Memoirs of a Witness to the Century
مذكرات شاهد للقرن
پژوهشگر
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
ناشر
دار الفكر
شماره نسخه
الثانية
سال انتشار
١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م
محل انتشار
دمشق - سورية
ژانرها
مالك بن نبي
مذكرات شاهد للقرن
ندوة مالك بن نبي
دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان
دار الفكر، دمشق - سورية
1 / 1
مالك بن نبي
مذكّرات شاهد للقرن
القِسْمُ الأول: الطِّفْل ١٩٠٥ - ١٩٣٠
القِسْمُ الثاني: الطالبْ ١٩٣٠ - ١٩٣٩
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 2
تصوير ١٤١٣ هـ - ١٩٩٣ م
الطبعة الثانية ١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م
ط١: القسم الأول ١٩٦٩م
القسم الثاني ١٩٧٠م
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١، ترك أستاذنا مالك بن نبي، ﵀، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
تصدير
ـ[مذكرات شاهد للقرن]ـ
كتاب أخرجه فيلسوفنا مالك بن نبي عام ١٩٦٦ بالفرنسية، وطبع في الجزائر. وكان قد أودعني نسخة على الآلة الكاتبة في ذلك التاريخ، رغبة منه في إصداره مترجمًا باللغة العربية.
هكذا اتفقت مع الدكتور عبد المجيد النعنعي مدير فروع الجامعة اللبنانية في طرابلس- لبنان، ليعمل على ترجمته، ولأعمل معه على صياغة النص بما يتفق وروح المؤلف ومرامي أفكاره.
وأنجز الدكتور النعنعي المهمة مشكورًا، يدفعه إلى ذلك حماسته للفكر العربي والإسلامي معًا، إنما سبقنا إلى تمام العمل ترجمة أخرى للأستاذ مروان قنواتي، صدرت في نهاية الستينات.
وهكذا توقفنا .....
وفي بداية السبعينات صدر الجزء الثاني من (مذكرات شاهد للقرن) وهو الجزء الذي يتحدث عن مرحلة الدراسة في باريس ابتداء من عام ١٩٣٠، وقد آثر الأستاذ مالك- ﵀ أن يترجمه بنفسه إلى العربية، حين آنس في الترجمة الأولى شيئًا من حواجز الصياغة تحول بين القارئ وإحساس المؤلف، الذي أودعه في كتابه وهو يصوغه بالفرنسية.
ومرت الأيام ......
1 / 7
وحين بدأنا في إعادة طبع مؤلفات الأستاذ مالك بن نبي من جديد، عدت إلى ترجمة الدكتور النعنعي وقد مضى عليها قرابة الخمسة عشر عامًا، ثم تأملت في ترجمة الأستاذ مروان قنواتي، وقد حوت كثيرًا من التوضيحات حول الأسماء التي ذكرها الأستاذ مالك.
وما كنت لأعدل عن ترجمة الأستاذ قنواتي التي بذل فيها من علمه ومعرفته ما يشكر عليه، لولا أنني أردت أن أوائم بين القسم الأول من الكتاب، والقسم الثاني الذي كتبه الأستاذ مالك بالعربية مباشرة.
فالترجمة الحاضرة للقسم الأول من الكتاب ترتكز في أساسها على النص الفرنسي وعمدتها ترجمة الدكتور النعنعي، لكننا استفدنا كثيرًا من جهود الأستاذ مروان قنواتي.
وقد حاولنا قدر الاستطاعة أن نسلك في ترجمتنا للقسم الأول من (مذكرات شاهد للقرن)، أسلوب الأستاذ مالك في ترجمته للقسم الثاني من هذه المذكرات، ذلك أن القسمين سيصدران في كتاب واحد في هذه الطبعة وكانا قد صدرا قبلُ في كتابين منفصلين. فعسى أن نكون قد حققنا هدفنا في التنسيق بين فصول هذه المذكرات التي يأخذ بعضها برقاب بعض.
ومذكرات مالك بن نبي، مذكرات شاهد يتحدث إلينا خلف ستار، وهو يحاول أن ينقل إلينا تبصّره بالأحداث، وما هذه التفاصيل التي يقصها علينا إلا ليجسد رؤيته الفكرية عبرها. فشاهدنا شاهد بصر وبصيرة معًا.
