ستون لوزة
بدون إزعاج
محاولة
بلوتو
تشبه الوردة
مسيل للدموع
موسم المشمش
ماسة
كلية صناعية
قداسة منتصف النهار
صفحه نامشخص
القماش الأبيض
وجع في بطني
كالونيا خمس نجوم
البالون
الضحك
إيطاليا قريبة جدا
النوم
ظلان جديدان
السوق
دخل جدي ذكريات الدفتر الملون
صفحه نامشخص
ستون لوزة
بدون إزعاج
محاولة
بلوتو
تشبه الوردة
مسيل للدموع
موسم المشمش
ماسة
كلية صناعية
قداسة منتصف النهار
صفحه نامشخص
القماش الأبيض
وجع في بطني
كالونيا خمس نجوم
البالون
الضحك
إيطاليا قريبة جدا
النوم
ظلان جديدان
السوق
دخل جدي ذكريات الدفتر الملون
صفحه نامشخص
ماسة
ماسة
تأليف
هاني السالمي
ستون لوزة
صباح قاس مر على جدي، ركض مسرعا، حافيا، بملابس النوم، ولم يضع طاقيته البيضاء فوق رأسه؛ بل حمل فأسه الصغيرة، وركض. كان أسرع من خيل المعركة، يضبح من القلق والخوف.
كلما تقدم مترا في الركض، زاد عدد المنضمين إليه. أبي وعمي، يركضان أيضا خلفهم بأمتار بلباس النوم.
أنا وأولاد عمي نركض مثلهم، ولكن لا نعلم لماذا؟
كم كان جدي سريعا! نراه، ولكن لا نستطيع اللحاق به، أنت ترى الغيوم، ولكنك لا تلمسها، جدي مثل غيمة السماء، لا يمكن أن تلمسها، ولكنها تلمسك بالمطر، أو بمنظرها الجميل.
فجأة هرول عدة خطوات، ثم توقف، وسقط حين وصل إلى مزرعة الكرنب، التف حوله أبي وعمي، وأنا وأولاد عمي. رجال الشارع لم يقتربوا؛ بل اكتفوا بالتمتمة، وصفعوا الكف بالكف تحسرا على جدي.
صفحه نامشخص
وقف مرتكزا على فأسه، وأشار بيده إلى ناحية الشرق، وأخذ يصيح: «هذا الشيطان الذي سلب روح أرضي، بل امتص أرواحنا؛ إنه شيطان وقح أخذ مزرعتنا، وظل واقفا، كأنه يتحدانا، سأحطمه، بفأسي، بجسدي ...»
حاول أن يهجم على الشيطان، ولكن في هذه اللحظة حضنه أبي، فصار يتموج، ويصارع أبي ليفلت منه، ويهجم على الجدار الذي قسم مزرعتنا إلى نصفين.
أبي وعمي حملا جدي إلى أقرب ظل شجرة.
زرع جدي أشجار اللوز حول المزرعة، وأذكر مشهد أشجار اللوز، وهي تلف المزرعة كأنها راقصات باليه، ترقص لثمرة الكرنب. في مزرعتنا ستون شجرة، كلما احتفل جدي وجدتي بيوم زواجهما زرعا شجرة، وكلما أنجبا طفلا احتفلا بزراعة شجرة أخرى، وأغلب ما زرع على محيط مزرعتنا أشجار اللوز.
زرع جدي كل ثمار الأرض الموسمية، وكانت جدتي ملهمته في اختيار ما يزرع، تشير عليه بزراعة نوع الثمرة. في بادئ الأمر كان جدي يرفض، لأن في اعتقاده: «كيف أرد على امرأة؟»
ثم يوافق نهاية الأمر؛ لأن المشاورات تكون قبل مناسبة عيد الزواج بأيام، فيقبل جدي بالأمر، ويهدي المزرعة شجرة جديدة، شجرة لوز، بالإضافة إلى زراعة الثمرة التي اختارتها جدتي للموسم الجديد.
بدون إزعاج
جدتي تحب الهدوء، وأكثر عبارة كانت ترددها: «بدون إزعاج.»
يا الله، كم كانت تحب الهدوء! حبها للهدوء جعلها منظمة جدا، وكل شجرة كانت تعتني بها، تحولها إلى سيدة أنيقة فريدة، لها طراز خاص جدا. ثمار وشجيرات جدتي مميزة عن غيرها أيضا، وهي مثال للهدوء في البلدة.
هدوءها علمها كيف تتأمل، وتتنبأ ببعض الأشياء بحاستها السادسة. تشعر بقدوم الماء بالخراطيم قبل وصولها إلى المزرعة. في الصباح ترتدي ثيابا ثقيلة، رغم أن الجو مشمس، وحين يقول لها جدي: «الجو حار، هل أنت مجنونة تلبسين ثيابا ثقيلة؟»
صفحه نامشخص
تبتسم، وترد بهدوء: «البرد قادم يا عزيزي، أنا أشمه قبل أن يحضر، كعطر زهرات الأشجار.» وآنذاك يصمت جدي، ولا يدري بم يرد.
كان هدوءها، وتأملها يساعدانها في الانتصار على جدي. في ذاك اليوم أصبح الجو باردا جدا، وشعر جدي بقشعريرة شديدة.
