إننا بهذه العملية التحليلية لا «نبرهن» على المبادئ، بل نكشف عنها، وإنما يكون «البرهان» هنا منصبا على العبارة التي نحللها، فنقول: إنها قد تأيدت بالبرهان حين نعثر على المبدأ الذي ترتكن إليه. وما الذي يحملنا على التسليم بهذا المبدأ؟ لا شيء، إلا أننا افترضنا فيه ضرورة التسليم، ومجرد كونه «فرضا» نفرضه ونزعمه يجعله واجب القبول؛ لأن الفرض لا يقال فيه: إنه صادق أو كاذب، فإذا قلت مثلا: «على فرض احتفاظ الأشياء بذاتيتها، فإن هذا المكتب الذي أمامي يكون هو المكتب الذي كان أمامي بالأمس.» فليس من حقك هنا أن تقول عن الفرض شيئا، ولا أن تطالبني بالبرهنة عليه، لكن من حقك أن ترى هل النتيجة التي رتبتها على الفرض تترتب فعلا عليه أم أني أخطأت استدلال النتيجة من الفرض المزعوم؟
المبادئ الأساسية المنبثة في أحكام الناس ينكشف الغطاء عن وجودها بعملية التحليل، ولا يكون الكشف عنها برهانا عليها؛ لأن البرهان على شيء يكون بإرجاعه إلى سند، والمبدأ الأساسي لا يستند إلى شيء وراءه، بل هو الذي يقف وراء أحكامنا ليسندها ويؤيدها، فإذا فرضت في علم الهندسة بعض المسلمات ثم استنتجت منها نظريات، فالبرهان لا يكون هنا إلا على النظريات بإرجاعها إلى المسلمات التي تستند إليها وتتفرع عنها وتشتق منها، أما المسلمات نفسها فينبغي قبولها؛ لأنها فروض مفروضة لتكون أساسا لما سيأتي بعدها من استدلالات، ولقد صدق من قالوا: إنك لا تستطيع المناقشة مع من يخالفك في المبدأ، فهذا صحيح؛ لأن المبدأ الأساسي الذي يكون بمثابة الأم الأولى يتولد عنها كل الأفكار بعدئذ، أمر يفرض فرضا، فلو دخلت معي في هذا الفرض كان لك حق مناقشة ما يتولد عنه، لترى هل كان التوليد سليما أو فاسدا، أما إذا رفضت الدخول في الفرض منذ البداية، فقد انقطع بذلك كل وجه للمناقشة والجدل.
إن من حقك أن تشك في قضية معينة، ثم يزول شكك هذا بإرجاع القضية إلى السند الذي يؤيدها، فإن وجدته زال الشك بالحكم بالصدق على القضية، وإن لم تجده زال الشك أيضا بالحكم بالكذب عليها، وهذا السند نفسه إما نسبي أو مطلق، فهو نسبي إذا كان بدوره مستندا إلى سند وراءه، وهو مطلق إذا لم يكن وراءه سند، فهو مفروض الصدق بغير برهان، ومثل هذا السند المطلق هو المبدأ العقلي القبلي الذي تحاول الطريقة النقدية أن تلتمسه في الحكم الذي تختاره من كلام الناس لتحلله.
أعود فأقول مرة أخرى: إن المبدأ الأساسي أو الفرض الأولي لا يقوم عليه برهان، بل يكشف عنه الغطاء وكفى، وبكشف الغطاء عنه نضعه في مركز الرؤية فيتضح بعد أن كان ملتفا غامضا، وتوضيح المبادئ الأولية على هذا النحو، هو مهمة الفلسفة الذهنية، وهو تحليل كما ترى.
وها هنا يتضح الفرق بين الفلسفة النقدية من جهة، والفلسفة الاعتقادية أو «الدوجماطيقية» من جهة أخرى، فالفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي، يقرر مبادئه أحيانا على أنها أساسية لا يجوز عليها التحليل أو إقامة البرهان، مع أنها قد تكون مبادئ نسبية، أعني قد يكون وراءها سند تستند إليه، ويحتاج الأمر في توضيحه وإبرازه إلى تحليل، فالذي لا يقبل تحليلا ولا برهانا هو المبادئ المطلقة التي لا تستند إلى شيء وراءها، ولا نطمئن إلى أن ما أمامنا هو من هذا القبيل إلا إذا حاولنا التحليل فوجدنا أنه مستحيل لعدم وجود فرض سابق على المبدأ الذي نحلله، يمكننا أن نستند إليه في البرهنة على هذا المبدأ.
والفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي أحيانا أخرى تراه يحاول إقامة البرهان على ما يعتقد أنه مبدأ أولي، مثلا يفرض وجود الله كمبدأ أساسي لتفكيره، ثم يحاول البرهان على ذلك، مع أنه لكي يبرهن لا بد أن يرتد بما يريد البرهنة عليه إلى مبدأ أسبق أولية وآصل منطقيا، وفي هذا تناقض واضح؛ لأن اعترافك عن مبدأ معين بأنه أولي أصيل، هو وحده دال على أنه ليس ثمة ما هو أسبق منه مما يمكن أن نتخذه برهانا عليه؛ ولذلك فالطريقة النقدية في الفلسفة - دون الدوجماطيقية - هي وحدها التي تحررت من الوقوع في هذا الدور؛ لأنها لا تسعى إلى البرهنة على المبادئ الأولى، بل تكتفي بالبحث عنها واستكشافها وإبرازها لإدراكها في تجردها. الطريقة النقدية لا تقيم برهانا على شيء، بل تجعل مهمتها البحث عن المبادئ التي يسبق الناس إلى افتراضها ليستخدموها في براهينهم.
ولا غرابة بعد هذا أن نرى الفلسفة النقدية والفلسفة الاعتقادية الدوجماطيقية مختلفتين حتى في وجهة السير؛ فالفيلسوف الدوجماطيقي يبدأ بافتراض مبادئ معينة ، ثم يهبط منها إلى أحكامه التي يقولها عن هذا الكون وما فيه، كأنما مبادئه هذه هي المبادئ التي يستحيل أن يبدأ مفكر آخر بغيرها، تراه يبدأ مثلا - مثل ديكارت - بافتراض العقل ومشروعية أحكامه، ثم يرتب على ذلك ما يلزم عنه من نتائج. وأما الفيلسوف النقدي التحليلي فلا يفرض من عنده شيئا، إنما يقبل ما يصدره الناس من أحكام على الأشياء، ثم يتناولها بالتحليل، راجعا بها إلى مبادئها التي تستند إليها، ليس هو الذي يفرض على الناس مبادئهم هذه؛ أي إنه لا يدعي لنفسه دور المشرع الذي يقرر هذا وينفي ذاك، لكنه رجل يحلل للناس أقوالهم ليتبصروا ما يكمن وراءها من مبادئ لعلهم لا يكونون على وعي بها ما لم يبرزها لهم التحليل عارية مما حولها من تفصيلات الحياة التجريبية الجارية في حوادث الأيام. الفلسفة الدوجماطيقية تبدأ بفروض تفرضها تعسفا واعتباطا، وقد تقع في الخطأ الذي أسلفنا الإشارة إليه، وهو أن تحاول إقامة البرهان على تلك الفروض، ناسية أن مجرد التفكير في إقامة البرهان على مبدأ مفروض يسلبه أوليته ومشروعيته، وأما الفلسفة النقدية التحليلية فتبدأ من وقائع، والوقائع التي أقصدها هي أحكام الناس الواقعة فعلا والتي يصدرونها فعلا في أمور حياتهم.
الفلسفة النقدية - أي التحليلية - تقبل أحكام الناس كما هي في الواقع، لتفحصها وتحللها كي تقرر ماذا تتضمنه تلك الأحكام من مبادئ؟ فهي كمن يحفر بئرا ليرى أين يكون الماء، فهو لا «يبرهن» على الماء ولكنه يكشف عن وجوده؛ ولهذا ترى الفلسفة النقدية التحليلية لا تختص نفسها بقول دون قول من عبارات الناس، إنها «تحفر» أينما ضربت فأسها، لترى ماذا تستبطنه هذه العبارة أو تلك من مبادئ، فأية عبارة تصلح موضوعا لبحثها، العبارة التي يقولها عالم الطبيعة أو عالم الرياضة أو التي يقولها الناس في حياتهم اليومية، ولا تجعل الفلسفة النقدية مهمتها معرفة الأشياء الخارجية، فهي لا تتصدى أبدا لوصف شيء ولا للحكم على شيء، بل تترك ذلك لمن هم أولى بالكلام فيه، تترك وصف الأشياء الطبيعية - مثلا - لعلماء الطبيعة بطرقهم الاستقرائية التجريبية،
22
وهي لا تعترك مع هؤلاء العلماء فيما يقولون؛ لأنها لا تعطي لنفسها الحق في أن تقول شيئا، كلا ولا هي تدعي أنها قادرة على إثبات شيء عما هو فوق الطبيعة، فبحثها منصب على مبادئ المعرفة أيا كان نوعها، تلك المبادئ التي تنبث في أقوال الناس وأحكامهم، وتحتاج إلى التحليل الذي يخرجها؛ لهذا كله ترى الفلسفة النقدية لا تتحيز إلى حكم دون حكم، ولا تحصر نفسها في مجال من القول دون مجال، فهي - كما قلنا - في استهلال هذه الفقرة من فقرات بحثنا؛ تقبل المعرفة كما هي قائمة على أنها أمر واقع، لا لتقيم برهانا على صدقها، بل لتتعقبها بالتحليل راجعة إلى المبادئ الأولية التي تسند كل ما يترتب عليها، وليس وراءها هي من مبادئ تسندها، فهي مفروضة فرضا مطلقا، حتى إذا ما انكشفت لنا مجموعة المبادئ التي نراها سندا لمعارف الناس كما تتبدى في أقوالهم، نسقنا هذه المبادئ، وكان لنا أن نقول عن مجموعة نسقها: هذه هي نتيجة عملنا الفلسفي.
صفحه نامشخص