مرگ مرد تنها روی زمین
موت الرجل الوحيد على الأرض
ژانرها
صمت مسعود قليلا ثم نادى عليها: يا بنت يا فتحية، تعالي هنا بسرعة؟
وحينما لم ترد، صعد إليها فوق الفرن وضربها وشدها من شعرها وسلم يدها ليد الشيخ التقي الصالح.
ضغط الشيخ حمزاوي يده فوق عصاه وهو يفتح الباب ليخرج، وأرهفت فتحية أذنيها من خلف الجدار وهي تسمع عصاه تخبط الأرض مع خبطات قدميه، الصوت نفسه لا يزال في أذنيها ولكن من خلف الشال السميك الذي كانوا يغطون به رأسها وجسمها، وهي تركب الحمارة ليلة زفافها وإلى جوارها يمشي الشيخ التقي الصالح بعصاه، وأبوها بجلبابه الجديد، وأم صابر بملاءتها السوداء. لم تكن ترى أم صابر من خلف الشال السميك، لكن ضغط أصبعها الحاد كان لا يزال كالمسمار المدبب بين فخذيها، يضغط ويضغط داخل اللحم باحثا عن الدم. لم تر البشكير الأبيض الذي غرق بدم العذرية الأحمر، لكن الزغاريد والطبل رن في أذنيها فمدت كفها الصغيرة من تحت الشال السميك ومسحت عينها وأنفها من العرق الذي كان يتصبب من جذور شعرها غزيرا يسيل فوق وجهها وخلف عنقها ويهبط في صدرها وظهرها، ويغرق ظهر الحمارة.
ظهر الحمارة كان محشورا بين فخذيها، يضغط على الجرح الذي كان لا يزال ينزف، ومع كل خطوة، وكل دقة طبلة، تهتز الحمارة ويرتطم ظهرها النحيل الصلب بالجرح المفتوح. وتنفرج شفتا فتحية عن صرخة مكتومة غير مسموعة، وتحس الدم الساخن يسيل من الجرح ويلتقي بالعرق اللزج الهابط من ظهرها ليبلل ظهر الحمارة من جديد.
حين وصلت الحمارة إلى بيت الشيخ التقي الصالح، وحملوها وأنزلوها على الأرض، لم تستطع الوقوف على قدميها فسقطت بين الأذرع التي حملتها كما تحمل زكيبة القطن وأدخلوها البيت.
لم تعرف أنها تركت الشارع وأصبحت داخل البيت إلا من الرائحة الراكدة الكريهة التي وصلت إلى أنفها، ظنت أن هذه هي رائحة التقوى والصلاح، لكنها تصل إلى أنفها كريهة بسبب فسادها هي وليس أي شيء آخر. لم تكن تعرف ما هو فسادها بالضبط، لكنها منذ طفولتها وهي تحس أنها فاسدة أو أن شيئا في جسدها فاسد، وحينما جاءت أم جابر وقالت لها إنها ستطهرها وتقطع من بين فخذيها الجزء الفاسد فرحت بسذاجة طفلة في السادسة، وذهبت أم صابر بعد أن قطعت الجزء الفاسد، وظل الجرح المؤلم ينزف أياما، لكن الفساد ظل في جسدها، تحسه في أعماقها كالبؤرة الفاسدة التي تنزف دائما، وفي أيام الحيض ترى النفور في عيون من حولها.
أما الشيخ حمزاوي فكان يبتعد عنها أيام الحيض كما يبتعد البريء عن الأبرص، وإذا ما لمست يده خطأ ذراعها أو كتفها استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وذهب إلى دورة المياه وغسل نفسه خمس مرات وتوضأ، ولم يكن يسمح لها أن تسمع القرآن أو تقرأه خلال هذه الأيام، فإذا ما انتهى الحيض واستحمت وتطهرت سمح لها بالصلاة، وتلاوة القرآن. لم تكن فتحية تعرف كيف تصلي، ولم يعلمها أحد شيئا من القرآن، وأصبح الشيخ حمزاوي يعلمها شيئا من القرآن. كل ليلة قبل أن تنام تجلس على سجادة الصلاة أمامه ويعلمها كيف تصلي. لم تكن تفهم الكلمات التي يرددها؛ كانت كلمات صعبة عليها وتسأله عن معناها، لكنه كان يرد عليها بشدة وحزم قائلا: «إن كلمات الله وتعاليم الصلاة تتلى علينا لنحفظها عن ظهر قلب لا لنفهمها.» وحاولت فتحية أن تحفظ الآيات والتعاليم عن ظهر قلب، ويرن في أذنيها صوت الشيخ حمزاوي مرددا: «أركان الصلاة هي الركوع، السجود مرتين في كل ركعة، الجلوس الأخير للتشهد ويجب التشهد فيه. أما سنن الصلاة فهي ستر الجسم من وسط البطن إلى تحت الركبتين عند الذكور، أما الأنثى فتستر جسمها كله ما عدا وجهها وكفيها، ثم الوقوف عندما تبدأ الصلاة، الرأس معتدل، والقدمان معتدلتان، ثم رفع اليدين حذاء الأذنين عند التكبيرة في حالة الذكورة، أما الأنثى فترفع يديها حذاء منكبيها، والمنكب هو ما بين الكتف والرقبة، ثم وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت وسط البطن في حال الذكور، أما الأنثى فتضع يدها على صدرها. هيئة الركوع والسجود يجب أن تكون تامة، وتقولين وأنت راكعة: «سبحان ربي العظيم» ثلاثا، وتقولين وأنت ساجدة: «سبحان ربي الأعلى» ثلاثا. أما مبطلات الصلاة فهي أن تتكلمي بكلام خارج عن الصلاة، أن تضحكي في الصلاة، أن يحدث ما ينقض الوضوء وأهمها خروج هواء من الأمعاء.»
كل ليلة تجلس فتحية فوق سجادة الصلاة تتدرب على الركوع والسجود، وتسمع عن ظهر قلب آية الكرسي والنفاثات في العقد، ويثقل جفناها بالنوم فتنام وهي راكعة على سجادة الصلاة، في أذنيها ترن كلمة الله، وبين ساقيها تزحف يد الشيخ حمزاوي، مستسلمة للنوم كأنه رجل، فاتحة ساقيها، وتنام وهي تصلي لله.
كان الشيخ حمزاوي لا يزال يخطو بعصاه خارجا من بيته، وأذنا فتحية ملتصقتان بالجدار تتسمع صوت عصاه أو صوت قدمه لو تعثرت في شيء. كان ضعيف البصر ودائما تتعثر عصاه أو قدمه في شيء قد يكون أرنبا أو جروا ميتا، أو حجرا أو قطعة زلط يقذفها بعصاه بعيدا عن الباب. وقد تدوس قدمه أحيانا على طرف قفطانه وهو يجتاز العتبة فيتعثر، أو ينغرس حذاؤه في قطعة روث أو براز كلب بات الليل أمام الباب، وتهتز السبحة دائما في يده متمتما ببعض اللعنات يصبها على رءوس الناس والكلاب معا.
تعثرت قدمه هذه المرة في شيء لا هو بالأرنب ولا هو بالجرو، كما أنه ليس ميتا بل هو حي يتحرك، فزع أول الأمر وظن أنه عفريت أو جنية من جنيات النيل، لكنه سمع الأنين الخافت ورأى الوجه الوردي الصغير والعينين المغمضتين الدامعتين والفم المفتوح المرتعش الذي يلهث.
صفحه نامشخص