هكذا يصل مسرح العالم الباطن عند تشيكوف إلى أقصى درجات التعبير. فالكلمة التي لم تعد تحمل الفعل ولا تربط بين الشخصيات تحتضر وتموت، ووسائل التعبير تتركز في الصوت والصورة.
أين هي أوجه التعارض مع الدراما الأرسطية؟
ليس من العسير أن نتبين أن التركيز على عالم الباطن والتذكر، والعجز عن الفعل، واستحالة التواصل بين الشخصيات، والغربة والإحساس بالفراغ والسأم، كلها عناصر تتجاوز الدراما الأرسطية وتجردها من معناها. •••
إذا كان أبسن وتشيكوف من الكتاب الذين استطاعوا أن ينفذوا من إطار الدراما الأرسطية عن غير قصد أو وعي منهم، فإن هناك كاتبا متأخرا عنهما فعل ذلك عن قصد ووعي. ذلك هو الكاتب النمسوي روبرت موزيل (1882-1942م) الذي نلاحظ لديه نفس التباعد بين الشكل والمضمون، في مسرحيته المسماة «المتحمسون». لنقرأ معا ما يقوله في مذكراته: «إن مسرحي، وهو مسرح المتحمسين وستانسلافسكي، مسرح يوتوبي
12
ومضاد للتطور أو بمعزل عنه.» أما عنوان المسرحية فيدل على مضمونها، وأما الإشارة إلى اسم المخرج الروسي الكبير فلعلها تشير إلى النزعة الطبيعية التي تغلب على جو المشاهد فيها.
وموزيل كاتب يشغل القراء والنقاد في هذه الأيام. وقد اشتهر بروايته الكبرى «رجل بلا أوصاف» التي تستعرض انهيار الأفكار والمثل الأوروبية بطريقة موسوعية هائلة. وهو يعد من هذه الناحية خلفا لجيل كتاب الرواية الاجتماعية وإن كان الشكل المعروف لهذه الرواية قد تفجر لديه نتيجة لتوسعه في أسلوب البحث والمقال في فصولها المختلفة. وهو يفعل نفس الشيء في مسرحيته «المتحمسون» التي يمكن أن تعد من ناحية الشكل من مسرحيات المجتمع، وإن كان يفجره من ناحية الموضوع الذي سبق له أن عالجه بطريقة ملحمية في روايته القصيرة «إضرابات الفتى تورليس».
والمتحمسون - أو الفوضويون كما سماها في مبدأ الأمر - تتناول شخصيات تتحرك في مجال الحياة الاجتماعية، وإن كانت منشقة عليها من الناحية النفسية والوجدانية. وموزيل نفسه يصفها بأنها «ضباب من مادة روحية»، وأن موضوعها يحتاج أن يخلق خلقا؛ أي يحتاج إلى إعادة خلقه حتى يملأ إطار البنية الأرسطية للدراما. وهي تعالج مشكلة فقدان العاطفة ... إنها تبحث عن باعث على الفعل والحياة بعد أن ضاع الباعث عليها. وشخصياتها عاجزة عن التواصل الذي يتم بين إنسان وإنسان، عاجزة عن الفعل. لقد تحولت حياتها إلى الداخل. فهي تحيا في وهج الوهم والحماس والخيال المشبوب. وإذا جاز أن نتحدث عن بناء أرسطي في هذه المسرحية فلا بد من القول بأن المؤلف يتعسف طبيعة المضمون الذي يتناوله، أعني أنه لا يصور هذا المضمون في صورة لوحات درامية، بل يتفكر فيه ويتأمله. ومن الصعب أن نتائج أحداث المسرحية؛ إذ إنها لا تزيد عن كونها هيكلا خارجيا يعطي المؤلف فرصة التفكير والتأمل دون أن يبررها تبريرا كافيا. لنسمع البطل توماس الذي يقف في النهاية مع شقيقة روحه ريجينا ويلخص عالمه الباطن في هذه العبارة: «لا يا ريجينا. إن كان هناك أحد يحلم فأنا هو هذا الحالم، وأنت أيضا حالمة.»
إنهم أناس بلا عاطفة أو شعور. إنهم يسعون في الأرض، وينظرون ما يعمله الناس الذين يتوهمون أنهم يعيشون في هذا العالم كله كما يعيشون في بيوتهم! وهم يحملون في نفوسهم شيئا لا يشعر به هؤلاء الناس. إنه الغوص كل لحظة في أعماق كل شيء إلى غير قرار، دون أن يندثروا أو يهلكوا، إنها حالة الخلق.
ومن الخير أن نسجل هنا تلك اللوحة التي دونها «موزيل» في مذكراته عن شخصيات المتحمسين، ويمكن أن نلمح وصفا نفسيا للتطور الاجتماعي، كما يمكن - بطبيعة الحال - أن نجد فيها تعبيرا عن خصائص المسرح الملحمي والأرسطي على الترتيب:
صفحه نامشخص