وهي بصيرة صاغتها أحاسيس جزائري امتد به عمق الحضارة الإسلامية إلى حدود الحضارة الغربية الحديثة، فكان نقطة اتصال وتحول كما يقول في بداية شهادته.
فأجيال الحضارة تتناقل دائمًا رسالة سرية ذات رموز، ويحقّ لكل جيل أن يقرأ هذه الرسالة قراءة تختلف عن الجيل السابق، لأن لكل جيل مصطلحًا خاصًا به يفك رموز تلك الرسالة.
1 / 8
هكذا يقول بن نبي في شهادته، وكأنما يريد أن يمنحنا من جديد مصطلحات رموز هذه الرسالة، بعد أن افتقدنا هذا المصطلح، وباتت رسالة حضارتنا رمزًا لا نستطيع له إدراكًا يلج في أعماق جيلنا المعاصر.
مالك بن نبي يحدثنا عن حدود التلاقي بين حضارة مندفعة تحتاح ما أمامها، وحضارة أسلمت مقاليدها للتاريخ وغدت أجيالها في مهب الريح.
كذلك كانت الجرائر وقد اجتاحها الاستعمار الفرنسي. لكن الجزائر عينة من عينات ذلك العالم الإسلامي الذي استقال من مهمته التاريخية، وغدت بقية التراث أشلاء مبعثرة هنا وهناك، لا تصمد أمام طوفان الحضارة الغربية وجحافلها المنتصرة.
هكذا ينقل إلينا مالك بن نبي صورًا من شهادته، إذا صدقت على أجيال الجزائريين من أبناء جيله، فهي صادقة أيضًا على أجيال العالم الإسلامي، والعالم المتخلف بأجمعه منذ بداية هذا القرن.
ولذا فهو شاهد أحداث هذا القرن فيها يروي.
والشهادة هذه ليست شهادة لمعاناة مجتمع مغلوب على أمره، وهي ليست شهادة على مجتمع لا يدرك لدفاعه فعالية الوسائل فحسب، بل إنها أيضًا شهادة على ما أرست حضارة الغرب الحديثة من مصطلحات ومفاهيم ومنجزات، تزري بمسيرة الإنسانية وهي تنشر ثقافتها وجيوشها.
فمالك بن نبي- وهو يروي أدق التفاصيل- لا يغفل عن إبراز القيم الأساسية التي ما يزال يحتفظ بها رجل الفطرة، وقد ورثها من أجيال سابقة حفظت التراث والقيم. وهو في الوقت نفسه يطرح أمامنا تهافت مثقفينا؛ الذين انغمسوا في الثقافة الغربية ومصطلحاتها وواقعها، فانقلبوا في حركتهم التقدمية إلى الوراء، واتخذوا من السياسة سبيلًا إلى قيادة تسير نحو العدم، لأنهم افتقدوا في
1 / 9
ذلك الصخب الذي عانته مجتمعاتنا الإسلامية منذ بداية هذا القرن، سبل الفعالية في المبادرة والاتجاه، وهكذا فاتهم قطار التاريخ.
هذا الكتاب يحمل إلينا دفء الأصالة، ويهزّنا حين يروي لنا صفاء الراعي والبدوي ووفاءه للقيم، والتزامه بما استقر في ضميره من تقاليد هي أقرب إلى روح الحضارة وأرسخ في خطا التقدم.
فالذي حمله المثقفون الجزائريون من الجامعات والمعاهد الفرنسية، والذي نقله الاستعمار من الهياكل الإدارية إلى أرض الجزائر، قد أفسد الرؤية وأنقص قيمة الإنسان، وأحل مكان خرافة المرابطي شيخ الطريقة خرافةَ الزعيم، وهكذا تحطمت بمنطق السهولة المبادرات البناءة التي بدأتها حركة الإصلاح بقيادة (بن باديس).
هذا الكتاب يكشف لنا مكونات فكر بن نبي، وهاجسه العميق الذي رافقه طيلة حياته.