ضحكت جدتي منه، وقالت: «ألم أقل لك إن البرد قادم؟» فيرد جدي: «غير معقول ما يحدث معك!»
جدتي هي الوحيدة في البلدة التي شعرت بموتها دون الآخرين؛ فقد وقفت أمام الشباك الحديدي في مؤخرة البيت قائلة: «أشعر بصوت مزعج قوي سيدمر مزرعتنا، الصوت له ذراع طويلة، وأشعر أني حينها سوف أموت، يا الله ما هذا الصوت الذي يصعب التعرف عليه؟!»
حدث ما تنبأت به، جاء الصوت المزعج، صوت آليات وجرافات كبيرة جدا وضخمة، زرعت جدارا كبيرا من الإسمنت طوله سبعة أمتار، قطع أشجار اللوز، وشطر مزرعتنا إلى نصفين.
ركضنا إلى غرفة جدتي، لنخبرها بما حدث. كانت تحتضر وتضع أصابعها في آذانها، وكانت تردد: «بدون إزعاج، بدون إزعاج، إلى الهدوء، إلى الهدوء ...» وماتت قبل أن ترى الجدار.
في ذلك الوقت أصر جدي أن يدفنها في المزرعة بعد الجدار، تحت أول شجرة لوز، أول هدية زواجهما. العائلة والجيران، تعجبوا مما سمعوا من جدي.
قال الرجال في البلدة: «هذا موت، كيف ندفنها هناك؟ سوف يموت من يقترب من الجهة الأخرى، هذا صعب، هذا جنون.»
اقتربت إحدى صديقات جدتي قائلة: «هناك طريق مختصر للدخول من بين فتحات في الجدار إلى الجزء الآخر من مزرعتكم.»
نهض الجميع من أماكنهم، ولم يناقش جدي المرأة، بل حمل جثمان جدتي، بمساعدة أولاده، ومشوا خلف المرأة، دخلوا من فتحة في الجدار بعرض مترين، وبارتفاع ثلاثة أمتار ليكون بها برج مراقبة للجنود. دخل جدي وأولاده وبعض الرجال بسرعة، كأنهم يهربون من سرب دبابير.
صفحه نامشخص
دفنت جدتي في حفرة سطحية تحت أول شجرة لوز. وقبل أن يغادروا المكان وقف جدي ينظر إلى الأشجار، ويتحسس أوراقها، ويمسح الغبار، وآثار الإسمنت والحجارة عنها، فأمسك أبي يده قائلا: «لا وقت للحنين، هناك صوت دبابة قادمة.»
رغبت جدتي أن يزرع الكرنب في المزرعة الموسم القادم، وكان جدي مترددا، ولكن حين ماتت جدتي زرع الكرنب، وما زال يزرعه إلى يومنا هذا.
محاولة
بعدما حملا جدي إلى ظل الشجرة، كان قفصه الصدري يرتفع، ويهبط بصورة غريبة، تعبا وغيظا مما حدث لمزرعتنا، وما أحدثه الجدار فيها.
قال أبي: «يا أبي خفنا عليك.»
فقال جدي: «لو تركتموني أحطم الجدار، بفأسي، برأسي، هو من قتل مزرعتنا، أمكم لم تمت إلا منه، حين شعرت أنه سوف يبعدها عن أول أشجارها التي زرعناها معا، وسوف تختفي عن نظرها مرضت، وماتت.»
صمت الجميع، وتعرق جدي بغزارة في مشهد أرعبني من فكرة الموت، الخسارة، القهر، الضعف.
التفتنا إلى الجدار في لحظة واحدة بغضب واشمئزاز، كأن الجدار صغر وبدأ يتلاشى. تعلمت آنذاك أنك عندما ترفض شيئا، أو تغضب عليه بحق، يبدأ بالتلاشي والاختفاء من داخلك، مهما كان عظيما ومخيفا في نظر الآخرين . الرفض والغضب أول درجات العقاب.
كل شيء يأتي خطوة خطوة، الصراخ أول الأشياء، المطر أول الشتاء، ولكن هذا الشيء الطويل الإسمنتي جاء دون سابق إنذار.
ظل جديد يستمتع بأرض المزرعة لا يفارقها، ظل ثقيل علينا، يركض ويلعب بين أشجارنا. نحن نكره هذا الظل الجديد القاتم، الذي يمتص معادن ومياه مزرعتنا، ويحبسها.
صفحه نامشخص
وقف جدي في ذاك الوقت، وصار يلوح في الهواء بيده، كأنه يقاتل الجدار، يحمله، يركله، يحطمه، ويبتسم، ويقول: «هل تشاهدين ذاك الزائر الرمادي الوقح؟ وهل تعرفين ذاك المجهول الذي ينقر بأصابعه النحيلة أبوابنا كلما هبط الظلام؟ هل ترين ذاك المدى الشاسع الذي يبتلعه من فضاء هوائنا؟ هذا الجدار سيأتي لنا بالخفافيش. انظري إلى ذاك الرمادي، هل تعرفين من يكون؟ إنه الحزن حين يفرض نفسه علينا! لا تنظري إلى عينيه، ولا تصغي إلى صوت ضعفك، وإلى أصوات الوهم من حولك.»
لم أسمع صوت جدي في هذه اللحظة، لم يقل شيئا، لم ينطق كلمة، لكني تعمدت الإصغاء إلى قلبه، وسمعت كل شيء.
