كما قد يقول زميله العالم إن «الذهب عنصر بسيط»، لكن زميله العالم حين يقول ذلك عن الذهب، فإنما يقوله وأنابيب المعامل تحت يديه، وهناك قطعة الذهب، فيظل يحاورها بتجاربه أمام المشاهدين، حتى لا يجد أحد بدا من التسليم بأن قطعة الذهب ستظل ذهبا، ولا تتحلل إلى عناصر أخرى، وبهذا يكون الذهب عنصرا بسيطا، وبهذا نفسه أيضا يتحدد معنى كلمتي «عنصر بسيط»، وهو ألا يكون الشيء قابلا للتحلل إلى أجزاء مختلفة الخصائص، فأي جزء منه كأي جزء آخر. أما صاحبنا الفيلسوف حين يقول القول نفسه عن «الروح»، فهو يستحل لنفسه ألا يتقيد بهذه الضوابط والمراجعات، فلا أنابيب هناك ولا معامل ولا «روح» بين أصابعه، إنه نطق بصوت زاعما أنه رمز يرمز إلى شيء بين الأشياء، ثم زعم أن ذلك الشيء المرموز له من صفاته أنه لا يتحلل إلى أجزاء مختلفة، بل مهما حللته وجدت أجزاءه متشابهة بعضها مع بعض. هذا جميل، ونريد الآن أن نعرف مدى صدق هذا الزعم، فأول ما نلتمسه في هذا السبيل، هو أن نمسك بذلك الشيء لنخبره، فلا نجده بين الأشياء؛ ماذا حلل فيلسوفنا - إذن - فوجده متشابه الأجزاء؟ أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «روح» ثم راح يزعم له الصفات؟ إن موضع الجدل الآن ليس هو أن يقال عن الروح بسيطة كالذهب أو مركبة كالبرونز، بل هو أن الشيء الذي يوصف بالبساطة أو يوصف بالتركيب، ليس كائنا بين الأشياء؛ فما الفرق بين أن تقول «إن الروح عنصر بسيط.» وأن تقول «إن السوح عنصر بسيط.» حين يكون لفظ «السوح» رمزا لغير مرموز له؟ أنا في كلتا الحالين صفر اليدين من الشيء المراد تحليله لمعرفة بساطته أو تركيبه. ولما كان الكلام المفهوم - كما قدمنا - هو وحده الكلام الذي يمكن التحقق من صدقه أو كذبه، كانت العبارة السابقة بغير معنى، وكان الزعم بأنها «مشكلة» فلسفية ناشئا من استخدام رمز بغير مدلول.
احذف كلمة «روح» وضع الرمز «س»، وقل «س عنصر بسيط»، ثم اشترط أن يكون معنى بساطة العنصر ألا يتحلل إلى أجزاء من غير نوع واحد، ثم حاول أن تحكم بالصدق أو بالكذب على عبارة «س عنصر بسيط»، تجد حكمك هذا مستحيلا ما لم تعرف أولا أي شيء بين الأشياء ترمز إليه «س»، فإن وضعنا مكان «س» كلمة «هواء» وقلنا: «الهواء عنصر بسيط»، كان الكلام كاذبا؛ لأن الهواء مركب من أكثر من عنصر واحد، وإن وضعنا مكان «س» كلمة «أوكسجين» وقلنا «الأوكسجين عنصر بسيط»؛ كان الكلام صادقا؛ لأن الأوكسجين لا يمكن تحليله إلى أجزاء تختلف بعضها عن بعض؛ وفي كلتا الحالتين السابقتين يكون الكلام مفهوما؛ لأننا وجدنا الشيء الموصوف بالبساطة كذبا في الحالة الأولى، وصدقا في الحالة الثانية. لكن ضع مكان «س» كلمة «سوح» وقل «السوح عنصر بسيط»، فهل تستطيع الحكم بصدق أو بكذب قبل أن تعرف ماذا عسى أن يكون هذا «السوح»؛ لتأخذ في تحليله ومعرفة بساطته أو تركيبه؟ وإن كان ذلك كذلك، فالأمر نفسه يقال عن عبارة «الروح عنصر بسيط»، هذا كلام فارغ من المعنى؛ لأن فيه رمزا لا يشير إلى مرموز له بين عالم الأشياء، فلا إشكال هناك فيما عدا مجاوزة المتكلم حدود الكلام المفهوم. يقول «ريودلف كارناب»
5