إنه هاجس الحضارة ومشكلاتها. وما كان لبن نبي أن يروي لنا شهادته، لولا أنه قد رغب في تأصيل الأساس الفكري لنهضتا، وآثر الحقيقة والتزم جانب الصدق والكفاح حتى أسلم الروح، لم تفتر له عزيمة في بيان ولم يهن له عزم في كشف كل زيف، تروج بضاعته في أسواق الثقافة ومراكز التوجيه.
إنه شاهد قرن ومبلغ فيه لما شهد. والتبليغ في منعطفات التاريخ رؤية فكرية وروحية معًا. في صيغته وضوح المعالم، وفي حرارته شرارة الإقلاع.
طرابلس- لبنان
٢٢ جمادى الثانية ١٤٠٣هـ
٥ نيسان (ابريل) ١٩٨٣
عمر مسقاوي
1 / 10
القسم الأول
الطفل
(١٩٠٥ - ١٩٣٠ م)
1 / 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقَدّمة
ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب للقارئ، كما هو مألوف، إنما أردت أن أكشف الظروف المثيرة التي ألقت إليّ بهذه المخطوطة فاتجهت لنشر قسم منها في هذا الكتاب.
لكل امرئ ما تعود. ومن عادتي في بعض الأحيان أن أؤدي صلاة العصر في المسجد، حينما يخلو من الذين أدركوا الصلاة وراء الإمام في وقتها.
المكان شبه خالٍ إذن، وكنت أختار هذه الساعة بالذات لأستجمع نفسي في سكينة المسجد.
كان ذلك في مسجد قسنطينة المسترجع بعد ما ظل طوال قرن كاتدرائية المدينة. وكنت قد عدت إلى الجزائر منذ ثلاثة أيام أو أربعة وقد مضى على التحرر سنة كاملة.
عندما خلعت حذائي متأهبًا لدخول المسجد، ألقيت نظرة فاحصة إلى داخله. فالمكان يتحدث بتاريخه أكثر مما يتحدث عنه طراز بنائه. واخترت ركنا في داخل المسجد مجانب المنبر القديم نائيًا بنفسي عن ضجيج الشارع، وكانت أشعة الأصيل تتسرب من خلال الزجاج بين أعمدة المسجد.
وقفت في زاويتي أشرع في الصلاة. وكنت في الركعة الثانية من صلاة العصر أطيل السجود أكثر مما يفعل الناس في الجزائر؛ فهذه عادة حملها الزائرون للديار المقدسة حينما تتاح لهم فرصة المرور بالقاهرة والصلاة في مسجد الحسين بالقرب من الأزهر. وبينما أنا في سجود هذه الركعة تناهى إلى سمعي وقع
1 / 13
خطوات على السجادة ورائي، فما إن اقترب صاحبها مني حتى انسحب إلى الوراء. وعندما رفعت رأسي حانت مني التفاتة لا شعورية إلى جانبي الأيمن، فرأيت على مقربة من ركبتي ربطة حسنة التغليف.
أكملت صلاتي حسب العادة، ثم حيّيت وسلمت ونظرت ورائي فلم أجد أحدًا، ثم نظرت يمنة ويسرة فلم أجد أحدًا؛ فالذي وضع الربطة قد اختفى.
ولكن ماذا في هذه الربطة؟. أخذتها بين يدي فوجدتها مغلفة بعناية بورق مقوى وملتصق جيدًا. وما إن لمستها حتى تبينت أنها كانت تضم أوراقًا، فنزعت عنها الغلاف الخارجي، إنها صفحات مكتوبة بخط دقيق لكنه مقروء جيدًا، وعلى الصفحة الأولى رأيت العنوان (مذكرات شاهد للقرن) مكتوبًا بخط أكبر ذي حروف مستديرة.
قرأت صفحة ثم أتبعتها بأخري. إنه شيء مثير، فكل جزائري يحسن الكتابة من أبناء جيلي يستطيع أن يكتب مثلها.
ثم قرأت بعض الصفحات فوقعت على اسم من يمكن أن يكون مؤلفها.
(صديق) .... من هو الصديق؟
إنه منذ الصفحة الأولى يبدو أنه واحد من مواليد قسنطينة ومن مواليد سنة ١٩٠٥ فهو إذن رجل من أبناء جيلي. هذا كل ما في الأمر.