خيل إلي وهو واقف أمامي، أنه الدون كيشوت، الذي استمر زمنا طويلا يحارب طواحين الهواء بعد أن اختار لنفسه هيئة فارس، ولم يتمكن من الانسجام مع واقعه، وذهب في مغامرات وهمية لمحاربة الشر.
لكن جدي لن يذهب بعيدا، وسيحارب معنا هذا النزيل ثقيل الدم.
سنحارب طواحين الهواء، عندما نقف أمامها، ونجعلها وهما، وستمضي، وستنمو في أعماقنا، وفي جلودنا أحلام رحيلها عنا، ولن نغفل عن رؤية الحقيقة حين تكسوها ألوان العتمة.
أيها الجدار! اليوم أخذت نصف مزرعتنا، وجدتي، لو غفلنا ستأخذ هويتنا وأحلامنا. سنصبر ونشهر سيوفنا لنحمي ذاك النقاء من الغربان التي تفترس ضوء النهار، وتلبس أقنعة الخداع.
بلوتو
جدتي كنز تحت الأرض، جدتي كل الثروات، لو نقصت مساحة الزراعة لزرعنا مساحات الذاكرة وسهول حبها.
طقم الأسنان السفلي، الخاتم الذهبي، كيس الحناء الكستنائي، المنديل المطرز بخيوط الحرير الزرقاء، علبة الكحل النحاسية، مشط العاج، بقايا العطر في علبة الألمنيوم، المرآة الصغيرة المكسرة الأطراف، العقد الفضي الرفيع، والصورة القديمة لجدتي. هذه الصورة التقطت لجدتي حين أصدرت لها بطاقة شخصية، لم يحدد عمر جدتي ولا جدي. كانا يقولان ولدنا بعد الثلج، وجدتي تقول ولدنا أيام الإنجليز في بلادنا. جدي يصر أنه كان يرى أباه، وهو جندي في عهد تركيا، ولكن حين أصدرت بطاقات الهوية، وضع لجدتي سنة الولادة ألف وتسع مائة وثلاثون.
كل هذه الأشياء، آخر ما تبقى منها، متروكة فوق كرسي قش فاخر. هذا الكرسي لم يعرف صانعيه أيضا، ويبدو أنه قديم جدا من ازدحام المسامير في أخشابه.
صفحه نامشخص
قبل أن يغادر جدي غرفته، يقف أمام أشيائها، كأنه عابد هندوسي يصلي.
قرر أن يزرع الموسم القادم القريب بعد شهر تقريبا، الكرنب الذي لم يزرعه أبدا خلال حياة جدتي. والسبب أنهما بينما كانا يبيعان الخضراوات في إحدى الأسواق، وقفت جدتي مع سيدة يهودية، وكانت تضحك معها، حينئذ غضب جدي.
قالت له جدتي: «هي يهودية من المغرب، وعاداتهم مثل عاداتنا في الطعام واللبس والضحك والحب، هؤلاء جيراننا بالقرب من مزرعتنا، والجار يصبح قريبا جدا في يوم من الأيام.»
لم يعجبه ما قالت، وفي نفس الوقت طلبت منه جدتي أن يزرع الكرنب، فرفض بشدة عقابا لجدتي، ولم يزرعه أبدا.
بعد وفاتها حرص أن يفعل كل شيء كانت تريده في حياتها، فقرر زراعة الكرنب.
الكل يقف الآن وسط ما تبقى من المزرعة، المساحة صغيرة، ولكن لا بأس في زيادة الحب في العائلة، وقرب بعضنا من بعض، وتحمل تعب الزراعة.
مساحة الأرض المتبقية مستديرة، ولونها بني خفيف، كوجه جدتي، وتربتها ناعمة وخشنة.
بدأنا أنا وأبي وعمي وأولاده نحرث المزرعة بالفئوس، ونجهز ممرات في التراب. وكلما انتهينا من حرث جزء، أضحى يشبه جديلة جدتي الكستنائية اللون، وكلما أنجزنا أكثر طرزنا تراب المزرعة كنقشات ثوبها.
عملنا، ضحكنا، مسحنا عرقنا. جدي وحده كان ينظر خلف الجدار، كأنه يرسل إلى جدتي رسالة في قبرها: «نحن سنزرع الكرنب كما أردت.»
كان ينكش التراب قبل أن يصل إلى الجدار بمتر، ويتوقف، ويرفع يديه للسماء، ويقول: «يا الله! اشتقت لباقي أرضي، ولها يا الله!»
صفحه نامشخص
تشبه الوردة
لا بد أن يسافر جدي عشرين كيلومترا لجلب شتلات الكرنب، والكل يظن أن عشرين كيلو مسافة بسيطة، ولماذا سيسافر؟ في بلادنا الصغيرة، البلدات قريب بعضها من بعض، وكل شيء حولك، ولكنك لا تضمن الرجوع في الوقت المحدد؛ فالحواجز منتشرة بين كل قرية وقرية، بين كل مدينة ومدينة، بين كل جسد وجسد، وبين كل حاجز وحاجز هناك حاجز.
المشكلة الخطيرة في الحواجز أنك مرتبط بمزاج الجندي على الحاجز، إذا كان مزاجه جيدا مع حبيبته شعرت بمرونة الحاجز، كأول قبلة في الحياة، كطعم الماء المثلج في يوم حار جدا، سهل الحركة، وأغلب الناس الذين يمرون على الحاجز يقولون: «والله إن الجنود اليوم أحسن ناس.»
