محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
ژانرها
والواقع أن الديانة اليونانية القديمة التي نبع عنها الأدب التمثيلي عند اليونان، لم تكن تتعارض مع الإسلام فحسب، بل ومع الوثنية العربية القديمة؛ وذلك لأن اليوناني القديم لم يتصور آلهته كقوى منفصلة عن الإنسان ومن نوع يغايره، بل تصورها على شاكلته وخلع عليها كافة صفات البشر بما فيهم من ضعف وقوة، فزيس كبيرهم يحب ويكره ويشتهي ويختطف النساء بكافة الحيل، وينتقم من البشر، ويغار من عظمتهم، ويحطم كبرياءهم، وفيه كافة نقائص الإنسانية رغم ما يتمتع به من سطوة وجبروت؛ ولذلك جعله اليونان هو ورهط الآلهة كله خاضعين لقوة كونية أسمى من الآلهة نفسها، وهي القوة التي سموها ب «الأنانكية»؛ أي قوة «الجبر الكوني»، أو «الضرورة»، وما داموا قد جردوا آلهتهم من القداسة المعروفة عند الشرقيين، وأنزلوهم منزلة البشر، ووضعوا فوق الجميع «الضرورة» التي ترادف «القضاء والقدر»، فقد استطاعوا أن يتخذوا من صراع الإنسان، ضد هذا القضاء والقدر المادة الأساسية لمآسيهم المسرحية، وأدخلوا الآلهة وأنصاف الآلهة والملوك والأبطال كشخصيات في تلك المآسي، وكل هذه الأوضاع لا يمكن أن تتفق مع فلسفة الإسلام، الذي نادى بالوحدانية، وتصور الإله منفصلا عن عالمنا البشري، ومسيطرا على مصائره سيطرة تامة، ومزج إلى حد بعيد بين «الجبر الكوني» و«الإرادة الإلهية»، وجمع بينهما، فيما يسمى ب «القضاء والقدر»، وعلى نحو يتفاوت ضيقا واتساعا عند مختلف المفكرين العرب، الذين حمي الوطيس بينهم حول «الجبر والاختيار».
وهكذا يتضح إلى أي حد تتعارض الفلسفة الدينية عند اليونان مع الفلسفة الدينية في الإسلام، مما لم يكن يسمح بنقل الأدب التمثيلي اليوناني إلى البيئة الإسلامية.
هذا هو السبب الأساسي لعدم انتقال الأدب التمثيلي إلى الأدب العربي، وأما ما دون ذلك من أسباب، فإنها أمور ثانوية كان من الممكن التغلب عليها، لو لم يقم هذا العائق الروحي الخطير، فإذا كان عرب الجاهلية لم يكن من المتصور أن يقيموا المسارح، فإن خلفاء العباسيين وملوك الأندلس، قد كان من الميسور لهم أن يقيموها، بعد أن ازدهرت في أيامهم معالم الحضارة والترف بكافة أنواعها.
وهناك سبب آخر أسهب في الحديث عنه الأستاذ إدوار حنين، في مقالة بمجلة «المشرق» المشار إليها فيما سبق، وهو تحريم الإسلام لصنع التماثيل محاربة منه للوثنية الجاهلية، وهذه حجة واهية الصلة بالأدب التمثيلي، بالرغم مما بذله الباحث الفاضل من جهد، في إثبات أن خلق الشخصيات الروائية ضرب من صنع التماثيل المحرمة؛ وذلك لأنه سواء صح أو لم يصح أن الإسلام الصحيح يحرم صنع التماثيل على نحو مطلق مستمر أو لا يحرمه، فإن صنعها يختلف بالبداهة اختلافا تاما عن تصوير الشخصيات وتحريكها في المسرحية، ومن المعلوم أن الأصل الفلسفي العام لتصوير الشخصيات الروائية، بل وخلق كافة ألوان الأدب، إنما هو المحاكاة، كما قال أرسطو، لا الخلق من العدم، أي محاكاة الطبيعة الخارجة من يدي الإله، وقد أسهب أرسطو في إيضاح هذا الرأي في كتاب الشعر؛ ولذلك يصعب علينا أن نسلم بما ظنه الأستاذ حنين، من أن الإسلام قد رأى في التشخيص التمثيلي اليوناني تحديا لقدرة الله أو محاكاة لها.