هل يجب أن أعيد إليه أوراقه، ولأي صديق أعيدها؟
ولكن أليس في نشرها إرجاع لها إليه؟ فربما كانت هذه رغبته بالذات.
فليتقبل القارئ إذن هذا الكتاب على أنه أفكار جزائري أراد أن يتحدث إليه من وراء حجاب محتفظًا باسمه لنفسه.
مدينة الجزائر ٥ أيار (مايو) ١٩٦٦م
مالك بن نبي
1 / 14
كان مولدي في الجزائر عام ١٩٠٥، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حيًا من شهوده، وإلإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده.
هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفترة.
فقد عرفت في عائلتي جدة لي؛ الحاجة (بايا)، عُمِّرت حتى جاوزت المئة. وماتت حين كان لي من العمر ثلاث سنين أو أربع لم أعرفها بما فيه الكفاية، غير أنها أورثت العائلة الكثير من مشاهداتها وذكرياتها القديمة التي انتقلت إليّ بالتالي. فقد سردت على مسامعي فيما بعد جدتي لأمي الحاجة (زليخة)، كيف تركت أمها الحاجة (بايا) وعائلتها مدينة قسنطينة يوم دخلها الفرنسيون.
ففي ذلك اليوم لم يعد لعائلات قسنطينة من همّ، سوى إنقاذ شرفهم، وخاصة تلك العائلات التي كانت تكثر فيها الصبايا. فقد أخلوا المدينة من ناحية وادي الرمل، حيث توجد اليوم في الجهة السفلى مطاحن كاوكي، ومن الناحية العليا الجسر المعلق.
فبينما كان الفرنسيون يدخلون المدينة من كوّة في السور، كانت صبايا المدينة يسرع بهن آباؤهن إلى الجهة الأخرى منه يتدلين هربًا، وكثيرًا ما كانت تنقطع بهن الحبال فتلقي بالعذارى في هوة المنحدر. فمعمَّرتنا (بايا) عاشت هذه المأساة، إذ كان والداها يدفعانها أمامهما عبر أزقة مدينة مذعورة نحو هوة السور، كما قاد إبراهيم قديمًا ابنه إسماعيل إلى مذبح الرب. فكان على جدتي إذن أن تُقَدَّم قربانًا على مذبح وطن ينهار، إنقاذًا لشرف عائلة مسلمة. ولكن جدتي نجت
1 / 15
أخيرًا من مصيرها المرعب. فالحبل الذي تدلّى بها من فوق السور قاوم هذه المرة ولم يلق بحمله فسلمت جدتي، ولجأت مع عائلتها إلى تونس، وبعد سنوات عديدة قامت بزيارة مكة المكرمة لتعود بعدها مع زوجها وأطفالها إلى الجزائر. إنها الآن ميتة ولكن قصتها المحزنة ما تزال حية.
ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصة على مخيلة أحفادها الصغار وأنا منهم، حين كانت تقصها علينا في ليالي الشتاء الباردة ابنتها- جدتي الحاجة زليخة- التي عُمّرت هي أيضًا فبلغت مئة عام.
وهنا أضيف أن هذه المرأة كانت بارعة في قص الحكايات، إذ كانت تشدنا إليها ونحن متحلقون حولها. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد ثلاثين سنة- من هذا التاريخ حينما كنت طالبًا في باريس- قمت ذات يوم مع عدد من رفاقي في الكلية بعملية استبطان. وكان على كل منا أن يجيب على السؤال التالي: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟ لقد أحيا هذا السؤال في نفسي ذكريات قديمة.
كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان وضع عائلتي قد ساء ماديًا، فجدي لأبي باع كل ما تبقى بحوزته من أملاك العائلة، وهجر الجزائر المستعمَرة ليلجأ إلى طرابلس الغرب، فقد هاجر مع الموجة الأولى من الهجرة التي اجتاحت حوالي عام ١٩٠٨ مدنًا كثيرة كقسنطينة وتلمسان، تعبيرًا عن رفض أهالي البلاد معايشة المستعمرين، والذي يعد البذرة الأولى لكثير من الأحداث السياسية التي جرت فيما بعد، وخصوصًا لذلك الشعور بضرورة مقاومة المستعمر الذي تفجر في أول تشرين الثاني (نوفبر) سنة ١٩٥٤.