بالمقابل تبكي مئات الناس على الحواجز إن كانت أصول الجندي عربية. فلو كان من بلاد المغرب، أو من العرب الذين بقوا في بلادهم، لكان يوم الحاجز أسود طويلا، يلعن الناس أنفسهم، ويندم الجميع على خروجهم من البيت في هذا اليوم.
الناس في العادة ينتظرون أوقاتا طويلة للحصول على شيء جيد، من مال، وسفر، أو عودة حبيبة، ولكننا ننتظر على الحواجز؛ لنعود إلى بيوتنا فقط.
علمتنا الحياة أن نكون ماسوشيين، نكرر الذهاب إلى الحواجز، ليس للمتعة، ولكن لنعذب بالانتظار.
هم جدي بالسفر لجلب الشتلات، ولكن وعكة أصابته، مما أجبر عمي وأبي على الذهاب بدلا عنه. فجأة وقعت أغراض جدتي عن الكرسي، مصدرة صوتا مزعجا في الغرفة.
حاول جدي منعهما من السفر، لأن رسالة من جدتي وصلت، حين تبعثرت، لكنه لم يستطع لسوء وضعه الصحي.
مر يومان ونحن ننتظرهما، جدي يجلس على الشباك مقابل الشارع الطويل، وأنا فوق شجرة اللوز، وأولاد عمي فوق سطح البيت، والرجال كل منهم يجلس أمام بيته، ويتحدث عن عودتهما.
نغير أماكن انتظارنا كل ساعة، أنا أمسك زهرة صفراء صغيرة، وأخلع بتلاتها ورقة ورقة، وأكرر، سيحضرون، أو لا. كنت أنسى النتيجة النهائية في آخر ورقة، هل يحضرون أم لا؟
صفحه نامشخص
جدي كان هادئا، يفترش المكان باتزان، ويمارس قلقه كما ينبغي له أن يكون من رجل كبير في نظرنا، كأنه يستطيع أن يحمل الأرض بكفه، جلس هادئا يراقب عن كثب تفتح تباشير اللقاء.
جاء رجل يسعى، يحمل بشارة، ويحمل شتلات الكرنب، فضحكنا، وحين تقدم بحماره على أطراف المزرعة، نادى جدي.
تقدم جدي بلطف وبطء، وقدماه تطرقان الأرض، هز رأسه مرحبا بالرجل، ولم يسأله أي سؤال عن عمي وأبي.
اكتفى بأن ينظر، ويفتش في زهرات الكرنب. أنزل الحمل عن الحمار بمساعدة الرجل الذي حاول أن يتكلم، فأشار إليه جدي بالسكوت، خاف الرجل وسكت، ولم ينطق بحرف واحد، سوى أن صرخ على حماره: «هيا، هيا، هيا.»
يا الله كم كان هذا الموقف مرعبا لنا! جلس جدي دون كلام، بعد أن غادر الرجل، وحاولنا أن نلومه على عدم سؤاله عن أبي وعمي، فأجابنا: «الغائب يعود، وإن لم يعد، كفانا أن نستأنس بذكراه.»
وبحركة غير مقصودة، تحلقنا حول شتلات الكرنب التي تضحك، ولكنا بدأنا بالبكاء من المجهول عن عمي وأبي.
القصة المزعجة تحتل تفكيرك، فقد يكونان معتقلين الآن من قبل جنود الحاجز، وربما فرا من جنود الحاجز إلى مكان آمن، والقصص المزعجة احتمالات نهاياتها قليلة حين تربطها بأمرين؛ أولهما: الهروب، وأكبرهما: الموت.
لكننا جميعا متفائلون حتى في الموت، ويكفي أن روحهما سوف تساعدنا في زراعة شتلات الكرنب، وتزيل الحصى والأوساخ من الأرض.
كنا ننتظر قرار جدي بالتعامل مع الشتلات لبدء الزراعة.
مسيل للدموع
صفحه نامشخص
أنا ماسة، سمراء اللون، ولكني جميلة، عمري سبع عشرة سنة، مرة أخرى سمراء، مميزة بلوني في الفصل، وحين كنت أرتدي المريلة الزرقاء، وأضع الطوق الأبيض على رأسي، وأحمل حقيبتي الحمراء، ترتفع القبعات لتحيتي.
حقيبتي الحمراء، اشتراها أبي من سوق الأدوات المستعملة، صنعت في إسرائيل، قوية جدا، زميلاتي في الفصل يغيرن حقائبهن كل عام دراسي، ولكن حقيبتي تظل صامدة في كل المواسم، لا يهمها فصل الصيف ولا الشتاء، بها عشرات الجيوب وما زلت أكتشف جيوبا جديدة، وأجدها مفيدة لإخفاء بعض الأسرار. من حظ عائلتي أنها حقيبة قوية، فلن يستطيعوا شراء حقيبة كل عام لسوء الحال. وحين أمسحها بقليل من الماء تعود جديدة، أحبها كثيرا، لأنها حمتني عدة مرات من ركلات الجنود، حين كانوا يركضون خلفنا وقت المظاهرات ضد الحواجز، وزاد حبي لها حين منعت عني الرصاص المطاطي في يوم ساخن، أمام مدرستنا.
