موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي

سليم حسن d. 1381 AH
120

موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي

موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي

ژانرها

ثم يقول: إني أعطيت خبزا للجائع، وملابس للعريان ... وحبوبا، وثيرانا وفلاحين من أوقافي ... إلخ.

وقد ترك «إبي» وريثا له على مقاطعتيه ابنه «زاوشما»، ولكن يظهر أنه لم يعمر طويلا فورثه ابنه وسميه «زاو»، وكان كذلك حاكما على «طينة»، وقد دفن مع والده «زاوشما» في المقبرة التي أقامها له في جبانة «هراكنبوليس» في عهد «بيبي الثاني».

وقد ذكر لنا كيف دفن والده بكل عظمة وأبهة ونجد ذلك كثيرا على مقابر هذا العصر ولكن الأمر الذي يلفت النظر في هذه النقوش أنه أظهر رغبته في أن يدفن مع والده في القبر الذي أقامه هو له، ولم يكن ذلك من عجز كما يقول في عمل مقبرة أخرى له خاصة ولكن حبا منه في أن يكون على مقربة من والده ويراه كل يوم، فيقول: لقد دفنت والدي الأمير «زاو» بطريقة فاخرة جميلة أحسن من أي فرد من أسرته الذين في الجنوب، وقد التمست أن يشرفني جلالة سيدي ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر كا رع» (بيبي الثاني) عاش أبديا بمنحي تابوتا وملابس وعطورا جنازية لوالدي «زاو» هذا، وقد أمر جلالته مدير الأوقاف بأن يحضر تابوتا من الخشب وكذلك زيت العيد، وملابس و200 قطعة من الكتان الممتاز ومن كتان الجنوب الرقيق، وأقمشة تصرف من بيت المال «البلاط المزدوج» لوالدي «زاو» هذا على أن هذه الأشياء لم تعط قط لأحد في نفس هذه المنزلة.

وكذلك وصيت أن يكون دفني في نفس القبر مع «زاو» هذا حتى أكون في صحبته في نفس المكان، ولم يكن ذلك عن عجز مني لبناء مقبرة ثانية، ولكني فعلت ذلك رغبة مني في رؤية «زاو» هذا كل يوم، ولأني أريد أن أكون معه في نفس المكان.

هذه صفحات من أخلاق هذا العصر وعاداته، وهي في الحق تكشف لنا عن نواح طريفة مختلفة في حياة المصري رغم أنها قد كتبت على القبور. والباحث في تاريخ مصر لا يمكنه أن يصل إلى معرفة تاريخ البلاد إلا بتحليل مثل هذه النقوش واستنباط الحقائق التي نراها قد جاءت عفوا وعن غير قصد، والواقع أنا نجد في أسرة «زاو» دروسا عدة من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية؛ فقد كانوا هم القابضين على زمام البلاد في عهد «بيبي الأول» و «بيبي الثاني» لما كان لهم من المكانة في البيت المالك لقرابتهم له ولما لهم من المجد القديم؛ إذ كانوا حكام مقاطعتين وراثيتين من أعظم مقاطعات البلاد، وكذلك لأنه كان منهم الوزير وحاكم الجنوب، ولكن رغم كل هذا فإن عوامل الضعف كانت قد أخذت تدب في البلاد، وكانت قوة الملك أخذت في التدهور شيئا فشيئا مما سنفصله بعض الشيء هنا؛ إذ بعد اختفاء «بيبي الثاني» هوت البلاد دفعة واحدة إلى الحضيض ولم تقم لها قائمة مدة طويلة من الزمان، والأسباب التي أدت إلى ذلك سنشرحها ببعض التفاصيل فيما بعد.

