فأولا:
ليس ثمة ما يمنع العلماء من القيام لأنفسهم بهذه المهمة، بل كثيرا ما قاموا بها؛ غير أنهم إن فعلوا ذلك كانوا فلاسفة إلى جانب كونهم علماء؛ فقد كان «نيوتن» فيلسوفا في محاولته تحديد كلمة «كتلة»، وكان «أينشتاين» فيلسوفا في تحديده لمعنى «الآنية»، وكان «رسل» فيلسوفا في تحديده لمعنى «العدد»؛ ذلك لأن القضية العلمية هي التي تقول شيئا عن ظاهرة من ظواهر الطبيعة، أما إن دار بحثك لا عن ظواهر الطبيعة مباشرة، بل عن «كلمة» أو عن «عبارة»، فإنك بذلك تدخل في نطاق آخر غير نطاق العلوم بمعناها الدقيق، وهذا النطاق الآخر هو ما اخترنا له كلمة «فلسفة».
وثانيا:
إن العلماء في أغلب الأحيان لا يقومون بهذا التحديد لألفاظهم، فكثيرا جدا ما يستخدمون كلمات مثل «مكان» و«زمان» و«مادة» بغير الوقوف عندها ليحللوا معانيها؛ لأنهم قد لا يشعرون بحاجة إلى هذا التحليل فيما هم بصدده من استخراج للقوانين العلمية؛ وإذن فمن حسن الحظ أن رضيت جماعة من الناس لأنفسها أن تسير أمام عربة العلوم - أو إن شئت فقل إنها تسير وراءها - تتسقط الكلمات والعبارات التي يكون لها أهمية خاصة، فتجعلها موضوع بحثها، حتى إذا ما وضحت كلمة منها بالتحليل ردوها إلى العلم وأخرجوها من دائرتهم بصفة نهائية.
وذلك هو معنى قولهم إن الفلسفة كانت في بدء تاريخها تضم المعرفة الإنسانية كلها، ثم أخذت العلوم تنسلخ من حظيرتها علما بعد علم؛ لأن الألفاظ العلمية بدأت غامضة، فإذا كنا نسمي من يحاول توضيح لفظ فيلسوفا، إذن فكل محاولة في بداية تاريخ الفكر كانت فلسفة؛ ثم أخذت المصطلحات العلمية تتضح شيئا شيئا، وكلما وضح منها جانب أصبح علما قائما بذاته، ولا يزال الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع؛ ولذلك فهذه كلها ما تزال تعد «علوما فلسفية»، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد بمقدار درجة التحديد والوضوح اللذين قد بلغتهما ألفاظها.
ليس هناك - كما أسلفنا - غير الفلسفة ما يجعل تحديد المعاني شغله الشاغل، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا فكرة «الحركة»، وهي جميعا تفرض أن معاني هذه الألفاظ مفهومة، وإذا تعرض العلماء لها بشيء من التحديد، فإنما يفعلون ذلك بما يكفي لعلومهم فقط، أما إذا راح عالم يتعقب التحليل - لفكرة يستخدمها - حتى النهاية دون أن يكتفي بما يكفي بحثه العلمي، فإنه بذلك يكون قد ترك دائرة علمه ودخل في «فلسفة ذلك العلم».
19
4
إذا اتفقنا على أن الفلسفة تحليل للألفاظ والعبارات - ونحتفظ الآن بالمعنى المراد من كلمة «تحليل»؛ لأننا سنفيض فيه القول في فصول الكتاب التالية - وجب أن نفرق بين الفلسفة وبين الميتافيزيقا،
20
صفحه نامشخص