نحن العائلة الوحيدة في البلدة، سمر البشرة، وهذا اللون له مليون قصة، كان جدي يتحدث عن أصول عائلتنا، حين يكون المساء مريحا دون مشاكل، والكل سعيد، فيصعد أخي سعد على أحد الكراسي في وسط البيت، وينشد أناشيد قد حفظها من كتاب اللغة العربية، ويسارع جدي بالقول: «نحن أحفاد عنترة بن شداد، كان أسمر مثلنا.»
وحين ينقص الدخل، والمزرعة لا تفي بوعدها من المنتجات؛ إذ كانت الثمار تصاب ببعض الأمراض أو الحشرات، ومعلومات عائلتنا بسيطة في المكافحة، يصبح المال والطعام قليلين، يقول جدي: «نحن من أصول أفريقية، وأفريقيا مشهورة بالصبر والجوع.»
كل مساء لنا أصل، ولنا قصة، من أين جئنا؟
لكن أجمل مساء ضحكنا فيه كثيرا، حين كان من المتوقع للمرشح في الانتخابات الأمريكية «باراك أوباما» الفوز برئاسة أمريكا، والكل معجب بشخصه، قال جدي: «هذا الرجل ابن خالتي الموجودة في الصومال.»
ضحكنا كثيرا، رغم أن جدتي كانت تصر في ذلك الوقت أنها تسمع أصواتا مزعجة تقترب من المزرعة.
لنا أقارب كثر، والأكثر قربا منهم يسكنون منطقة بئر السبع، فلم يهاجروا مع باقي العائلات، وبقوا هناك.
جاءوا لزيارتنا قبل أحداث انتفاضة الأقصى أكثر من مرة، وكنا نتجمع حولهم، ولكن أشكالهم تختلف عن أشكالنا باللباس والعطور والجوالات، حتى أحذيتهم مثل أحذية المشاهير، كانوا يتكلمون لغة مثل لغة الجنود، ويفهمون لغتنا أيضا.
لكن الذي يزعج جدي في زياراتهم، ويريدهم أن يغادروا بسرعة، أن بعضهم كانوا يعملون مع الجنود. وكلما رأينا جنديا أسود على أي حاجز، ظنناه أحد أقاربنا، فنسرع بالعودة إلى البيت، ولا نشارك زملاءنا في رجم الحجارة.
صفحه نامشخص
أنا البنت الوحيدة في المدرسة التي تجيد لعبة كرة السلة، ولا أعلم لماذا؟ كنت ماهرة، أقفز عاليا، وأضع الكرة في الشباك بسهولة. لعبت مرة واحدة في منتخب المدارس لفريق البنات، وكنت الوحيدة السمراء ، وتبارينا مع فريق آخر لمدينة أخرى، فلم نفز؛ لأن الفريق الآخر كان معه ثلاث لاعبات لهن نفس لوني.
إخوتي وأولاد عمي كانوا دائما يفوزون بألعاب القوى والجري لمسافات طويلة، وكنا في المدارس متميزين باللون والرياضة.
كنا كثيرا ما ندافع عن أبناء مدرستنا ضد أبناء المدرسة المجاورة أثناء العودة إلى البيت، فإذا بهم يفرون جميعا، ويقولون بصوت عال: «جاء السود، اهربوا.» فيهربون، وأضحك أنا وأولاد عمي وإخوتي.
ابن عمي مزيون كان رغم صغر سنه قائد فريق الدبكة والأغاني في المدرسة، وكان يحيي حفلات المدرسة، ويلوح، ويقفز، ويطير في الهواء، ويفعل حركات مضحكة وشائقة. والجميل في هذا الأمر، أن جدتي وجدي حضرا إحدى الحفلات المدرسية مع أولياء الأمور، وشاركا مزيون الدبكة والغناء، مما شجع ناظر المدرسة والمدرسين على مشاركة جدي الرقص. كان يوما حافلا بالضحك والحب، وجدتي غنت بعض الأغاني. وفجأة سقطت قنبلة غاز مسيل للدموع وسط الحفل، فصار الجميع يبكي، ويركض خوفا. جدي حمل مزيون وسعد على ظهره، وأنا أمسكت بيد جدتي، وركضنا إلى البيت. وصلنا قبل أن يهاجم الجنود المدرسة، ويعتقلوا ناظر المدرسة، ويشبعوه ضربا؛ لأنه سمح أن تغنى أغان فلسطينية في الحفل.
موسم المشمش
لا وقت أكثر حبا عندي من موسم المشمش؛ فشوارع الحارة تمتلئ بالبائعين المتجولين للمشمش، والكل يشتريه، ويهديه للآخر. المشهد يذكرني بأن الناس تشتري أقمارا صغيرة. إن أردت أن تعرف طعم القمر، فكل حبة مشمش فقط، وإن أردت أن تتذوق طعم نصف القمر فقط، فاشطر الحبة نصفين. لا أعلم لماذا أشبه المشمش بالأقمار!
في هذا الموسم لا يغريني الطعم، ومن أين يأتي المشمش بكميات كبيرة إلى الحي وإلى الحارات من حولنا؟ ولكن الذي أهتم له هو اللعب بنواة المشمش.
