قد يقال عن «مور» أحيانا، إنه فيلسوف واقعي جاء معارضا للفلسفة المثالية، لكن الجديد في «مور» هو منهجه لا فلسفته الواقعية ، فلئن رأيته متفقا مع الواقعيين في قبول وجود الأشياء الخارجية، فهو مختلف معهم في أساس القبول، هم يقبلون وجود الأشياء الخارجية على أساس مبررات عقلية يدلون بها، وأما هو فيقبل وجود الأشياء الخارجية على أساس أن «الفهم المشترك» يقضي بذلك، ولا حاجة بعد ذلك إلى برهان، ففيلسوفنا «مور» لا يرى ما يبرر إقامة الدليل على صدق «الفهم المشترك»، وكل محاولة في هذا السبيل عبث لا طائل وراءه، ولا فرق في ذلك عنده بين مثاليين وواقعيين؛ لأن الطائفتين كلتيهما تحاولان إقامة مثل هذا الدليل، فأما المثاليون فيقيمون الأدلة الباطلة الفاسدة على أن «الفهم المشترك» لا يدرك الصواب، وأما الواقعيون فكذلك يقيمون الأدلة الفاسدة لإثبات ما يدركه «الفهم المشترك» إدراكا صائبا.
المثاليون ينتهون بأدلتهم إلى نتائج ينكرها «الفهم المشترك»، فيكفي ذلك بيانا لبطلان نتائجهم وصرفا لنا عن مراجعة أدلتهم، والواقعيون ينتهون بأدلتهم إلى نتائج يؤيدها «الفهم المشترك»، فنحن نقبل النتائج، ونصرف النظر عن الأدلة، إذ لا حاجة لنا إليها.
فالوضع الحقيقي الذي يحتله «مور» ليس هو أنه واقعي يهاجم المثالية، بل هو أنه عدو للفلسفة التأملية، ومعارض للميتافيزيقا مثاليها وواقعيها على السواء،
7
ولو صورنا موقف «مور» بصورة (رمزية) كانت كما يلي: «س حقيقة واقعة أدركها بالفهم المشترك، لكن النظرية ص التي يقولها الفيلسوف الفلاني تتناقض منطقيا مع س، إذن تكون النظرية ص باطلة.»
وهذا بعينه هو موقفنا في الأبحاث العلمية وفي الحياة اليومية على السواء، فنحن في هذين المجالين لا نتردد لحظة في رفض أية نظرية نراها تتناقض مع الحقائق الواقعية التي نعرفها، ولم يشذ عن ذلك إلا الفلسفة، ففي الفلسفة وحدها لا يخلص الفلاسفة لأنفسهم، فتراهم يعرفون شيئا على أنه حقيقة واقعة، ويرتبون حياتهم العملية في غير تردد ولا ارتياب على أساس ما يعرفونه، لكنهم إذا ما جلسوا على مقاعدهم «يتفلسفون»، فليس ما يمنع لديهم أن ينسجوا نظريات يدافعون عنها، مع أنها تناقض الحقائق الواقعة التي يعرفونها ويقيمون حياتهم العملية على أساسها، ولقد استطاع الفلاسفة أن يؤمنوا بينهم وبين أنفسهم إيمانا يسلكونه في عقائدهم الفلسفية، بقضايا تتناقض مع ما يعلمون هم أنفسهم أنه صواب.»
8
3
إذا دلني «الفهم المشترك» على صدق قولي بأنني الآن أمسك قلما أكتب به، فليست المشكلة عند «مور» هي أن أسأل: هل هذه معرفة صادقة حقا؟ بل المشكلة هي أن أسأل: «ما تحليل هذه العبارة التي أقولها؟» وذلك لأن صدق العبارة لا يرقى إليه شك ما دام «الفهم المشترك» هو وسيلة الإدراك، فكيف يقوم «مور» بعملية التحليل، هذه التي جعلها - وجعلها معه معظم الفلاسفة المعاصرين - محور الفلسفة كلها؟
الحق أن الفلسفة التحليلية ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب - كما قدمنا لك القول في الفصل الأول - بل تستطيع أن تلتمس أصولها عند الأقدمين؛ عند سقراط في محاولته توضيح المعاني، وإن يكن قد قصر نفسه على المدركات الأخلاقية وحدها، وتستطيع كذلك أن تلتمسها عند أفلاطون وهو يحاول في الجمهورية أن يحلل معنى «العدالة» مثلا، وعند أرسطو في منطقه.
صفحه نامشخص