وأيا ما يكون الأمر فإن العرب لم يعرفوا أدب اليونان التمثيلي، ولم ينقلوه، ولم يحاكوه؛ ولذلك ظل غريبا عنهم حتى كان العصر الحديث، وكان الاتصال بالغرب عن طريق البعثات الدينية في الشرق العربي، وعن طريق الحملة الفرنسية على مصر، فأخذ العرب يتتلمذون على الغربيين في هذا الفن الأدبي الأصيل، أحيانا بالنقل والتحوير، وأخيرا بالوضع والابتكار.
وبالرغم من أن العرب المحدثين قد أخذوا هذا الفن عن الغربيين، فإنهم لم يستطيعوا التخلص من تراثهم القديم، ومن خصائص عقليتهم المتوارثة وذوقهم الأدبي المتأصل، ومن المعلوم أن للرجل العربي، بل وللرجل الشرقي عامة، خصائص تميزه عن الرجل الغربي، فالعربي محمول بفطرته على التأمل الروحي والنظر الأخلاقي، كما أن غذاءه الروحي كان الشعر الغنائي، حتى ليخيل إلينا بمطالعة كتاب «الأغاني»، وهو موسوعة الأدب العربي الكبرى، أن شعرهم لم يكن غنائيا بخصائصه الفنية المعروفة فحسب، بل كان يلحن فعلا على ضروب الموسيقى ونغماتها، فلكل قصيدة أو مقطوعة شعرية لحن وضعه أحد الموسيقيين العرب، ولم يكن الأمر عندهم في أي عصر قاصرا على الإنشاد أو الإلقاء العادي، وجاءت عصور الاستعمار الحديث، فولدت عند العرب شعورا دافقا بالوطنية، وتعلقا بحب الأوطان والتفاني في سبيلها، والذود عن حياضها، ولم يكن بد من أن تجري هذه التيارات الأخلاقية والوطنية والغنائية في الأدب المسرحي العربي الناشئ، وبخاصة في المآسي الشعرية.
والظاهر أن المشرق العربي، وبخاصة لبنان، قد كان كعادته سباقا في مجال التجديد في الأدب العربي، فهناك عدد من اللبنانيين يمكن أن يعتبروا روادا في مجال الأدب المسرحي الحديث، وفي طليعتهم مارون نقاش، ولكن هذا التجديد، بل ونفر من هؤلاء المجددين، لم يلبثوا أن انتقلوا إلى مصر، كما انتقلت الصحافة؛ حيث المجال أوسع، والإمكانيات المادية والبشرية أكثر رحابة، وفي مصر ظهرت عدة محاولات في النقل والتحوير وأحيانا الابتكار، على نحو ما فعل محمد عثمان جلال، وغيره في نقل المسرحيات الفرنسية، وبخاصة كوميديات موليير، التي تماشي المزاج المصري المولع بالفكاهة والنكتة اللاذعة، كما وضعت بعض المسرحيات المستقاة من التاريخ، وتخللتها مقطوعات غنائية مجاراة للمزاج المصري أيضا، ومن الثابت أن هذين النوعين من الأدب المسرحي، أعني الكوميديا والمسرحية الغنائية، هما أقرب أنواع الأدب المسرحي إلى المزاج المصري، ولعل في نجاح مسرح سلامة حجازي وعكاشة، ثم مسرح الريحاني أكبر دليل على صحة هذا الرأي.
وأخيرا قيض الله للأدب العربي شاعرا كبيرا، ألم إلماما واسعا عميقا بالتراث العربي، فنسج على غراره أروع القصائد، ثم اتصل بالغرب حيث رحل لتلقي العلم في فرنسا، فشاهد مسارحها وحدثته نفسه الطموح، أن يدخل هذا الفن الرائع في آداب العرب، فوضع سنة 1893، وهو لا يزال يطلب العلم أولى مسرحياته الشعرية، وهي «علي بك الكبير»، وإن يكن قد عاد بعد ذلك بعشرات السنين فكتبها من جديد، وأعطاها وضعها النهائي، وهذا الشاعر هو أمير الشعر العربي الحديث أحمد شوقي بك.
التياران الشرقي والغربي في مسرح شوقي
رأينا فيما سبق كيف أن العرب القدماء لم يعرفوا المسرح ولا الأدب التمثيلي، مما يقطع بأن المحدثين منهم أخذوا بلا شك هذا الفن الأدبي عن الغرب، ومع ذلك فمن المؤكد أنهم لم يستطيعوا التخلص من اتجاهاتهم النفسية والمتوارثة، ولا من خصائص تراثهم الأدبي، عندما أخذوا يعالجون هذا الفن الجديد؛ بحيث يتحتم تمييز التيارين الشرقي والغربي، في مسرح الشاعر العربي الأصيل أحمد شوقي.
صفحه نامشخص