كنت أنا ومزيون وأطفال الحي حتى شبابنا، نجمع مئات من نوى المشمش، ونحشو بها جيوبنا. أتذكر هنا الهبلة، فأي شيء تحصل عليه من التسول، أو العطف تضعه في جيوبها، وفي مقدمة صدرها، وفي نهاية اليوم تبدو الهبلة كأنها كيس كبير منتفخ، ويبدو صدرها كأنه دكان بقالة صغيرة ، أي شيء يخطر ببالك تجده معها.
يأتي مزيون بملعقة، ويحفر حفرة صغيرة بحجم البرتقالة في أرض طينية متماسكة، ويشارك باللعبة غالبا ثلاثة أطفال، أو أربعة، حيث يضع كل واحد عشر نويات في الحفرة، وكل واحد يمسك بيده نواتين، ويقذفهما بعنف في الحفرة، فأي نواة تخرج من الحفرة تكون ربحا له. نظل ساعات تحت الشمس نلعب، ثم يتحول اللعب إلى العراك على بذور المشمش، بتهمة الغش في إلقاء النواتين في الحفرة. ونظل نتدافع، ويشد بعضنا ثياب بعض، حتى يتنازل أحدنا عن نواة المشمش للآخر. وفي نهاية اليوم نعود إلى البيت بأكياس كبيرة من نوى المشمش.
ليس هناك فائدة تذكر لما نجمعه من النوى، سوى الشعور بأننا قد ربحنا شيئا، فهي مجرد تسلية، نهايتها عراك.
صفحه نامشخص
الوحيد الخاسر، هو الولد الأبيض، ذو الخدود المنتفخة، فحين يبدأ العراك، يحاول أن يهرب. ولكن مزيون يلحق به، ويمسكه، ويضربه، فتحمر خدوده أكثر كأنها حبات طماطم طازجة.
لكن الغريب في هذا الولد، أنك تأخذ ما تشاء من ألعابه وخبزه أو مصروفه، فلا يغضب، ولكنه يغضب بشدة حين تتسخ ملابسه، ويصبح كثور هائج يضرب الكل، حتى أنا ومزيون نفر من المكان، كأنه مصارع أمريكي في الحلبة. •••
لا يقتصر هذا الموسم الغني على اللعب بنوى المشمش، لكن الكثير من الألعاب تنتشر في هذا الصيف.
لعبة البنانير «البلى الكروية البلورية». كل عشرة أطفال يتجمعون في حلبة المنافسة للعب، يرسمون مثلثا كبيرا «مور» حيث يضع كل واحد خمسة بنانير داخل المثلث الكبير، ثم نرسم خطا مستقيما على بعد مترين من المور، ويقذف كل واحد بنورا يسمى الصياد ناحية المثلث، وحين يرتطم الصياد بالحبات يخرجها من المثلث، فيحصدها ربحا له، ثم يكرر اللعب عشرات المرات، من قوانين اللعب الصعبة: عدم مغادرة اللاعب اللعبة، حتى يخسر كل ما لديه من بنانير.
البنانير شهية للمشاكل، حين ترى أكثر من خمسين بنورا داخل المثلث، وتبدأ رغبة السرقة عند الأطفال الذين لا يملكون البنانير.
كنت أراقب اللعب من بعيد، وحين أشعر أن الأطفال لهم الرغبة في امتلاك بعض منها، أعطيهم الإشارة لهم بالهجوم على المثلث، فتبدأ حرب ضروس كبيرة.
الأطفال البيض والأنيقون يبكون؛ لأنهم خسروا ما يملكون دون لعب، وثيابهم اتسخت من العراك.
ماسة
حين شرح أستاذ العلوم الفرق بين المعادن والعناصر الفيزيائية، علمت أنه لا فرق بين الكربون والماس إلا في تنظيم العناصر الداخلية، والضغط العالي المصحوب بالحرارة.
سرحت في كلام الأستاذ، فلو كنت سيئا وهشا مثل الكربون، ونظمت حياتك، وتعلمت الصبر والجلد لأصبحت ماسا، والكل يحترمك ويقدرك.
صفحه نامشخص
لولا موت جدتي، لأصبحت زوجة، وعندي أولاد وبيت، ورجل يحلق ذقنه يوما بعد يوم.
السمراوات في مثل عمري متهيئات للزواج، سبعة عشر عاما أجيد الدفاع عن صغار العائلة، أحمل فأسا، وأجر أكياس السماد من روث الحيوانات، أدحرج أسطوانة الخراطيم الكبيرة لأوزعها على الأرض، والمياه تكون أسرع من قنوات المياه، كأني أركب الأمواج العالية، وأنظف المزرعة من الحصى بعد الحرث، كما ينقى الرأس من القمل؛ حيث لا يجدي استخدام الفأس لإزالة الأعشاب، وبأصابعي السوداء أكون أسرع من الآلات الألمانية.
أبدع في تشكيل مجموعة من زهور الحقل العادية، البسيطة الرائحة والعطر، وآخذها إلى المدرسة، وأهديها للأستاذ، حين لا أنجز الواجب المدرسي.
لكن الزهور كلها لم تفلح في رفع معدلي الدراسي عن المتوسط. كنت أشتم وأضرب كثيرا في المدرسة في فصل الخريف. قلة الزهور تعني الكثير من الغضب في المدرسة.