هذه الهجرة رافقتها تحولات اجتماعية كانت تتم تدريجيًا في محيط مدينة قسنطينة، التي ما تزال تحافظ على المظاهر في الإطاار الاستعماري، إلا أن نظمها التقليدية وعاداتها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم
1 / 16
الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الجن، وحلقات الذكر عند الحنصالة والرحمانية والتيجانية، وخاصة العيسوية، كل ذلك كانت تقيمه عائلات المدينة في أبهة وروعة كما كان يجري في الماضي، مع أن مواردها لم تعد تسمح بذلك. ولو شاءت عائلة عرفت منذ قديم الزمان بالغنى أن تزوج ابنًا أو بنتًا لها، لاضطرت أن تبيع بيتها، لتقوم بالمراسم المعتادة التي تليق بها.
لقد احتفظوا بالمظاهر فيما هم فقدوا الجوهر، إلا أن المظاهر بدورها لم تسلم في النهاية من التغيير. فهذه العادات الأخلاقية والاجتماعية قد اعتراها التحول. وقبل مولدي ببضع سنوات لم يعد أهل المنارل يضعون في المشكاة التي كانت بجانب الأبواب، طعامًا للفقراء يكفيهم السؤال بصوت مرتفع وهم يطرقون الأبواب.
لقد شاع الخمر وشاربوه. وبدت بوادر استغلال الثقة والمخالفة لتقاليد البلاد العريقة في الظهور، فيما نكفأت تتوارى شيئًا فشيئًا تلك التقاليد.
ومنذ طفولتي اختفت عادة تضامنية جميلة تقضي بأن يعير الجار عروس جاره حلي الزفاف. لقد اختفت هذه العادة لأن كثيرًا من الحلي المعارة في أحد الاحتفالات لا تعود لأصحابها.
أما على الصعيد الاجتماعي فقد كان تدهور الإطار التقليدي أبلغ في الوضوح. فبعض النقابات المهنية كنقابة النساجين كانت قد اختفت منذ بعيد، فيما ظلت أخرى تقاوم قبل أن يدركها الأفول. لقد ولّت واحدة تلو أخرى لتخلي مكانها لما يستورد من السلع المصنوعة.
كثير من شوارع قسنطينة القديمة لا تزال محتفظة بأسمائها القديمة مثل: رحبة الصوف وسباط شبارليه (١)؛ مع أن تلك الجمعيات المهنية التي ازدهزت قديمًا
_________
(١) الشبرلة: حذاء النساء (ترجمة الأستاذ قنواتي).
1 / 17
والتي أعطت الاسم للشارع اختفت منذ زمن بعيد.
لقد بدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق ويسوده الفقر من تحت، حتى ملابس الرجال شملها هذا التطور المتدهور: ففي شوارع قسنطينة بدأت تختفي العمائم والبرانس والملابس المصنوعة من الأقمشة المطرزة. والمخازن التي كانت تصنع فيها تلك السلع- كمخازن الصدارين- بدأت تقفل واحدة تلو الأخرى. وأخذت تظهر أكثر فأكثر في هذه الشوارع البضائع الأوروبية، وأحيانًا الأثواب المستعملة المستوردة من مرسيليا.
مظهر المدن إذن أخذ يتغير من هذه الناحية، ثم من ناحية أخرى فإن تجمع الأوربيين الذي بدأ يتكاثر شيئًا فشيئًا، وأبناء الجالية اليهودية الذين أصبحوا فرنسيين دفعة واحدة، قد أدّى ذلك كله إلى أن تكون لهؤلاء مقاهيهم ومتاجرهم ومطاعمهم ومصارفهم وكهرباؤهم ومخازهم ذات الواجهات الجميلة. هذا كله أخذ يضفي على المدينة طابعًا جديدًا، فحياة السكان الأصلية أخذت تتقلص لتنعزل في الشوارع الضيقة وزقاق سيدي راشد.