في ذلك ما يلي: «لو تقدم لك عالم بقضية لا يمكنك أن تستنبط منها ما عساك أن تدركه بالحس، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ افرض مثلا أنه زعم لك أن الأجسام ليست فقط تتأثر في مجال الجاذبية تبعا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف إلى ذلك زعما آخر، وهو أن للأجسام مجالا آخر تتأثر فيه أيضا، وهو مجال «اللاذبية»؛ فإذا سألته: ماذا عساي أن أشاهد في ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال «اللاذبي» تبعا للنظرية المزعومة؟ وأجاب بأنه ليس هناك أثر مما تمكن مشاهدته بالحواس، أو بعبارة أخرى إذا سألته هذا السؤال فاعترف بعجزه عن تقديم طريقة معلومة يمكننا بمقتضاها أن نعلم ما يمكن مشاهدته بالحس مما يطرأ على الأجسام في مجالها «اللاذبى»، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ لا شك أنك ستقف من كلامه موقفك من الكلام الذي يتخذ صورة الكلام وليس منه، إن كلامه فارغ لا يتحدث به عن شيء قط.» •••
وليس على الفيلسوف من بأس - مثلا ثانيا - في أن يسأل: «هل المعاني الكلية التي في الذهن يقابلها أو لا يقابلها مسميات في العالم الخارجي؟»
6
كما يسأل زميله الاقتصادي: هل أوراق النقد التي في السوق يقابلها أو لا يقابلها رصيد من الذهب في خزائن المصارف؟ لكن العالم الاقتصادي حين يسأل سؤاله، يعرف كيف تكون الوسيلة إلى جوابه؛ فهذه هي أوراق النقد نراها ونلمسها ونعلم أن عددها كذا وقيمتها المكتوبة عليها كيت، وهذا هو رصيد الذهب ووزنه كذا وقيمته كيت، وإذن فأوراق النقد تساوي رصيد الذهب في القيمة أو لا تساويه. وأما الفيلسوف فيسأل سؤاله وليس هنالك أمامه «معان كلية» يستطيع لها وزنا أو قياسا. إنه يحاول أن يوازن بين طرفين، مع أن أحد الطرفين لا وجود له ولا يمكن أن يكون له وجود في عالم الأشياء؛ لأن عالم الأشياء مؤلف كله من جزئيات، لكل جزئي منها مكانه وزمانه، وأما «المعنى الكلي» فليس هناك ، ليس هو على المقاعد ولا في الخزائن؛ فكيف أبحث عما يقابله وهو نفسه غير موجود؟ هب سائلا سألك: هل «للمعنى الكلي» صورة في المرآة التي في غرفتك؟ فعلام تبحث في صفحة مرآتك لكي تجيب بالإثبات أو بالنفي؟
إن فيلسوفنا حين يحاول الموازنة بين «المعاني الكلية» في ناحية و«الأشياء» في ناحية أخرى، ليعلم إن كانت للأولى مقابلات في الثانية، إنما يوهم نفسه بأنه «يوازن»، مع أن «الموازنة» مستحيلة؛ لأن كل كفة من كفتي الميزان لا بد لها من «شيء» يوضع عليها لتتم الموازنة، لكن فيلسوفنا رغم هذه الاستحالة، ما يزال يسأل سؤاله باحثا عن جواب، ثم لا يجد الجواب، فيقول إنها «مشكلة فلسفية» تتطلب التفكير والحل، والحقيقة هي ألا جواب لأنه لا سؤال، فلا يكفي أن ترص الكلمات رصا وتضع علامة الاستفهام في آخرها ليكون ثمة سؤال ينتظر الجواب، بل لا بد أن يكون هناك «الشيء» الذي هو موضع التساؤل، حتى يمكن الجواب. يقول «وتجنشتين»:
7 «الجواب الذي لا يمكن التعبير عنه، سؤاله كذلك لا يمكن التعبير عنه، فاللغز [الذي يستحيل الجواب عنه] ليس له وجود.» •••
وليس على الفيلسوف بأس في أن يقول - مثلا ثالثا - إن الشيء المادي لا يوجد إلا وهو مدرك،
صفحه نامشخص