أجيد ترتيب دفاتري وأسطرها، وأسطر كل كراسات من يدرس بالبيت، وأصلح الأحذية. في وقت البرد والمطر، كنت أنا الوحيدة التي تصعد سطح المنزل الهش لوضع النايلون الذي يمنع قطرات المطر من التسرب إلى البيت.
أقود حمار جدي، بمهارة عالية. وأذكر أن إحدى الجمعيات الريفية، نظمت مسابقة أجمل حمار، وأسرع حمار. خسرنا مسابقة أجمل حمار، لأن حمارنا يريد كل زينة الفنادق العالمية ليصبح لطيفا، ولكن كسبت وأولاد عمي مسابقة أسرع حمار؛ إذ كنت أنا أقوده، وقد وضعت على رأسي قبعة، وظهرت كولد، ولم يميزني أحد من لجنة التحكيم.
أنا غير قابلة للكسر، لا أعترف بالأمراض العرضية، الزكام والأنفلونزا والسعال، شيء عادي جدا في عائلتنا، ومشروب البابونج، والأعشاب الغريبة الأسماء هي العلاج فقط.
زارنا الطبيب مرة واحدة، حين كان ابن عمي الصغير يشكو من وجع في الصدر.
فلم تخفف الأعشاب من آلامه. ذهبنا جميعا إلى الطبيب على حمار جدي، كأننا سنذهب إلى مكان جديد. اكتشف الطبيب أنه يعاني من ثقب في القلب، ولم يعش ابن عمي كثيرا، مات وهو صغير جدا.
حين مات الصغير تحول لونه إلى الأبيض، وألبسه جدي قماشا أبيض، كم كان جميلا في موته! أخذه الرجال إلى مكان بعيد جدا، لم نعرفه، فلم نزر قبره أبدا.
صفحه نامشخص
كنت أمزح كثيرا مع كل زملائي في المدرسة، ومع الناظر خصوصا، وعرفت زميلاتي مرات كثيرة أني أقرأ الفنجان، وعندي سحر، وأفسر الأحلام.
كل يوم أسمع عشرات الأحلام من زميلاتي، يرغبن مني أن أفسر أحلامهن.
حين تقص إحدى زميلاتي علي الحلم، أقوم بحركات تشنجية في يدي ورأسي، كأن العالم الآخر يدخل في جسدي، فأرعب من يجلس أمامي، وأقول ما أقول من التفسير للحلم، ويصدقون ما أقول من الخرافات. ببساطة من يخاف، يصدق كل شيء. نصيبي بعد كل تفسير، نصف «سندويش» زميلتي.
تمر أيام رائعة، أتذوق فيها أربعة أو خمسة أنواع من «السندويتشات»، وحين أرغب في جمع مصروف زميلاتي، كنت أحضر بيضة وأفرغها من الصفار والبياض، وأضع داخلها خنفساء، ثم أعيد البيضة لهيئتها بلاصق شفاف، وأذهب للمدرسة، وأقوم بعمل دعاية كبيرة.
يوجد معي جني صغير، من يرد أن يراه فلا بد أن يدفع نصف شيكل.
زميلاتي والمدرسون والناظر، الكل يدفع نصف شيكل، كنت أسامح المدرسين والناظر، ولا آخذ منهم، عسى أن ينفعوني في إحدى المواد.
أذهب بهم إلى مكان معتم، وأخرج البيضة من جيبي، وأقول لهم: «الجني يسكن في البيضة، من عنده أمنية فليرددها في سره.»
وحين أضع البيضة على الأرض، تتدحرج بفعل حركة الخنفساء، فيدهش الجميع. منهم من يرتعب ويصرخ حين تقترب البيضة منه، وبعض زميلاتي يفقدن الوعي، والمدرسون يخافون أيضا، وأما الناظر فيبقى صامتا كتمثال من شمع.
بعد أن أجمع أنصاف الشواكل أخرج من الغرفة، ومن ثم ألقي البيضة والخنفساء في سلة المهملات. الجميل بعد هذا اليوم أن أخي وابن عمي ينتظراني على باب المدرسة، ويتقاسمان معي الشواكل، وأنا راضية؛ لأنهما كانا يشتريان الألعاب النارية التي ندعوها «القنابل»، ويفجرانها في الشوارع، وكنا نضحك كثيرا.
كلية صناعية
صفحه نامشخص
لم أدر أني سأصبح سارقة. في يوم مدرسي حار جدا، وقعت معلمتنا وسط الساحة، وانطلق الطلاب والمدرسون ناحيتها، وأسرع ناظر المدرسة لطلب سيارة الإسعاف.
حين دخلت سيارة الإسعاف بعد وقت طويل، نزل السائق والممرض، وحملا المعلمة إلى سيارة الإسعاف، وانطلق بوق السيارة في المدرسة. كل من عاين المشهد تأثر حزنا عليها، لكنها كانت تردد كلمات تشبه الدعاء، دعاء لم نسمعه من قبل في حياتنا، ولم نجربه.
وقع من المعلمة كتاب صغير جدا، وميدالية فضية. الميدالية حرف يشبه إشارة الزائد في الرياضيات، ألصق بها نحت لرجل عار. لم يلاحظ أحد أني سرقت ما وقع منها، ووضعته في جيبي.
حين غابت سيارة الإسعاف، سألت أحد المدرسين: «ماذا كانت تقول المعلمة قبل أن تدخل سيارة الإسعاف؟ كأنه دعاء لكنه غريب!»