لقد كان لهذه التغيرات علاوة على أثرها الأخلاقي والاجتماعي، تأثير نفساني مضنٍ على أولئك المسنين الذين كان جدي أحدهم، فكل ما يجري حوله كان يدفعه لترك الجزائر، إلا أن والدي لم يرافقه في هجرته لأن أمي كانت تتمسك بالبقاء قرب أهلها، الذين استقروا في تبسة منذ حوالي نصف القرن. ولما كان جدي الذي هاجر برفقة شقيق له وابن له هو عمي، قد حمل معه كل ما تمكن من حمله، فقد بقي والدي ردحًا من الزمن في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل.
لقد كانت هذه الفترة من حياة عائلتي شديدة العسر. إذ مات عمي الأكبر في قسنطينة، وكان قد تبناني منذ أمد بعيد، مما جعل زوجه تعيدني إلى أهلي في تِبِسَّة على الرغم مما خلف ذلك من أسى في نفسها وفي نفسي. لقد فعلت ذلك لأن مواردها لم تعد تسمح لها بإعالتي.
1 / 18
وعلى هذا فقد انضمت إلى زمرة أطفال تبِسَّة، وفي هذا الوسط الجديد في عائلة مفرطة في الفقر أخذت أتعرف إلى جدتي لأمي، وسمعت الكثير من أقاصيصها وحكاياتها التي كان محورها العمل الصالح وما يليه هن ثواب، وعمل السوء وما يتبعه من عقاب. وكانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري. فمنها عرفت أن الإحسان في مرتبة عليا من الأخلق الإسلامي. وإحدى حكاياتها عن الإحسان جعلتني أنا ابن السادسة أو السابعة من عمري أقوم بعمل ربما كان على ما أعتقد أسمى ما قمت به في حياتي.
ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائمًا فارغًا.
ولا أزال أذكر كيف أنها اضطرت ذات يوم لكي تدفع لمعلم القرآن الذي يتولى تدريسي، بدل المال سريرها الخاص، وأذكر أنه كان مصنوعًا من عدة ألواح من الخشب رفعت على صقالتين. وكان هذا يسمى في الجزائر آنذاك (السدّة).
وموارد العائلة كما ترى كانت هزيلة، إلا أننا كنا نحصل على قوتنا بفضل حسن تدبير أمي وانكبابها الليالي الطوال على عملها. ولكن أمي في إدارتها لشؤون العائلة كانت تعرف أن ما يحصل عليه أطفالها من غذاء غير كاف، فكانت تسد هذا النقص بعمل إضافي أيام الجمع. كان هذا العمل الإضافي يعطينا شقيقتي وأنا يوم الجمعة قطعة من (الرفيس) وهي حلوى تبسية تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت.
وفي ظهيرة يوم الجمعة أخدت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلًا ينادي: «أعطوني من مال الله»، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت يإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه.
1 / 19
بعد ربع قرن من هذا الحادث وكنت قد أصبحت رجلًا، أخذت أدرك إلى أي حد كنت مدينًا لتلك الجدة العجوز.
والآن من الواجب أن ألاحظ في هذه المذكرات أنه في تلك الفترة البائسة حين لم تكن البلاد تمسك بمقاليد وجودها، ولا همّ للشباب قبل الحرب العالمية الأولى سوى الاستقرار بقدر الإمكان في الإطار الاستعماري، كان جدي القديم وجدتي يتشبثان برصيدهما التاريخي الأصيل، بتلك التقاليد وهذه الروح التي لولاها ما استطاعت البلاد أن تعود لصياغة تاريخها من جديد.
ومهما يكن من أمر فعندما عدت إلى عائلتي في تبِسَّة، عدت إليهم وقد ارتسمت في نفسي انطباعات واضحة خلال إقامتي في قسنطينة عند عمي وزوجه.
ولعل فقداني لما اعتدت عليه في مدينة الباي، كان يزيد في تأثير بيئة تلك المدينة على ذهني. ولهذا فقد ظلت قسنطينة تستقطب تفكيري طيلة سنوات طفولتي. ولكن تبسة أصبحت هي الأخرى مجال استقطاب آخر أضاف إلى ذاتي طابعه النفسي أيضًا.
