52

ولا شك أنه كان يصغي إلى نبي مدين فيما يبسطه له من أمر عقيدته وعبادته، وأنه حكى له ما عرفه من العقائد المصرية وعبادات الهياكل والكهان، ووازن طويلا بين هذه العبادات وعبادة البادية كما تلقاها من أستاذه المديني، ومن هداية الوحي والإلهام.

فلما عاد إلى مصر ليخرج بقومه منها، كان هذا الخروج حيلة من لا حيلة له في البقاء، ودعاهم إليه باسم الله، فأطاعوه بعد لأي ومجاهدة، ولم يظهر من سلوكهم معه أنهم خفوا إلى الخروج من مصر طواعية بغير دعوة ملحة وإقناع عسير.

ولا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسم الدينية في مصر، وودوا لو أنهم يعودون إليها، أو يعيدونها منسوخة ممسوخة في الصحراء، وخطر لهم أن الإله الذي دعاهم موسى إليه إنما غرر بهم ليهلكهم ويعفي على آثارهم، واحتاجوا في كل خطوة إلى توكيد الوعد بالأمان ورغد العيش بعد أعوام التيه والانتظار.

فمهمة الرسالة الموسوية بين هذه العوارض الطبيعية لا تفهم إلا على خطة واحدة ترتسم أمامنا كما كانت؛ لأنها هكذا ينبغي أن تكون.

هجر موسى مصر بعد مقتل المصري وتهديد بني إسرائيل قبل غيرهم بالإبلاغ عنه، فضلا عما يخشاه من ملاحقة ولاة الأمور.

ولم يخطر له قبل تلك الهجرة أن يقنع قومه بالرحيل من الديار المصرية، فلما اختبر الصحراء وسمع ما سمع من هداية نبي مدين، ولمح بعينيه مطارح الرحلة والقرار بين مدين وسهوب سيناء وكنعان، وطاب له مقام البادية، فلم يستعظم المشقة في دعوة قومه إلى مثل هذا المقام، تدبر الأمر وصحح العزم على التحول بالقوم من مصر إلى أرض كنعان، وصرف الجهد الذي لا جهد بعده في إقناعهم باسم الإله الذي اختارهم للنجاة، ولم يزل يحذر عليهم ترك هذه الإله عند أيسر دعوة، وبغير إغراء على الترك في أكثر الأحيان.

وهذه أمثلة من تحذيراته تدل على الجهد الجهيد في تحويل قومه من العبادة التي كانوا عليها إلى العبادة التي دعاهم إليها.

فمن هذه التحذيرات في سفر التثنية يقول لهم: «لا تسأل عن آلهتهم قائلا: كيف عبد هؤلاء الأمم آلهتهم؟ فأنا أيضا أفعل هكذا. لا تعمل هكذا للرب إلهك؛ لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس مما يكرهه الرب.»

وحذرهم من الأنبياء: فإذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: «لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي.»

وحذرهم من الأخ والابن والزوج والصاحب أن يغويهم قائلا: «نذهب ونعبد آلهة أخرى ... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، بل قتلا تقتله.»

صفحه نامشخص