رد المدرس: «إنها مسيحية، ولها أدعية خاصة غير أدعيتنا، ولكنها كلها يشبه بعضها بعضا، لأنها تقربنا إلى الله.» كان هذا رد مدرس مادة التربية الدينية في المدرسة.
قلت في نفسي: «لن أعطي ما سقط منها لأحد، إلا لها حين أقوم بزيارتها.»
اقتربت من غرفة الناظر، وقد استقبل مكالمة من بيت المعلمة، وكان يتحدث عن الوضع الصحي للمعلمة. كان أبوها يتكلم مع الناظر، وحين سمع الناظر كلمة «فشل كلوي» من الأب، كررها: «فشل كلوي، فشل كلوي! الشفاء من الله!»
أنا أيضا صرت أردد كلمة «فشل كلوي، فشل كلوي»، وفجأة ظهر أمامي مزيون، فقال بصوت عال: «ما بك كأنك مجنونة، لماذا ترددين، كلمة «فشل كلوي» بصوت مسموع؟» أجبته: «إنه مرض صعب، وشفاؤه نادر عندنا.»
كنت متأكدة أن مزيون لا بد أن يضحكني حين أكون حزينة. قال بصوت منخفض: «لو درست الكلية لما فشلت في الدراسة.»
فضحكت بصوت أعلى من صوت ناظر المدرسة ، وهربنا.
صفحه نامشخص
رغم أن مزيون أضحكني، ولكني كنت حزينة على معلمتي، وقررت أن أزورها في المستشفى.
أخذت بعض الزهور التي جمعتها من مزرعتنا، وزينتها بورق أحمر من كراسة الرسم، وكتبت عليها: «حمدا لله على السلامة.»
ورسمت صليبا كبيرا، وكنت خائفة أن يراني أحد حين كنت أرسم الصليب، ولا أعلم لماذا.
خرجت مسرعة من البيت، ولم أخبر أحدا إلى أين أذهب.
وصلت المستشفى الحكومي، وسألت كاتب الاستقبال: «أين أجد معلمتي؟»
أجابني: «في قسم الكلية الصناعية.»
صعدت درجات المشفى، ووصلت إلى غرفتها، فلم أجدها.
سألت أحد المرضى في المكان، وكان يجلس على كرسي، ويحمل عشرات الخراطيم الفضية، بعضها فيه دم، وبعضها فيه سائل شفاف، «أين هي؟»
أخبرني أنها خرجت من المستشفى، وستسافر إلى الأردن، لأن حالتها غير مستقرة، وهي الآن مع أبيها على الحاجز.
الحاجز ليس ببعيد عن المستشفى، والحاجز قريب من كل جزء عندنا، تجده حتى في أحلامك، ركضت مسرعة، وقلت في نفسي: «سوف ألحق بها على الحاجز.»
صفحه نامشخص
وصلت الحاجز، فرأيت مئات السيارات متوقفة في مساحة صغيرة، والناس حول سياراتهم، وكثير من الناس عند مقدمة الحاجز.
مشيت بين السيارات أفتش عنها، وأنظر داخل كل سيارة. الوجوه تتشابه، والمريض شبيه السليم، والسليم شبيه المريض، من مرارة الحاجز.
هناك سيارة أعرفها، إنها سيارة والد المعلمة، كانت تأتي بها أحيانا إلى المدرسة، لونها أزرق غامق، ويبدو عليها الترف.
تقدمت منها، ونظرت من خلال نافذتها مظللة وجهي بيدي، وجدت معلمتي في الكرسي الخلفي، معلق في يدها كيس محلول كبير، ووجهها أصفر، ويخرج خرطوم أبيض من خاصرتها، ملامحها كبرت كثيرا، وقد وقف والدها بالقرب من السيارة.
قلت: «حمدا لله على سلامتك.»
ردت بصوت منخفض مع دمع في عينها من الوجع: «شكرا لك لماذا جئت؟ هذا تعب عليك!» «لا، أنا سعيدة؛ لأني رأيتك قبل أن تسافري، وعلمت أنك ستسافرين إلى الأردن من المستشفى. عندي لك أمانة، حيث وقع منك كتاب صغير، وميدالية جميلة، جئت أعيدها إليك.»
ابتسمت المعلمة، وكأن الحياة تعود إليها. «هذه بشرى خير، أن تعود ميداليتي العزيزة، شكرا لك، أتمنى أن تكون البشرى بفتح الحاجز بسرعة، لأن الألم ينتشر في كل جسدي.» «لا تقلقي، الآن سوف يفتح، والبشرى سوف تعم المكان.»
فتحت باب السيارة وأزاحت لي مكانا للجلوس، جلست بجوارها، وظل والدها يراقب الحاجز، عله يفتح. «معلمتي، عندي سؤال لك، ماذا كنت تقولين حين ركبت سيارة الإسعاف؟» «كنت أقرأ آيات من الكتاب الذي بيدك!»
قداسة منتصف النهار
تحدثت كثيرا مع معلمتي، وفي منتصف إحدى الجمل نامت، والحاجز أيضا نائم، بعد لحظة وأنا أراقب حركة الخراطيم، والسائل الشفاف الذي يدخل إلى خاصرتها ويخرج باللون الوردي، غفوت معها.
صفحه نامشخص