ففي هذه الفترة كانت المدينة قابعة تقريبًا داخل حدودها البيزنطية القديمة، أعني داخل الأسوار التي بنيت سريعًا دون تنسيق لمواجهة غزو الفندال. وأضيف إلى المدينة أيام الحكم العربي ضاحية بنيت خارج الأسوار (مشتى) يسمونها الآن الزاوية؛ ولعلها سميت كذلك نسبة إلى سيدي عبد الرحمن، أحد الأولياء الصالحين. ويؤم هذه الضاحية عادة بعض رجال القبائل المجاورة (ليموشي واليحياوي وعبديس) ولعلهم يفضلون الإقامة فيها على المدينة ليبقوا قرب مواشيهم.
في هذا الإطار قضيت القسم الأهم من طفولتي.
1 / 20
وكان للعائلات المقيمة داخل المدينة أيضًا قطعانها من الأبقار ترسلها باكرًا لترعى خارج المدينة. فكانت تتجمع في الصباح عند باب (كراكلا) ويسميه المسلمون الآن باب (سيدي سعيد)، ليدعها تعود في المساء وحدها إلى حظائرها تضج بها أزقة المدينة كما تملؤها بما تلقي خلفها من أقذارها. ثم أضاف الحكم الاستعماري إلى المدينة القديمة الطابع، ضاحية إدارية أقام فيها الوحدات المختلطة لدينتي (تبسة ومرسوت)، وأخرى سكنية لإقامة الأوربيين من الموظفين ومعلمي المدارس ورجال الجمارك ورجال الدرك مع طبيب واحد أو طبيبة.
فالإطار الذي سأقضي فيه شبابي يحكي باختصار قصة ألفي عام من تاريخ الجزائر. فبيئة تبِسَّة تختلف في عدة نقاط عن محيط قسنطينة حيث قضيت السنوات الأولى من طفولتي.
لقد نجت بنسبة كبيرة من تسلط الواقع الاستعماري الذي سيسمى فيما بعد (الحضور الفرنسي)، وهذا ناتج من أن طبيعة المنطقة كانت تشكل نوعًا من الدفاع الذاتي ضد الأوربيين. ذلك أن تربتها لم يكن فيها ما يستهوي المعمر الأوربي، ففيها كنت ترى الدركي وبوليس الجمرك سابحين، في محيط من لابسي البرانص، خاصة في الأيام التي تقام فيها الأسواق، فاحتكاكها بالقبائل المجاورة قد حفظ لها طابعًا شبه بدوي مع شيء عن مظاهر حياة قبلية رعوية تفوح منها رائحة الحليب والخمير التي تَأَلَّفَت الأزقة.
لم تكن النظم التقليدية لهذه المنطقة تفسح المجال كثيرًا- كما هي الحال في الحواضر الكبرى- للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الوجود الاستعماري. فالسكان هنا لم يتخلوا عن فضائلهم وتقاليدهم. فلا يزال طعامهم الشائع الكسكسي والفطائر وشرابهم الماء القراح. لقد تمكنت تبسة من المحافظة على روحها القديمة وعزتها بفضل بساطة الحياة فيها وجدب تربتها. وهكذا
1 / 21
فبانتقالي من قسنطينة إلى تبسة، وجدتني في إطار جديد أمام عناصر ومؤثرات تختلف عن سابق نشأتي.
في تِبسَّة تختلف وسائل اللعب عنها في قسنطينة، فأطفال مدينتي الأولى قسنطينة أَكثر رفاهية وبالتالي فقد كانت لعبهم أكثر أناقة ورقة، فالصغار منهم يتلهون بلعب صغيرة صنعت محليًا من خشب ملون، فهي أشبه ما تكون بتلك الصناديق الرخيصة الثمن التي كانت تحملها عرائس قبائل تبسة ضمن جهازها، والذين هم أسنّ كانوا يلعبون بالقفز أو بلعبة أخرى هي (الكينة quinet). في تِبسَّة كانت اللعب تعتمد على مزيد من القسوة والصلابة المتأثرة بالتقاليد المحلية، وبعضها كان أحيانًا يقترب من السحر والشعوذة.