وخلف «بيبي الثاني» فرعون آخر يدعى «مرن رع محتي إم ساف»، غير أننا لا نعرف شيئا عن حكمه. وتولى العرش بعده كما يقول «مانيتون» ملكة تدعى «نيتوكريس» التي كانت تعد أجمل نساء عصرها، وكانت شقراء اللون، وقد تكلمنا عن هذه الملكة والملابسات التي حدثت في اسمها واسم الملكة «خنت كاوس» عند الكلام عن الأخيرة، ولا غرابة فإن نهاية الأسرة السادسة كانت غامضة، ولم نعثر في الآثار للآن على ما يكشف لنا القناع عن الحقيقة وربما بقي ذلك سرا غامضا إلى الأبد؛ لأن خاتمة الأسرة كانت عصر ثورات واضطراب لم يقم فيه من الآثار ما ينير لنا الطريق.

الفصل الثامن عشر

سقوط الدولة القديمة والثورة الاجتماعية

لقد كانت سلطة الفراعنة في الأسرة السادسة آخذة في التدهور شيئا فشيئا وبخاصة في عهد الفرعون «بيبي الثاني» الذي حكم البلاد أكثر من ثلاثة أجيال، وقد انتهى الأمر بعده بانحلال البلاد وتفشي الثورة فيها مما قلب الأمور رأسا على عقب كما سيأتي شرحه، ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين هامين؛ الأول: إغارة الأجانب من البدو على البلاد من جهة ، والحروب الداخلية من جهة أخرى، وتفصيل ذلك أن البدو رغم الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم في عهد «بيبي الأول» لم يفقدوا الأمل في غزو البلاد المصرية التي كانت في تلك الفترة تزخر بالثراء والغنى، وقد سنحت لهم الفرصة في عهد الملك «بيبي الثاني» لنيل مأربهم؛ إذ كانت الأحوال مهيئة لهم، فقد كان كل حاكم من حكام المقاطعات الوراثيين منهمكا في المحافظة على مقاطعته التي كانت تعد بمثابة مملكة صغيرة مستقلة.

أما في الوجه البحري الذي كان فيه مقر الملك، فيحتمل أن القوم كانوا ملتفين حول الملك بعض الشيء، ودافعوا عن بلادهم، غير أنه ليست لدينا وثائق تاريخية تحدد لنا الموقف بالضبط، ولكن على أية حال كان موقف الحكومة المصرية في هذا العهد في حالة يرثى لها، حتى إن الشعب انتهز هذه الفرصة، وقام بثورة اجتماعية طاحنة امتد أمدها أكثر من قرنين من الزمان كانت البلاد ترزح خلالها تحت عبء ثقيل من الفوضى والخراب؛ إذ كان سلطان فرعون قد زال وأملاكه قد اختفت والحقوق المدنية والدينية قد تولاها كل من كان في قدرته أن يبسط يده عليها، وأخذ كل شخص يغير على ما يستطيع أن يصل إليه، ضاربا بكل نظام وقانون عرض الحائط، وقد كان من جراء امتداد هذه الفوضى أن ساد البلاد الخوف وانتشر القحط وعم الانحلال الخلقي وعدم المبالاة بالتقاليد الدينية والمعتقدات الموروثة، وليست لدينا وثائق تاريخية تنير لنا الطريق خلال هذا العصر المظلم، اللهم إلا معلومات ضئيلة جدا، ولكن من جهة أخرى قد أسعفتنا الوثائق الأدبية الشعبية؛ إذ الواقع أن أزمة هذا العصر طال أمدها فأثرت على أذهان القوم، وبخاصة على أفكار الحكماء وأهل الفكر وعلى خيال القصاصين، فنراهم يصورون ما حاق بالبلاد من ضنك وشدة وما قاست من ويلات وخراب بعبارات مؤثرة جدا خارجة من الأعماق، وأهم كتاب وصل إلينا من هذا العصر هو «تحذيرات نبي» وهو من الكتب الأدبية النادرة في حسن تركيبها وتأثيرها في النفس، حتى إن أدباء العصور التي تلت كانوا يتخذونها نموذجا أدبيا يدرس في المدارس، ومن المرجح جدا أنها كتبت في عهد الأسرة التاسعة والعاشرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه القطعة الأدبية تصف لنا أول انقلاب اجتماعي في آخر عهد الدولة القديمة الذي كان سببه الفوضى، ويشبه في تصويره حالة البلشفية المتطرفة في تاريخ العالم.

صفحه نامشخص