تأتي بجديد، وأن كل ما تأتي به يجب أن يُلتمس له أصل في القرآن الكريم، مع التسليم بأن الأخذ بالسُّنَّة واجب، أما اليوم -فكما نرى- يُستدل به على ترك السُّنَّة وعدم الأخذ بها"٢.
الحديث الثاني:
"إذا حُدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه ... "، قال الدكتور رفعت فوزي: "فرواياته كلها ضعيفة منقطعة كما نص على ذلك العلماء"٣.
الحديث الثالث:
"إني لا أحل ما أحل الله...."، قال الشافعي: "هذا منقطع، وعلى فرض صحته فليس فيه دليل للخصم فيما يدَّعِي؛ لأن معناه أن ليس للناس أن يقولوا: كيف يُحل رسول الله ﷺ ويحرم ما ليس في القرآن، فإن الرسول ﷺ مُشرِّع، وهو لا يحل إلا ما كان حلالًا في شرع الله، ولا يحرم إلا ما كان حرامًا فيه، وكل ما يحله أو يحرمه إنما هو في كتاب الله باعتبار أنه أمر بطاعته، ونهى عن مخالفته، فقد أمرنا أن نطيعه ﷺ فيما يحله أو يحرمه، أو أن كل ما يحرمه أو يحله له أصل في كتاب الله ﷿ أو نظير يقاس عليه٤.
والعجيب في هؤلاء المنكرين للسُّنَّة أنهم يستدلون بها على عدم حجيتها، فكيف يرفض هؤلاء السُّنَّة ثم يأخذون منها الدليل على ما يزعمون؟! وإن جاز لهم ذلك، فلماذا يستدلون بالأحاديث الضعيفة ويتركون الأحاديث الصحيحة التي تحث على كتابة السُّنَّة، وعلى الأخذ بالسُّنَّة؟!
_________
١ الإحكام "٢/ ٧٦".
٢ المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص٢٠٨".
٣ المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص١٠٩".
٤ راجع: نقد هذه الأحاديث في "مفتاح الجنة" للسيوطي "ص١٣-١٦"، و"السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" "ص١٤٥-١٤٨".
1 / 27
الخامس: بالنسبة لزعمهم بأن الصحابة والتابعين زادوا على السُّنَّة وتقوَّلوا على الرسول ﷺ بحجة أن ما رووه بلغ من الكثرة حدًّا لا يتناسب مع صحبتهم للرسول ﷺ فهذا مدحوض، والرد عليه لا يحتاج إلى عناء كبير.
فلقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- حريصين على استيعاب دين الله ونقله إلى الأجيال اللاحقة، ولم يكن دافعهم إلى ذلك أهواء شخصية وسياسية كما يزعمون؛ وإنما كان الدافع هو الغيرة على دين الله تعالى، وشدة الرغبة في الحفاظ عليه١.
_________
١ راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص٢١٠".
1 / 28