هناك أيضًا الألعاب الموسمية، ففي الربيع تجري المباريات الرياضية بلعبة (الكورة) بين أبناء المدينة وأبناء الزاوية، وكثيرًا ما كان بعض الكبار يشتركون فيها؛ أما الكورة فكانت عبارة عن عقدة من غصن سنديان أو أنها مصنوعة من شعر الماعز. أما قاعدة اللعب فتقضي بأن يحاول كل فريق توجيه كرته إلى أرض الفريق الآخر، بواسطة عصا صنعت من غصن سنديان معكوفة عند طرفها شويت على نار خفيفة (الخوص)، ولعلها تشبه إلى حد ما العصا المستعملة اليوم في لعبة (الجُلف).
وهناك لعبة أخرى ربما كانت أخطر، وهي عبارة عن حرب صغيرة تقوم بين صبية تبسة وأولاد الزاوية. وهذه معروفة أيضًا في قسنطينة حيث يتقابل بضراوة أبناء حي القنطرة مع صبية باب الجدابية. على أن أكثر ما كان يثير اهتمامنا نحن أبناء تبسة السطو. كان يحيط بالمدينة منطقة خضراء يقوم بعض المزارعين باستغلالها في إنتاج الخضار، وفي موسم الخسّ والفواكه كنا نحن الأطفال نغرو هذه الحقول ونسطو على ما يتيسر من إنتاجها. بل كثيرًا ما كان الأطفال يهربون من مدارسهم جماعات جماعات ليغيروا على هذه الحقول. ولعل أطفال
1 / 22
المدينة قد أسهموا مع تطور الحياة في تحويل هذه الجنائن إلى أرض موات، قسمت فيما بعد إلى قطع معدة للبناء عند ضاحيتي باب زعرور وباب الزواتين.
أما أنا فكانت لي أماكن مفضَّلة وكذلك أيام مفضلة، فكان يطيب لي أن أسطو على شيء من الأثمار بعد ظهر كل أربعاء. ففي هذا اليوم بالذات كان معلم المدرسة- ولم أكن بعد قد دخلت المدرسة الفرنسية- يصرفنا قبل موعد الانصراف، بعد أن يكون قد حصل من كل طفل على قطعة نقدية من فئة القرشين، وهذا ما كان يوفر لي الوقت اللازم للسطو على البساتين.
في تلك الساعة من بعد الظهيرة كانت الشمس عادة تلف المدينة بأشعة ذهبية رائعة، مما كان يجعلني أجد متعة كبرى في اللعب على أرصفة شارع قسنطينة أو في ساحة (كارنو Carnot) حيث أقيم كشك للموسيقا، اعتاد الفرنسيون أن يرقصوا على أنغامه في ليالي الرابع عشر من تموز. ولا أزال أذكر تلك الأمسية من بعد ظهر أربعاء ركلني فيها أحد الأوربيين لأنني دست على قدمه بينما كنت ألعب على الرصيف. وكان اللعب قرب الأسوار بالذات يطربني إلى حد كبير، إذ كان يجعلني أشعر وكأنني أنتقل إلى عالم آخر.
في زوايا أخرى من المدينة كان يخالجني شيء من الاضطراب، فحين كنت أمر بصحبة أختي الكبيرة أمام الكنيسة كنت أتطلع باستمرار إلى جرسها، إذ كانت تتملكني فكرة لم أبح بها لأحد مطلقًا. كنت أعتقد أن شقيقتي الصغيرة وردة - التي لم أعرفها لأنها توفيت وأنا ما أزال رضيعًا- سجينة داخل الكنيسة كما لو كانت كنزًا سلب من أحد وأخفي في مكان أمين لا تصل إليه يد.
لم تكن الزاوية القادرية بعيدة كثيرًا عن منزلنا. وكان العرف آنذاك يقضي في حفلات الزواج والختان، بأن تواكب نوبة الزاوية العريس ليلة زفافه والطفل يوم ختانه. وما إن يصل إلى مسامعي إيقاع الضربات الأولى للنوبة حتى أبادر إلى الخروج، وحين كان يحدث ذلك عند الظهر كنت أعرف أنه
1 / 23